ثقافة

العقيدة وتحرير الإنسان

لقد أسهمت العقيدة إسهاماً فعالاً في تحرير الاِنسان على محاور عدّة، منها:

أولاً: – حرَّرت الاِنسان من الاستبداد السياسي، فليس في الاِسلام استبداد إنسان بآخر، أو تسخير طبقة أو قومية لاُخرى (فقد كان الدين، على امتداد التأريخ الاِسلامي، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر. ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.

فلم تكن ثورة أبي ذر رحمه الله وثورة الحسين عليه السلام إلاّ منطلقاً لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الاِسلام ورغم كل الانحراف الذي تعرض له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الاِسلام الى مجاري الحياة والقضاء على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الانسان المسلم وكرامته).

كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة “تأليه البشر”، كعبادة الملوك والاَُسر الحاكمة، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الاُمم القديمة كالمصريين القدماء، وقد أبطل الاِسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر، سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللّون أو المال أو القوة، ومقياس التفاضل ينحصر في أُمور معنوية هي التقوى والفضيلة، قال تعالى: ﴿يأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللهِ أتقاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خبيرٌ﴾1 إنّ الاِسلام يحتل الاَسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون.

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبةٍ له: “أيُّها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ النّاس كلّهم أحرار..”.2

إلاّ أنّ الاِسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للاِنسان مطلقة، بحيث يُطلق العنان للاِنسان ليفعل ما يشاء، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح حتى لا تؤدي إلى فوضى.

ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الاِسلامية التي تربط الحرية الاِنسانية بالعبودية لله تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته، وبين القوانين الوضعية التي تُلقي بالاِنسان في تيهٍ لا يتفق مع قدرته ولا مع طبيعته.

ومن هنا لا بدَّ من توازن بين الحرية والعبودية، وليس هناك توازن في هذا السبيل يطلق قدرات الاِنسان، ويحافظ على طبيعته في آن واحد، إلاّ بما نجده في الاِسلام ، عبودية لله، وحرية من سائر العبوديات، فلا تكتمل حرية العبد إلاّ بعبوديته لله.. ولا تكتمل عبوديته لله إلاّ بتحرره من عبادة سواه، فهنا توازن واتّساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب الاِيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الاِسلام.3

وعلى ضوء ما تقدم، فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية، هو العبودية لله، لاَنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة، وليس في العبودية لله أي امتهان لكرامة الاِنسان، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته، فقد كان الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتشرف بكونه عبداً لله، ويحب أن يطلقوا عليه صفة “العبودية” ويرفض الغلوّ الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل، كما حصل لاَهل الكتاب على الرغم من التحذير الاِلهي لهم من الغلو في أشخاص رسلهم، قال تعالى: ﴿يأهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تقُولُوا على اللهِ إلاّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ اللهِ وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منهُ..﴾.4

إنّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز على صفة العبودية أحياناً.. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: “أنا عبدالله وأخو رسوله“5. وقال الاِمام الرضا عليه السلام: “بالعبودية لله أفتخر”6. على أن فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الاُمم الاُخرى، وتسرّبت إلى أتباع الاَديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم، فالمسيحية – على سبيل المثال – تدَّعي إلوهية المسيح، واليهودية تزعم أنّ عزيراً ابن الله !

ومن هنا تبرز حكمة وبُعد نظر الاِمام علي عليه السلام في تركيزه على صفة العبودية ووقوفه بالمرّصاد لكلِّ دعوات الغلوّ التي نسبته إلى الربوبية، جاء في الحديث: (أنّه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام فقالوا: السّلام عليك يا ربّنا ! فاستتابهم، فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة، وأوقد فيها ناراً وحفر حفيرة إلى جانبها اُخرى، وأفضى بينهما، فلما لم يتوبوا، ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الاُخرى حتّى ماتوا)7. وفي هذا الصدد قال عليه السلام: “هلك فيَّ رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ”.8

ثانياً: حرَّرت العقيدة الاِسلامية الاِنسان المسلم من شهوات نفسه. بعدما ربطت قلبه بالله والدار الآخرة، ولم تربطه بأهوائه ونزواته، لقد زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار العاجل الفاني على الآجل الباقي، والنَّفس – في توجهات آل البيت عليهم السلام – هي منطقة الخطر، لذلك تصدّرت أولى اهتماماتهم.

ومن هنا نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنين عليه السلام، فلم يترك مناسبة إلاّ واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرَّحى في عملية بناء الاِنسان.

لقد أخبرنا الذكر الحكيم: ﴿.. بأنَّ اللهَ لم يكُ مُغَيِّراً نِعمةً أنعَمَها على قومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم﴾ لذلك فإنَّ ما يلفت نظر الباحث أنّ الاِمام علياً عليه السلام – أيام حكومته العادلة – كان يوصي عماله على الاَقاليم وكبار قادته بالسيطرة على النفس، على الرغم من انتقائه الدَّقيق لهم، وكون أكثرهم من ذوي الفضائل العالية والسَّجايا الحميدة، فمن كتاب له عليه السلام للاَشتر لمّا ولاّه مصر: “هذا ما أمر به عبدُ الله عليّ أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الاَشتر… أمَرَهُ بتقوى الله، وإيثار طاعته… وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات… فإنّ النّفس أمّارة بالسوء، إلاّ ما رحم الله… فاملك هواك، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الاِنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية”.

ومن وصية له لشريح بن هانيء أحد قادته العسكريين، لمّا جعله على مقدّمة جيشه إلى الشام: “… واعلم أنَّك إنْ لم تردَعْ نفسك عن كثير ممَّا تُحبُّ، مخافة مكروه، سمت بك الاَهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً…”. ومن كتاب له عليه السلام كان قد وجّهه إلى معاوية، كشف له فيه عن سر تمرّده على القيادة الشرعية، المتمثل في انحرافاته النفسية، فقال له: “فإنَّ نفسك قد أولجتك شراً، وأقحمتك غيّاً، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك”.

فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة، وخاصة من الذين يتصدّون لدفّة القيادة بدون شرعية وجدارة. وكان أهل البيت عليهم السلام مع عصمتهم المعروفة يطلبون من الله تعالى العون على أنفسهم، تعليماً وتهذيباً لغيرهم، وممّا جاء من دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام: “… وأوهن قوّتنا عمّا يُسخطك علينا، ولا تخلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها، فإنها مختارة للباطل إلاّ ما وفّقت، أمّارة بالسوة إلاّ ما رحمت”. ونستنتج من كلِّ ذلك، أنّه لا يتم بناء الاِنسان إلاّ بالسيطرة على النفس.

ثالثاً: إنّ العقيدة الاِسلامية حرَّرت الاِنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها، ومن الخوف منها، يقول تعالى: ﴿ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ…﴾.9 لقد مرَّ الاِنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من حوله، فهو لا يعرف شيئاً من أسرارها وأسباب تقلّب أحوالها، فأخذ يقدّسها ويقدّم لها القرابين بسخاء، متصوراً أنّه سوف يأمن بذلك من ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمّرة وسيولها الجارفة وصواعقها المحرقة، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها، وفتحت الطريق أمامها واسعاً لاستثمار الطبيعة والتسالم معها، عندما رفعت ما كان من حجب كثيفة بين الاِنسان والطبيعة. 10


المصادر والمراجع

1- الحجرات 49: 13.
2- فروع الكافي 8: 69 – دار صعب ط3.
3- معالم شخصية المسلم، للدكتور يحيى فرغل: 79 – 80، منشورات المكتبة العصرية – طبعة عام 1399 ه-.
4- النساء 4: 171.
5- كنز العمال 13: ح 36410.
6- بحار الانوار 49: 129.
7- وسائل الشيعة 18: 552. دار احياء التراث العربي ط 5.
8- نهج البلاغة، لصبحي الصالح: 427.
9- فصلت 41: 37.
10- دور العقيدة في بناء الإنسان / 20_23.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى