مقالات

لماذا التطبيع مرفوض عقلاً؟

من المعلوم أن العقلاء بما هم عقلاء لا يَصْدُرون ولا يُحجِمون إلا عن منفعة أو ضرر ترجع إلى المصالح والمفاسد النوعية من قبيل حفظ النظام الاجتماعي، ولا يتحركون وفق أوامر أحد إلا من العقل الصافي الذي يلتقون فيه، اذًا عندما نقول مصلحة أو مفسدة إنما نقصد هي التي يحكم بها العقل دون تأثّر أو انصياع لغير العقل.

من هذا المنطلق وحينما ننظر إلى اتفاق التطبيع بين النظام البحريني والصهيوني من منظار عقلي فإنه يمكننا إخضاعه لعدة مبادئ، ولكن نقتصر على اثنين منها لأجل الإختصار:

المبدأ الأول: تقديم الراجح على المرجوح

الأفعال التي يمكن أن تصدر من الإنسان على ثلاثة أقسام:

  • القسم الأول: فعل هو خير محض.
  • القسم الثاني: فعل هو شرٌّ محض.
  • القسم الثالث: فعل فيه خير وشر.

والغالب في أفعال الإنسان هو الأخير، مثلاً صنع السكّين يؤدي إلى خير وشر، خير لتقطيع الفاكهة وشرٌّ لإيذاء الآخر، والسيف خير للدفاع عن النفس والعِرض وشرٌّ لقتل البريء.

التطبيع مع الكيان الصهيوني – أي نفس هذا الفعل الصادر من النظام – لا ريب أنه ليس خيراً محضاً، لوجود أخطار محتفة به، وأيضاً ليس شرّاً محضاً، لأن فيه – على الأقل – ملئ جيوب المتسلطين من الدولارات، اذًا التطبيع من القسم الأخير.      

اذا قارنّا بين مكتسبات التطبيع وأضراره لن نتوقف أبداً في غلبة مفسدته على مصلحته، بل ما المصلحة القليلة فيه إلا من باب تزيين الباطل بواسطة الحق كما هو الأسلوب الشيطاني (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[1] وههنا نذكر بعض وجوه المقارنة:

الوجه الأول: تم الترويج للتطبيع تحت مسمى ’’اتفاق السلام‘‘ أي الغرض منه هو إحلال السلام، ولكن يتوجّه لهذا السلام سؤالان: أيُّ سلام هو ؟ وهل سيتحقق بالفعل ؟

أما جواب الأول فيُحتمل أن يقصدوا به السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو بين النظام البحريني والإسرائيلي[2]، أو كلّ ذلك.

أما الإحتمال الأول فباطل، لأن النظام ليس وكيلاً ولا ممثلاً عن الشعب الفلسطيني بأيّ وجهٍ من الوجوه حتى يتكلم باسمه، بل رفض الفلسطينيون شعباً وسلطةً التطبيع جملةً وتفصيلاً واعتبروه خيانة، وحتى ما أُعلن على لسان مسؤول إماراتي أن السلام غرضه توقيف إسرائيل عن احتلال مناطق فلسطينية أخرى كالضفة قد خرج نتنياهو في الإعلام وكذّبه.

والإحتمال الثاني باطل أيضاً، لأن النظام ليس في حالة حربٍ أو نزاعٍ مع الكيان الصهيوني حتى يطلب سلمًا أو مصالحة معه، وبهذا يبطل الإحتمال الثالث بالتبع.

وحقيقة الأمر في السلام المزعوم أنه مجرد خضوع وعبادة من سلسلة العبادات للسيد الأمريكي، فهذا ليس سلاماً بل استسلام.

وعليه يُعلم جواب التساؤل الثاني، إذ لا يوجد سلام أصلاً ولكنّ المستسلم للسيد الأمريكي لن يتوانى لحظة واحدة في التطبيع والإستسلام للسيد الإسرائيلي، ولاحقاً تنفيذ أوامره.

الوجه الثاني: تمّ الترويج أيضاً للتطبيع على أنه يحقق ازدهاراً اقتصادياً للبلدين، وفي الحقيقة سيكون ازدهاراً للطرفين أو هو أحادي ؟ هل يملك النظام شركات كبرى يمكنها دخول سوق الاقتصاد الإسرائيلي والإستثمار فيه ؟! أو هل يملك تقنيات وإمكانيات بناء مصانع في إسرائيل ؟! من الواضح أن النظام لا يملك شيئاً من هذا لا حالياً ولا على المستوى القريب، وجلُّ اعتماده الاقتصادي على براميلِ نفطٍ يبيعها، بينما في المقابل بدأت تلوح في الأفق الإستثمارات الإسرائيلية من البضائع والسلع، وأول الغيث قطرة.

فهذان وجهان للمصلحة نقتصر عليهما، وقد تبيّن بطلانهما، ونضيف على ذلك وجهين من وجوه الضرر من التطبيع:

الوجه الأول: التطبيع جعل النظام مصطفّاً جنباً لجنب مع الكيان الصهيوني جهاراً نهاراً، وهذا يعني الوقوف في وجه الجبهة الكاملة الرافضة للكيان الصهيوني خارجياً وداخلياً، أما خارجياً فتوجد جهة تعلن العداء للكيان الصهيوني وفي حربٍ باردة معه كإيران وسوريا ولبنان، وجهة وإن لم تعلن العداء مع الكيان الصهيوني إلا أنها تتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتعتبر القضية الفلسطينية مبدأية والصهاينة محتلين كالتيار السلفي وبعض العرب والمسلمين، وكلّ هذا يخلق خطراً جديّاً للنظام على المستوى الإقليمي، وأما داخلياً فجملة كبيرة من الشعب أعلن رفضه الصريح للتطبيع، وأطلق حملات إعلامية مناهضة للتطبيع، أما أتباع التيار السلفي والمقربون منه على تصريحهم بعدم منازعة النظام في اجتهاده إلا أنهم بينوا موقفهم من القضية الفلسطينية وأنها مبدأية، وهكذا لم يبقَ إلا النظام وأبواقه الإعلامية والمستأكلون قد أيدوا التطبيع.

الوجه الثاني: الظلم قبيح عند العقلاء ويذمّون فاعله ويستحق عليه العقاب، والتطبيع ظلم للفلسطينيين، لأنه يقوي شوكة الصهاينة سياسياً، ويجعل وجود المحتل على أرض فلسطين شرعياً، فيكون النظام شريكاً في سلب حق الفلسطينين بالعودة وطرد المحتل، وشريكاً في استبدال ذلك بمشروع تقسيم الدولتين، الذي يرفضه ويحاربه الفلسطينيون.    

 المبدأ الثاني: الاستفادة من التجارب

لا شك أن العقلاء قبل أن يقدموا على عملٍ ما فإنهم يتدبرون في عواقبه، لمعرفة نجاحه من فشله، وذلك من خلال قراءة التجارب السابقة والإستفادة منها لتحديد موقفهم إما بالفعل أو الترك. 

ومن هنا وبمقتضى التعقّل كان ينبغي للنظام أن ينظر في تجارب المطبّعين مع الكيان الصهيوني أو من عقدوا اتفاقية معه، وفي تاريخنا المعاصر تبرز أمامنا تجربتان لدولتين عربيتين مسلمتين، وهما مصر والأردن.

التجربة الأولى: مصر

معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979م التي توّجتْ إسرائيل بحق الوصاية على سيناء، بحيث لا يحق لمصر استجلاب قوات مسلحة أو عتاد عسكري ما لم تجيزها إسرائيل، بينما تمتعت البواخر الإسرائيلية بحرية العبور في قناة السويس، وأيضاً لم تستقر العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين فمراراً وتكراراً تمّ سحب التمثيل الدبلوماسي المصري من إسرائيل تزامناً مع أحداث المنطقة كاحتلال جنوب لبنان وانتفاضة الأقصى الثانية.

أما موقف الشعب المصري فقد كان رافضاً للتطبيع، بل الأرجح أن اغتيال السادات جاء نتيجة للتطبيع، وأيضاً بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ظهر سياسيون مصريون يدعون لإعادة النظر في اتفاقية السلام مع إسرائيل.   

التجربة الثانية: الأردن

اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل المسماة بـ”اتفاقية وادي عربة” في العام 1994م ليست بعيدة منّا، ونتائجها تمثُل أمام أنظارنا، فبعد توقيع الإتفاقية بين الطرفين وما تبعها من بنود لصياغة التعاون الاقتصادي بينهما لم يثمر منها إلا تحويل الأردن إلى سوق استهلاكي للبضائع الإسرائيلية ومدّ أنابيب الغاز الإسرائيلي إلى الأردن، بل لم يقتصر الأمر على السوق الأردني فكانت الأطماع الإسرائيلية تتجه نحو تصدير البضائع عبر الأردن إلى الدول العربية بعد إزالة الأكواد الإسرائيلية.

ومع أن إسرائيل تحقق مكاسب من الأردن إلا أنها قابلت ذلك بنقض بنود الإتفاقيات الدولية والخاصة ومنها وادي عربة، فلم تمضِ سنتان من الاتفاق إلا وقد تسلّل عملاء الموساد إلى الأردن بجوازات كندية لتعقّب القيادات الفلسطينية فيما عُرفت بمحاولة اغتيال خالد مشعل، فاعتقلت الأردن بعض المنفذين، والعجيب في الأمر أن اعتقال عملاء الموساد أدى لمفاوضات مع الإسرائيليين كانت نتيجتها اطلاق سراح الأسير البارز الشيخ أحمد ياسين، بينما الإتفاقية لم تؤدي لإنجاز من هذا القبيل، وبعدها نقض إسرائيل لمبادرة السلام العربية، مروراً بالإنتهاك الصارخ لحق الملك الأردني في الوصاية على الأماكن المقدسة في مدينة القدس الذي نصّ عليه الاتفاق، ولا ينتهي الأمر عند إعلان بنيامين نتنياهو في حملةٍ انتخابية عن ضمّ غور الأردن وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن، وغيرها الكثير.      

[1] الأنعام 43

[2] لم نتكلم هنا عن الشعب وما يراه من مصلحة ومفسدة من التطبيع، بل نتكلم بلحاظ المطبّعين أنفسهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى