ثقافة

الإسلام المحمدي

 الإسلام دين الفطرة لقد خلق الله تعالى الإنسان وركب فيه مادة وروحا، ولكل منهما خصائصه، وجاء التكريم الإلهي للإنسان من جهة (نفخة الروح) التي أودع الله تعالى فيها ميثاق الفطرة والعقل، يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(1).

 لقد أودع الله في أصل خلقة الإنسان فطرة الإيمان بالله وقيم الخير، وقد رضي الإنسان بلسان حاله وتكوينه واستعداده بهذه الربوبية، إلا أن تراكم الذنوب والسيئات حجب هذه الفطرة النقية وكدَّر من صفائها، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2) وقد جعل الله تعالى بإزاء الفطرة المودعة في الإنسان (الدين القويم) وهو الخريطة الواضحة التي من خلالها يسلك الإنسان طريق كماله وسعادته، بحيث لو استقام الإنسان على الدين حقق انسجاماً مع فطرته وبذلك حقق سعادته، وبانحرافه عن الدين ينعكس ذلك على فطرته وفي ذلك شقاؤه، لذا جعل الله تعالى قيمومة الدين على حياة الإنسان من أجل تقويم سلوك الإنسان على النهج الذي رسمه الله لعباده وهو النهج الذي يتطابق مع فطرة الإنسان.

 “.. إنَّ سرَّ توفيق (الدين) في تنمية مواهب الله تعالى عند الإنسان، وتوظيفها التوظيف الصحيح، هو التطابق بين الدين والفطرة وهو أمر طبيعي، فإن ديَّان الدين هو خالق الفطرة، وهو أعلم بما يصلح الإنسان ويفسده.

إنَّ المهندس الذي يضع تصميم جهاز دقيق ومعقد، وينتج هذا الجهاز، ويضعه تحت تصرف الناس يضع إلى جانب هذا التصميم عادة تعليمات دقيقة لاستخدام هذا الجهار، وصيانته وهو أمر طبيعي، وعلى نفس الملاك، فإن الله تعالى الذي خلق الإنسان وركبه مما شاء، هو وحده الذي يضع للإنسان المنهج الذي يسير عليه ويرسمه له.

فإذا التزم الإنسان بما رسم الله تعالى من نظام التشريع، تمت له أسباب النمو والكمال الذي أراده الله له”(3).

رسالة الإسلام الإسلام رسالة إلهية تمثل إرادة الله سبحانه ووحيه المنزل على رسله وأوليائه.. رسالة من الخالق المدبِّر إلى الإنسان العبد المملوك..كي يحقق بها كمال وجوده وخلقته، ومنهجاً يستوعب حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً في دينه ودنياه وآخرته.. ودعوة عقلٍ وعلمٍ وأدباً.. وأخلاقاً تشع محبةً ورحمة.

هو دين التوحيد الذي يخلّص الإنسان من عبودية وأي طاعة وتسليم لغير الله، والتسليم الكامل لحكمه وأمره. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}(4)، وإلا كيف لهذا الإنسان المخلوق الضعيف أن يدعي لحياته منهجاً وتشريعا،ً وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لا يدرك أبعاد وجوده وخلقته، لولا رسالات السماء التي فتح الله بها أفق الإنسان -بواسطة أنبيائه ورسله- لما أدرك حقيقة خلقته والمصير الذي يؤول إليه ونشأة هذه الحياة والسبيل إلى سعادته الأبدية فيها.. قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(5).

 ما هو الطريق لفهم الإسلام؟ من أجل فهم حقيقة الإسلام والتخلق بآدابه وتعاليمه وأحكامه، لا بد من الارتباط بمعدن الإسلام ومعينه الصافي (كتاب الله والسنة الشريفة والعترة الطاهرة) فهم معدن العلم ومهبط الوحي، وقد كانت وصاياهم تحثُّ على البحث وطلب العلم وتحقيق (المعرفة) الصحيحة، عبر إعمال العقل والتفكر في الموجودات وفي أنفسنا، والآيات التي توصل الإنسان إلى حقيقة الوجود، وعبر الرجوع إلى مصادر الإسلام وأهل العلم في ذلك.

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(6).

عن رسول الله(ص): «طلب العلم فريضة على كل مسلم.. به يُطاع الرب ويعبد، وبه تُوصل الأرحام، ويُعرف الحلال من الحرام، العلم إمام العمل والعمل تابعه، يلهم به السعداء، ويحرمه الأشقياء»(7)، وعنه أيضاً (ص): «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة»(8)، ولا يكفي هذا المستوى من المعرفة والإيمان العقلي.. بل يجب أن تصل المعرفة بالنفس إلى مرحلة الإذعان والتصديق بهذه الحقيقة والتسليم العملي بلوازم (الإيمان) القلبي باتباع الرسول الأكرم(ص) وأهل بيته في تعاليمهم وإرشاداتهم، وقد ورد ذمٌّ كثيرٌ لمن اقتصر إيمانه على اللسان، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(9).

وعن الإمام علي(ع): «أصلُ الإيمان حُسن التَّسليمِ لأمرِ اللّه»(10). بعد الطاعة والتسليم تتولد في داخل الإنسان قوة معنوية تحصن عن السيئات وتشعره بحقيقة ذاته وعلاقته بخالقه ومدبِّر أمره وذلك لما التزم بتعاليم الإسلام وأحكامه وآدابه وهي (التقوى).

يقول أمير المؤمنين(ع): «إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته»(11).

 من خلال التقوى تتفتح بصيرة الإنسان المؤمن على عظمة الخالق وحضوره وتشمله ألطاف الله وعنايته ليدخل في وسام (ولاية الله)، ويكون من أوليائه، قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}(12).

ولكي تكون مسيرة الإنسان المؤمن في حياته على خط الإسلام ومنهجه يحتاج دائماً أن يرفع لواء (الحق) والعدل في حياته ويعلم بأن مسيرة الحق تحتاج إلى (الصبر) والمجاهدة والتضحيات الكبيرة في سبيل الله، ليكون بحق مصداقا لهذه الآية قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(13).

نبي الإسلام نعمة الله الكبرى على عباده هي بعثة رسول الله(ص) ونعمة ولاية أهل بيته لما يمثلونه من تجسيدٍ حيٍ للرسالة الإلهية، فهم الأسوة العملية في إدراك المعاني العظيمة لهذا الدين وتعاليمه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(14).

 وأهل البيت(ع) هم المنبع الأصيل الذي تجلى بعد الفتنة الكبرى التي حلَّت على البشرية بعد رحيله(ص)، وحنيما أُبعدَ أهل بيته(ع) عن مسارهم الطبيعي بالنسبة للرسالة والأمة، وأُلبس الإسلام لباس الجاهلية دخلت الأمة في فتن ظلماء لم ينج منها إلا القلة من أصحاب علي(ع) فهو الامتداد الأصيل لرسالة محمد(ص).

 مسيرة أهل البيت(ع) طيلة حياتهم كانت من أجل بيان الإسلام الذي جاء به محمد(ص) بالأساليب والطرق المتنوعة وثورة الإمام الحسين(ع) في عمقها إحياء الإسلام المحمدي بعد أن كاد أن يندثر.

الإمام الخميني.. وفهم الإسلام الأصيل أدرك الإمام الخميني(قده) في مسيرته المباركة نحو تحكيم الإسلام في مناحي الحياة، أن هناك فهماً مغلوطاً للدين في ظل انحسار واقع المسلمين السياسي والعالمي، وبسبب التركة الثقيلة للاستكبار وهيمنته عبر أدواته الثقافية والسياسية والإعلامية، والتي تغذي واقع المسلمين بخططها ومشاريعها، جعل فهم الإسلام في ظل هذا الواقع -بحسب فهم الإمام(قده)- يتأرجح بين فكرٍ متحجر لا يرى دوراً للإسلام إلا في مساحاتٍ ضيقة ومحدودة وبين فكر التقاطي يأخذ فتاته من هنا وهناك، في ظل هذا الواقع طرح عنوان (الإسلام المحمدي الأصيل)، وهذا العنوان لم يكن شعاراً خطابياً بل كان مقصوداً، وله دلالات كبيرة في واقعنا المعاصر وتطبيقاته العملية في الواقع.

 الفهم الشمولي للإسلام “ومما لا شك فيه أن الاسلام العظيم هو دين التوحيد، ومحطم الشرك والكفر وعبادة الأوثان وعبادة الذات، دين الفطرة والتحرر من أغلال الطبيعة ووساوس شياطين الجن والإنس ما ظهر منها وما بطن، دين سياسة المدن والهادي إلى الجادّة المستقيمة اللاشرقية واللاغربية، دينٌ عبادتُه مقرونةٌ بالسياسة، وسياستُه عبادة”(15).

واجه الإمام(قده) الذهنية السائدة التي تفصل الدين عن السياسة، سواءً من خلال تبريرات شرعية أو من خلال اللهث وراء الأيدولوجيات الفارغة. قيادة علماء الدين من الأمور التي دفع بها الإمام(قده) هو دور علماء الدين السياسي والقيادي في ظل الواقع الذي يشهد حضور الإسلام في ساحة الحياة الاجتماعية: “يبيِّن الدين الإسلامي للإنسان -أنه في نفس الوقت الذي يدعوه فيه إلى عبادة الله ويبيِّن له كيفية هذه العبادة- طريقة العيش، وكيف ينبغي أن ينظِّم علاقاته مع سائر الناس، بل وحتى كيفية العلاقة بين المجتمع وسائر المجتمعات.

 فلا توجد أية حركة أو عمل فردي أو جماعي إلا وللإسلام فيه حكم؛ لذا فمن الطبيعي أن تعنى القيادة الدينية -قيادة علماء الدين- في جميع شؤون المجتمع؛ لأنَّ الإسلام مسؤول عن هداية المجتمع في جميع المجالات والأبعاد”(16).

 ” لو أمكنكم درك مفهوم الدين في ثقافتنا الإسلامية، لتأكد لكم بوضوح عدم وجود أي تناقض بين القيادة الدينية والسياسية، بل كما أن الكفاح السياسي هو جزء من الوظائف والواجبات الدينية، فإنَّ قيادة الكفاح السياسي، وتوجيهه هو جزء من وظائف ومسؤوليات القائد الديني”(17).

تربية النفس طالما يؤكد الإمام(قده) على الهوية الإيمانية وتربية النفس والالتزام بالتكليف الشرعي، كجزء مهم فهم الإسلام الأصيل: “إن الإنسان بفطرته طالب لكل كمال -بصورته المطلقة- وأنتم تعرفون جيدا أن الإنسان ينزع إلى أن يكون القوة المطلقة فلا يتعلق بأية قوة ناقصة محدودة؟ ولو أنه امتلك العالم وقيل له إن هناك عالما آخرا، لمال فطريا إلى إخضاع ذلك العالم أيضاً لسلطته، ومهما بلغ الإنسان من العلم وقيل له: إن هناك علوما أخرى، لمال -مدفوعا بفطرته- إلى تعلمها؛ إذن فلابد أن تكون هناك قوة مطلقة وعلم مطلق ليتعلق الإنسان بهما؛ وهذا هو “الله” تبارك وتعالى؛ الذي نتوجه إليه جميعا حتى لو كنا أنفسنا نجهل ذلك. الإنسان يريد الوصول إلى “الحق المطلق” ويفنى فيه.

 إن هذا الشوق إلى الحياة الخالدة المتأصل في فطرة كل إنسان هو -في الأساس- دليل وجود عالم الخلود المنزه عن الموت”(18).

” بنيّ: استفد من شبابك، وعد بذكره ومحبته إلى العيش وتمضية العمر بالفطرة، فذكر المحبوب لا يتنافى مع الفعالية السياسة والاجتماعية، أو السعي إلى خدمة شريعته وعباده، بل إنه سيعينك -وأنت تسلك الطريق إليه-، ولكن لتعلم بأن خدع النفس الأمارة بالسوء وشيطان النفس والمحيط كثيرة، فما أكثر ما يبتعد الإنسان عن الله باسم الله واسم الخدمة لخلق الله، ويساق نحو نفسه وآمالها! لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها في تشخيص طريق الأنانية عن طريق الله من جملة منازل السالكين، وفّقنا الله وإيّاكم لبلوغ ذلك”(19).

إستنهاض الشعوب من الأمور التي يصرُّ عليها الإمام(قده) هو رعاية المستضعفين والمحرومين واستنهاضهم: “من الأمور التي يلزم التذكير بها لقيام المسلمين والمستضعفين في العالم ضد الطامعين الدوليين والمستكبرين المسعورين، أن القوى الظالمة تنفذ أهدافها المشؤومة بشكل عام عن طريق التخويف والتهديد، أو بواسطة أبواقهم الإعلامية، أو بواسطة عملائهم المحليين الخونة، بينما لو وقفت الشعوب بوعي ووحدة أمامهم لما استطاعوا أن ينفذوها، والشواهد على ذلك كثيرة..”(20).

 الوحدة الإسلامية كان الإمام(قده) دائماً يؤكد على الوحدة الإسلامية وأنها السبيل لنصرة المسلمين وعزتهم والطريق للدولة الإسلامية العالمية: “رمز الانتصار هو وحدة الكلمة والانسجام، وقد بيَّن الله تعالى ذلك في جملة واحدة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، والاعتصام بحبل الله تبيان للتنسيق بين جميع المسلمين من أجل الإسلام وفي اتجاه الإسلام ولمصالح المسلمين، والابتعاد عن التفرقة والانفصال والفئوية التي هي أساس كل مصيبة وتخلف”(21).

 الإمام الخميني(قده) من خلال هذه الأسس حرَّك واقعَ المسلمين نحو الإسلام الأصيل الذي يحقق سعادتهم وعزتهم، لذا واقعنا المعاصر مدين لهذه المدرسة التي لا بد من قراءتها لنقترب من فهم الإسلام الذي جاء به نبينا محمد وأهل بيته الأطهار(صلوات الله عليهم).

المصادر والهوامش

  • (1) الأعراف: 172.
  • (2) سورة الروم آية 30.
  • (3) في رحاب القرآن، الفطرة، الشيخ الآصفي ج5 ص 225.
  • (4) سورة آل عمران آية 19.
  • (5) سورة آل عمران آية 85.
  • (6) سورة فصلت آية 53
  • (7) ميزان الحكمة ج 3، ري شهري، العلم ص 2065.
  • (8) ميزان الحكمة ج 1، ري شهري، الإيمان ص 191.
  • (9) سورة الحجرات آية 14
  • (10) ميزان الحكمة ج 4، ري شهري، الولاية ص9700.
  • (11) ميزان الحكمة ج 4، ري شهري، الولاية ص 3699.
  • (12) سورة الأنفال آية 34.
  • (13) سورة سورة الحجرات آية 15.
  • (14) سورة الأحزاب آية 21
  • (15) ن م.
  • (16) ن م.
  • (17) ن م.
  • (18) ن م.
  • (19) ن م.
  • (20) ن م.
  • (21) ن م.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى