ثقافة

حصر التقية في الشيعة مردود

نُسب إلى الشيعة الإمامية القولُ بالتقية والبداء ، وأطلقت في وجوههم صرخات الكفر والزندقة من أجلها. فهل هذه النسبة صحيحة؟ ثم ما معنى هذه الألفاظ، ومدلولاتها على التحقيق؟ وبالتالي، هل يستدعي القول بهذه المبادئ الكفر والخروج عن الإسلام؟ وإليك الجواب الصريح.

التقية :

أما التقية فقد قال بها الشيعة الإمامية، وبحثوها مطولاً في كتبهم الفقهية1 وفرعوا عليها مسائل كثيرة، واستدلوا على تشريعها وجوازها بالكتاب والسنة والعقل.

ومعنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد، لتدفع الضرر عن نفسك، أو مالك، و لتحتفظ بكرامتك، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي “متكتفاً”، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان : “هل الغاية تبرر الوسيلة؟” وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان : “هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟”. وبعنوان “المقاصد والوسائل” وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان : “تزاحم المهم والأهم” واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح.

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل : ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الوسيلة أو الواسطة؟

الجواب : إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون : “النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين”.

ثانياً : إن علماء الشيعة يأخذون – دائماً أو غالباً – ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية : ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية 28 من سورة آل عمران : “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة”. فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية 106 من سورة النحل : “من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان”.

قال المفسرون : إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب : كفر عمار. فقال النبي : كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له : لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية 28 من سورة غافر : “وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه”. فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية 195 من سورة البقرة : “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”.

ومن السنة استدلوا بحديث “لا ضرر ولا ضرار” وحديث ” رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق”. والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، “وما اضطروا إليه” صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم “باب ما رخص فيه من الكذب” : “إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب”.

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى “إلا أن تتقوا منهم تقاة” قال : روي عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان”.

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب “الأشباه والنظائر” ص 76 : “يجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه”.

وقال أبو بكر الرازي الجصاص – من أئمة الحنفية – في الجزء الثاني من كتاب “أحكام القرآن” ص 10 طبعة 1347هجري : قوله تعالى “إلا أن تتقوا منهم تقاة” يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه” قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى “إلا أن تتقوا منهم تقاة” يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى “من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان”. وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص 61 مطبعة مصطفى محمد “لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط : يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء”.

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة .


المصادر والمراجع

الشيعة في الميزان / العلامة محمد جواد مغنية / 180_183.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى