ثقافة

نظر صاحب الحدائق في أصالة البراءة القسم الأول

من أهم الاختلافات الدائرة بين المجتهدين والمحدّثين هي مسألة الوظيفة الشرعية في حالة الشك في الحكم التكليفي الواقعي،  فذهب المجتهدون إلى أن الحكم الظاهري هو البراءة، سواء كانت الشبهة تحريمية أو وجوبية، وأما المحدّثون فذهبوا إلى الاحتياط فيما إذا كانت الشبهة تحريمية.

ونظـراً إلى أهمـية المسـألة ومـا يترتب عليها من نتائج سيّالة في أبواب الفقه جعل صاحب الحدائق لتحقيق هذه المسألة عناية خاصة، فتعرض إلى معاني الأصل، وأن الفقهاء يطلقونه على معاني خاصة، ثم تعرض إلى قسمي البراءة في الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية، ثم تعرض إلى تاريخ المسألة على الإجمال باستعراض الأقوال الرئيسية فيها، ثم عرض أدلة البراءة ومناقشتها، ثم إلى سرد أدلة الاحتياط وتقريرها(1)، وختم بحثه بعرض موارد منشأ الشبهة في التكليف، فهذه المسألة إلى زمانه لم تُطرح بالشكل الذي استوفاه، ولذا قال في مقدمة بحثه في المسألة: “ولنحقق المقام بتوفيق الملك العلام، وبركة أهل الذكر (عليهم السلام) بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام..الخ”(2).

 ويتضح لنا ذلك مع ملاحظة كتب الأصول التي وصلت إلينا من علمائنا المتقدمين إلى زمانه (رضي الله عنهم) فنجد أن أول من وسع في بحث البراءة إلى زمانه هو الفاضل التوني (قدّس سرّه) 1071هـ(3)، وبحث صاحب الحدائق وإن شابهه في بعضه لكنه أوسع منه بعد أن استدركه ببعض الأدلة والمناقشات وبعض المباحث والآراء المتعلقة بالبراءة، ويظهر من بحث صاحب الحدائق أنه قد اطّلع على بحث الفاضل التوني وتوسّع فيه، وإن اختلفا في النتائج.

وقد تُوسع في بحث البراءة بعد صاحب الحدائق، وكأنّ صاحب الحدائق قد ألقى بظلال بحثه على من تأخر عنه ليخط مبحثُ البراءة طريقَه في النضوج ويبلغ الذروة عند علماء الأصول في العصور المتأخرة.

 وذهاب صاحب الحدائق إلى اختيار القول بالاحتياط في موارد الشك في الحكم الواقعي في الشبهة التكليفية التحريمية لا يمنع من مساهمته الفعالة في نضوج مبحث البراءة الشرعية، وذلك لأن المناقشات التي يثيرها الطرف الآخر تفتح آفاقاً جديدة لها مساهمتها الفاعلة في بلورة الأبحاث ونضوجها.

 مبحث البراءة عند علمائنا المتقدمين (رضي الله عنهم) الاختلاف بين المحدّثين والأصوليين في أصالة البراءة والاحتياط برز بوضوح في القرن الحادي عشر، ولكي نرى جذور منشأ الاختلاف لا بد من التعرض إلى موقف علمائنا المتقدمين في المسألة، ومدى وضوح عنوان البراءة في الشبهات التحريمية.

مسألة أصالة البراءة وإن كانت تُعد من الأصول المهمة في مباحث الأصول العملية التي توسع علماؤنا في الآونة الأخيرة من البحث وتحرير النقاش فيها في كتب أصول الفقه إلا أن المتقدمين من علمائنا ليسوا كذلك فلم يتعرض الشيخ المفيد ولا السيد المرتضى ولا الشيخ الطوسي في كتبهم التي في الأصول إلى بحث بعنوان البراءة، لكن السيد المرتضى في الذريعة عقد باباً في مورد حكم العقل بإباحة الأشياء أو حضرها إذا لم يرد فيها دليل، واختار أن الأشياء على الإباحة حتى يثبت المنع من الشارع(4) وهو قول الشيخ الصدق(5)، والشيخ الطوسي عقد فصلاً فيهما وقوّى أن الأشياء على الوقف حتى يأتي البيان بأنه إمّا على الحظر أو الإباحة(6)، وأشار إلى أن الشيخ المفيد كان ينصر كون الأشياء على الوقف مع الشك في إباحتها أو حضرها(7)، وهو الظاهر من عبارة الشيخ المفيد حيث قال: “فأما القول في الحظر والإباحة: فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما يجوز ورود السمع فيها بإباحته، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره”(8).

 فإذا لم يحكم العقل بالإباحة ولا بالحظر في مورد يحتمل فيهما ورود الحظر أو الإباحة الشرعية فالقول عنده بالتوقف فإذا ثبت دليل شرعي على الإباحة في بعض هذه الموارد فيحكم فيها بالإباحة(9)؛ لأن الحكم الشرعي وارد على الحكم العقلي، وقال الشيخ المفيد في مورد آخر: “ولسنا نعلم للعقلاء حالاً قبل الشرع، فنتكلم عليها، فإن كنّا لو قدرناها لوجب الوقف عندنا في الحظر والإباحة، لما لا تدل العقول على حسنه وقبحه من الأشياء”(10).

 لكن في تصحيح الاعتقادات أشار إلى أن القول بالتوقف يصح قبل استقرار الشرائع أما بعد استقرارها فالأصل الإباحة مع عدم الدليل على الحظر، قال: “فأما بعد استقرار الشرائع، فالحكم أن كلَّ شيء لا نص في حظره فإنه على الإطلاق، لأن الشرائع ثبّتت الحدود وميّزت المحظور على حظره، فوجب أن يكون ما عداه بخلاف حكمه”(11).

 وهذه المسألة بهذه العناوين أي أن الأشياء المشكوك فيها هل هي على الحظر أو الإباحة أو على الوقف؟ له جذور من علماء العامّة، فمنهم من قال أنها على الوقف وهو قول أبي بكر الصيرفي330هـ.

 وأبي علي الطبري350هـ.

وهو مذهب الأشعري، ومنهم من قال هي على الإباحة وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق المروزي340هـ.

وأبي حامد المروذي362هـ.

 وأبي الحسن التميمي306هـ.

وأبي الفرج الشيرازي المقدسي406هـ.

 والحنفية والظاهرية وابن سريج347هـ.

واختاره القاضي أبو يعلى الحنبلي 458هـ.

 في مقدمة المجرد وهو قول المعتزلة البصريين، ومنهم من قال هي على الحظر وهو قول أبي علي بن أبي هريرة الشافعي 345هـ. وهو قول المعتزلة البغداديين(12).

 واستمر البحث فيما شُك في إباحته على هذا المنوال إلى زمن المحقق الحلي(13)، وهذا المبحث يتناسب مع عنوان أصالة الإباحة أو الحظر أو التوقف لا أصالة البراءة أو الاحتياط، وقد فرّق بعضهم بين جهة البحثين وإن اتحدا في الموارد إذ أن موارد الحكم بالإباحة أو الحظر أو التوقف لا تتعدى موارد الشبهة التحريمية(14).

 فكتب الأصول للمتقدمين لم تتعرض لعنوان أصالة البراءة وبحثها، وكتب المتأخرين لم تتعرض له إلا استطراداً ضمن بعض المواضيع(15) ولم يبحث مستقلاً وباستعراض الأدلة الشرعية إلى زمن الفاضل التوني1071هـ، فبحثها تحت عنوان أصالة النفي وعرض جملة من الأدلة الشرعية عليها وبعض التفاصيل فيها(16)، وإلى أن جاء الوحيد البهبهاني1206هـ، فبحثها تحت عنوان البراءة وأوضح معالمها وأبرزها بحليتها التي استنار بها العلماء في الآونة الأخيرة(17).

 نعم نرى علمائنا المتقدمين في بعض الكتب الفقهية(18) ذكروا عنوان أصالة براءة الذمة في تطبيقهم لهذا الأصل على موارد الشبهة الوجوبية، دون أن يتطرقوا إلى ماهيّة أصالة براءة الذمة ودليلها.

 وإجرائهم لهذا الأصل بعنوان البراءة على خصوص الوجوب المشكوك أو لنفي الجزئية أو الشرطية أو السببية في الواجبات إذا لم تثبت -وهي موارد كثيرة جداً- يظهر منه عدم شمول هذه الأصالة بعنوان البراءة للشبهة التحريمية عندهم؛ إذ لم أجدهم أجروها على موارد الشبهة التحريمية.

ولربما يُقال أن نفس عنوان أصالة براءة الذمة يُستشعر منه خصوصية الشبهة الوجوبية، بدعوى أن تعلق الشيء بالذمة وانشغال الذمة به يعني أن على المكلف الإتيان وإيجاد ما تعلقت ذمته به، وهو ينصرف إلى الأفعال الوجودية وليست هي إلا الواجبات والأجزاء والشرائط المتعلقة بها، وأمّا التكليف الإلزامي الأعمّ من الواجبات والمحرمات الذي يكون في عهدة المكلف وإن كان انشغال ذمة المكلف به يصدق حقيقة بانشغالها بفعل الواجبات وتروك المحرمات، غير أن إطلاق انشغال الذمة بشيء ينصرف في الذهن العرفي إلى تعلق حق بذمة المكلف واجب يجب عليه القيام به وأداءه، فمن هذا الباب اصطلح القدماء براءة الذمة في خصوص الواجبات.

ومن أمثلة تمسك السيد المرتضى بأصالة براءة الذمة من الوجوب المشكوك تمسكه بها لنفي وجوب قضاء الصوم المندوب إذا شرع فيه وأفطر، ولنفي وجوب الحج بمجرد القدرة دون تحقق الاستطاعة المصطلحة، ولنفي وجوب الزكاة في ما تنبت الأرض ما عدى الغلات الأربع، ولنفيها في الذهب والفضة من غير الدراهم والدنانير المسكوكتين، ولنفيها في ما يقع من الإبل بين نصاب إلى النصاب الآخر، ولنفي وجوب ضم السخال المتولدة إلى الأمهات في حساب الحول، ولنفي انعقاد اليمين بالطلاق أو الظهار والعتق والصدقة، ولنفي انعقاد النذر بغير صيغته الخاصة(19)، ولم يتمسك بها لنفي الحرمة في الشبهة التحريمية.

وأما الشيخ الطوسي فإن تمسكه بأصالة براءة الذمة لنفي الوجوب المشكوك أو الجزئية أو الشرطية أو السببية المشكوك فيها لا يكاد يُحصى في كتابه الخلاف والمبسوط(20)، وكذا تمسك بها القاضي ابن البراج(21)، والسيد ابن زهرة الحلبي(22)، وابن إدريس الحلي(23).

وربما يرجع هذا الأصل إلى أحد أقسام الاستصحاب وسنتطرق إليه في باب مستقل بالاستصحاب، وأشار المحقق الحلي إلى أن استصحاب حال العقل من أقسام الاستصحاب هو البراءة الأصلية، ومثّل له بنفي وجوب صلاة الوتر وعلله بأصل براءة العهدة، وجعل منه موارد دوران الأمر بين الواجب الأقل والأكثر، فيقتصر على الأقل ببركة هذا الأصل، ووضّح أن موارد القول بالإباحة مع عدم الدليل على الحرمة والحظر ليست من هذا القسم، بل جعله لقسم آخر من أقسام الاستصحاب(24)، وأفاد الشهيد الأول أن أصالة البراءة عند عدم الدليل تُسمى باستصحاب حال العقل(25)، وصاحب الحدائق قال أن استصحاب نفي الحكم هو المعبر عنه بالبراءة الأصلية(26).

 ويحتمل أن من وجوه اعتماد المتقدمين على هذا الأصل في الشبهة الوجوبية ما ذكره صاحب الحدائق في خصوص الشبهة الوجوبية من أن التكليف بالوجوب مع عدم العلم بالوجوب يلزم منه تكليف ما لا يطاق(27)، وقد تعرض لهذه القاعدة السيد المرتضى، قال (قدّس سرّه) في مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة: “والذي يدل -مع ذلك- على صحة ما ذكرناه أن تعذر العلم بالواجب أو بسببه يقتضي قبح التكليف، ويجري مجرى تكليف ما لا يطاق، ولا فرق عند العقلاء في القبح بين تكليف من لا يقدر، ومن لا يتمكن من العلم”(28).

فقوله: فتعلق العلم بالواجب في قوله “تعذر العلم بالواجب” هو نفس ما تعلق به العلم في قوله: “لا يتمكن من العلم”، أي لا يتمكن من العلم بالواجب، ولمّح السيد لهذه القاعدة في موارد أخرى في طيات كلامه ومناقشاته مع المخالفين(29).

وللشيخ الطوسي عبارة تشابه عبارة السيد في المسألة المتقدمة(30)، وقال الشيخ في بحث الأمر يقتضي الفور: “وان كان يجوز له تأخيره إلى غاية كان ينبغي أن تكون تلك الغاية معلومة وكانت تكون مثل الأوامر الموقتة، ومتى لم يعلم ذلك كان مكلفاً لإيقاع الفعل في وقت لا طريق له إلى معرفته وذلك تكليف بما لا يطاق”(31).

 وعدم بيان القيد الزماني للتكليف بالواجب يلازم تعذر العلم بالقيد الزماني للواجب، فجعل التكليف بفعل بالمقيد مع عدم تعذر العلم بالقيد من التكليف بما لا يطاق، ولا شك بأن هذا الجهل من موارد الشبهة الوجوبية.

وقال بهذه القاعدة بعض العامة المتقدمين ممن يمنع تكليف ما لا يطاق، قال الخطيب البغدادي: “ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه لا يمكن امتثال الأمر من غير بيان”(32).

 فتخصيصه عدم إمكان الامتثال مع عدم البيان بامتثال الأمر يُفهم منه تخصيص القاعدة في موارد الشبهة الوجوبية.

 وأياً كان الوجه فإن المذكور من البراءة عند المتقدمين إنما هو عنوانها عند تطبيقاتهم لها في الكتب الفقهية وفي موارد الشبهة الوجوبية، دون أن تتعرض لها كتبهم الأصولية، وكأن هذا الأصل عندهم في غاية من الوضوح بحيث لا يحتاج فيه للبحث المستقل.

 وإجراء المتقدمين عنوان البراءة في خصوص الشبهة الوجوبية لا يعني أنهم يقولون بالاحتياط في الشبهة التحريمية، فقد يقولون بالإباحة لكن لا بعنوان البراءة، كما تقدم اختلافهم في التوقف والحضر والإباحة، والشبهة الوجوبية وإن كانت خارجة عن محل البحث إذ لا خلاف فيها بين الأصوليين والأخباريين في عدم لزوم الاحتياط في مواردها غير أنه إذا عرفنا أن المتقدمين لم يحطوا رحال عنوان البراءة لديهم إلا في موارد الشبهة الوجوبية فهذا قد يساعد في كشف بعض وجوه ملابسات إصرار المحدثين بحصر البراءة بالشبهة الوجوبية.

 أدلة البراءة ومناقشتها تعرّض صاحب الحدائق إلى أدلة البراءة والنظر فيها ومناقشتها، ويبدو أنه تعرض لكل ما أدركه من الاستدلالات الشرعية على البراءة، وهي عمدة الأدلة على البراءة وقام بمناقشتها، وسنستعرض لهذه الأدلة وتقريب الاستدلال بها ثم نعرّج على مناقشاته لها بالطريقة المناسبة مع نظم هذا البحث وبعد سدل وسبر، ثُم ندرج بعض إشكالات بعض علماء الأصول على تلك الاستدلالات فقد تتشابه مع إشكالات صاحب الحدائق وقد تختلف وقد تقترب منها.

الدليل الأول: الآيات لم يستعرض صاحب الحدائق سوى آية واحدة وهي قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}(33).

وهذه الآية لم يستدل بها الأصوليون على البراءة في مبحث البراءة، ولكن استدل بها بعض المتأخرين على أصالة الإباحة لتقرير أن الأشياء على الإباحة لا على الحظر أو الوقف(34).

وتقريب الاستدلال بها أن يُقال: أن كل شيء يقع في الأرض حلال إلا ما خرج منه بالدليل.

وناقش صاحب الحدائق الاستدلال بالآية أنه أولاً: أن غاية ما تدل عليه هو أن الله سبحانه خلق ما في الأرض لعباده، أي لأجل منافعه الدينية والدنيوية بأي وجه أتفق، وجواز الانتفاع لا يلزم منه حليّة ما لا نص فيه لمكان الانتفاع به بوجه آخر؛ إذ أن الأشياء لها وجوه متعددة في الانتفاع بها، ولحليتها وجه من وجوه الانتفاع بها لا كل وجوه الانتفاع بها.

وثانياً: لو فرض أن المراد من الانتفاع بها هو حليتها فإن الآية مخصصة بأخبار الاحتياط(35).

 أما الآيات الأخر التي استدل بها الأصوليون على البراءة ولم يذكرها صاحب الحدائق فربما أنه لم يطّلع على الاستدلال بها، والذي يهوّن الخطب أن بعض المحققين من الأصوليين استشكلوا في الاستدلال بها، ولذا قال الشيخ الأنصاري في رد الاستدلال بالآيات على البراءة: وأما الآيات المذكورة فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهض بذلك، ضرورة أنه إذا فرض أنه ورد بطريق معتبر في نفسه أنه يجب الاحتياط في كل ما يُحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة(36).

الدليل الثاني: الأحاديث الحديثالأول:- حديث الإطلاق: ما رواه الشيخ الصدوق مرسلاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(37).

استدل به الشيخ الصدوق على جواز القنوت بالفارسية(38)، وفي كتابه الاعتقادات في باب الحظر والإباحة، قال: “اعتقادنا في ذلك أن الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهي”(39).

وتقريب الاستدلال به: أنّ كل فعل من الأفعال مباح حتى يصل إلى المكلف أنه حرام، فالإطلاق يساوق السّعة والتأمين، ويصدق على الشاك بالتكليف أنه لم يرده النهي، فيكون مؤمّناً عن التكليف المشكوك به(40).

 ويرى الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) بأن هذه الراوية أوضح الروايات في دلالتها على البراءة الشرعية(41)، وقد قرره المحقق العراقي والموسوي البجنوردي (قدّس سرّهما) فيما لو كان المراد من النهى هو النهي الواقعي المتعلق بالشيء بعنوانه، ومن كون الورود بمعنى وصوله إلى المكلف لا مجرد صدوره واقعاً(42).

وصاحب الحدائق (قدّس سرّه) في استعراضه لأدلة البراءة جعل هذا الحديث أول الأحاديث التي استدل بها على البراءة الشرعية(43)، وكأنه يرى بأن هذا الحديث أوضح ما استدل به على البراءة، ولذا قال في وصف الحديث: “وهو عمدة أدلة القوم، وأكثرهم في المقام لم يستدل إلا به، إذ ما عداه ليس بظاهر الدلالة كما ستقف عليه”.

مع ذلك فإنه لا يرى دلالته على البراءة لمناقشات له.

 مناقشة صاحب الحدائق: يرى صاحب الحدائق عدم صحة التمسك بهذا الحديث لإثبات البراءة لعدة أمور: أولا: أنه خبر واحد، يتعارض مع ما هو مستفيض من الأخبار الدالة على لزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية، والخبر الواحد لا يصلح أن يكون معارضاً لتلك الأخبار المستفيضة، فهي مقدمة عليه(44).

ولم يناقش في إرسال الحديث لكونه يرى صحة جميع أحاديث الفقيه، بل كل الروايات التي يرويها الصدوق في جميع كتبه.

ويبدو أن هذه المناقشة تامة بناء على كون حجية الخبر الواحد من جهة الوثوق بصدوره، فمع معارضة الخبر الواحد لأخبار متعددة لا يحصل الوثوق بخبر الواحد، أو بناء على مرجحية الشهرة الروائية، وفرض أن أخبار الاحتياط تامة الدلالة وأنها مشهورة بخلاف هذا الخبر.

 وهذا على فرض كون تلك الأخبار المستفيضة أي أدلة الاحتياط تامة الدلالة في لزوم الاحتياط مع الشك في الشبهة الحكمية التحريمية.

وظهر من صاحب الحدائق بأنه يشكل أحياناً على الأصوليين بالاستناد إلى الآحاد في إثبات الأصول، وهي لا تثبت عندهم إلا بما يفيد العلم، وخبر الواحد لا يفيد العلم(45).

 لكن من الواضح أن خبر الواحد الحجة يمكن الاعتماد عليه في أصول الفقه، إنما لا يعتمد عليه في أصول العقائد(46).

ثانياً: الرواية ليست ظاهرةً في كون المراد منها الحكم بالحلية في الشبهة الحكمية التحريمية فيما إذا لم يثبت دليل الحلية الخاص ولا دليل الحرمة، بل لا يبعد أن يكون المراد منها أحد المعنيين التاليين: المعنى الأول: أنه ناظر إلى ألسنة الروايات الواردة من الشارع، فكل خطاب شرعي مطلق أو عام فهو باق على إطلاقه وعمومه، حتى يرد فيه نهي عن بعض الأفراد، فيخرجه من الإطلاق، مثل أن يدل خبر على وجوب إكرام العالم فيحمل على كل عالم، ثم يرد النهي عن إكرام فساق العلماء فيسقط إطلاق إكرام العالم بالنسبة إلى هذا القسم، فهو يرشد ويؤكد صحة الحمل العرفي لإطلاقات وعمومات الموضوعات التي تتعلق بها الأدلة الشرعية اللفظية.

ويرى أن هذا المعنى هو الذي فهمه الشيخ الصدوق(عطر الله مرقده) من الحديث حيث تمسك به لجواز القنوت بالفارسية، فإن أحاديث القنوت ومناجاة الله في الصلاة مطلقة وعامة(47) تشمل القنوت بالعربية وبالفارسية، ولم يرد نهي يقيّد الإطلاقات ويخصص العمومات(48).

المعنى الثاني: تعيين الوظيفة في الشبهة الموضوعية، كما إذا شك المكلف بكون الجائزة التي حصل عليها من قبل الظالم مغصوبة أو أنها غير مغصوبة، أو كون ما اشتراه من بعض الأشخاص مغصوباً أو غير مغصوب، فيبني على الإطلاق والسعة والتأمين من جهة ما أخذه واقتناه حتى يرد فيه النهي من قبل المعصوم فلا يقدم على أخذه.

وعلى فرض أن الرواية ليست ظاهرة في أحد هذين المعنيين فإنها لا تخرج عن الإجمال لاحتمال أحد هذين المعنيين احتمالا معتدا به(49). ولو أدرك صاحب الحدائق ما ذكره الآخوند الخراساني وما نسب إلى المحقق النائيني (قدّس سرّهما) من معنيين آخرين للرواية لتعزز عنده عدم ظهور الرواية في البراءة، فأحدهما ما أشار إليه الآخوند من أن ورود النهي في المشكوك الذي جعلته الرواية غاية لحليته يصدق على ما صدر من النهي من الشارع ولم يصل إلى المكلف، وعلى ذلك لا تدل الرواية على البراءة لاحتمال صدور النهي في المشكوك ولم يصل إلينا، قال في استدراكه على من استدل بالرواية: “ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه وأن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه ممنوع، لوضوح صدقه على صدوره عنه، سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خُفي على من لم يعلم بصدوره”(50).

 والمحقق النائيني في فوائد الأصول احتمل هذا المعنى من الرواية بحيث يسلب ظهورها في البراءة، فأشار قالا: “والاستدلال به مبنى على أن يكون (الورود) بمعنى الوصول إلى المكلفين، لا الورود المقابل للسكوت، وإلا كان مفاده أجنبياً عن محل البحث، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع، فيكون مفاد الحديث المبارك: (كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبيّن الله تعالى حكمه) أي ما دام مسكوتاً عنه، كما ورد في الخبر: (إن الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا) الخبر، وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء”(51).

والمعنى الآخر ما نقله السيد الخوئي عن المحقق النائيني من أن الرواية إنما تدل على عدم الحرجية الأصلية قبل ورود الشريعة قال: “أما المحقق النائيني فذهب إلى أن مفاد هذه الرواية هو اللاحرجية الأصلية قبل ورود الشرع والشريعة، فمفادها أن الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهي، فالإطلاق فيها بمعناه اللغوي، وعليه فالرواية أجنبية عما هو محل البحث، أعني به إثبات الإباحة لما شك في حرمته بعد ثبوت الشرع، وحكمه بحرمة أشياء وحلية أشياء غيرها”(52).

 والإنصاف أن المعنيين الذين ذكرهما صاحب الحدائق بعيدان جداً، أما المعنى الأول فإن كلمة (الشيء) في الحديث لا يحتمل حملها على موضوعات الأحكام الشرعية المطلقة أو العامة التي جاءت في ألسنة الأدلة النقلية، بل الظاهر من حملها على كل شيء شككت فيه، وورود النهي ظاهر في النهي عن الموضوع الجزئي الذي تعلق به الشك في حكمه، ولا توجد قرينة على حمله على الأدلة المطلقة والعامة، وعلى فرض احتمال حمل الشيء ومتعلق النهي على إطلاقات وعموم الأدلة فإنه احتمال غير معتد به وضئيل جداً لا ينافي ظهور الحديث في غيره، واستدلال الصدوق (قدّس سرّه) به لنفي وجوب العربية في القنوت مضافاً لكونه عن حدس لا يلزم منه أنه يرى أن حديث الإطلاق ناظر إلى عموم وإطلاقات الأدلة، بل ينسجم مع كونه يرى دلالته لنفي تكليف زائد وهو حرمة إبطال الصلاة بالدعاء والقنوت بالفارسية لأنه لم يرد النهي عنه في الصلاة.

 وأما الاحتمال الثاني أي الحمل على الشبهة الموضوعية فهو أيضاً غير محتمل لوضوح أن جملة (حتى يرد فيه نهي)  تعني أنه لم يرد فيه نهي ولم يُشرع فيه حكم التحريم في ظرف الحكم بإباحته وظرف كونه مطلقاً، بخلاف موارد الشبهة الموضوعية، فإن الحكم فيه معلوم وقد شُرع ولكن الشك في الموضوع فالنهي فيه وارد، ولكن الشك في مصداقه الخارجي.

 نعم المعنى الذي ذكره الآخوند والمحقق النائيني في الفوائد محتمل جداً، بحيث يسلب ظهور الحديث في معنى البراءة، وأما ما نُسب للمحقق النائيني من معنى أصالة الإباحة قبل ثبوت الشرع فبُعده لا يقل عن بُعد معنيي صاحب الحدائق.

 ثالثاً: على فرض كون الرواية ظاهرة في أن المراد منها البراءة والإباحة، وأنها تعادل ما تعارضه من أخبار الاحتياط، فإن أخبار الاحتياط مع ذلك مقدمة لأن رواية الإطلاق تتوافق مع العامة الذين يقولون بالبراءة ولا يقولون بالاحتياط الوجوبي في الشبهة التحريمية، وأما أخبار الاحتياط فإنها تخالفهم فهي مقدمة عليها(53).

وهذا الإشكال سيّال عند صاحب الحدائق في كل دليل يستدل به على البراءة، وهو متوقف على ثبوت دلالة أدلة الاحتياط على لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية غير المحصورة، وسيأتي عرضها إن شاء الله تعالى، وعلى أن أدلة البراءة متوافقة مع العامة بعد تحقق المعارضة.

رابعاً: ومفاده حكومة أدلة الاحتياط عليه، إذا مفاده البراءة ما لم يرد النهي، وقد ورد النهي عن ارتكاب الشبهات، فيحمل الخبر إما على ما قبل إكمال الشريعة، أو على تخصيصه بمن لم يصله النهي عن اقتحام الشبهة التحريمية(54).

غير أن هذا الإيراد لا يرد بناء على المراد من ورود النهي في الحديث هو وروده على الشيء بعنوانه الأولي لا النهي بعنوان أنه مجهول الحكم، وقد صرح بعض الأصوليين استظهار أن المراد من ورود النهي فيه ورود النهي في المشكوك بعنوانه الأولي(55).

 الحديثالثاني:- حديث السعة: ما رواه ابن جمهور الأحسائي مرسلاً عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: «الناس في سعة ما لم يعلموا»(56).

وجاء في دعائم الإسلام مرسلاً عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير خبزها ولحمها وجبنها وبيضها، قال: «يقوّم ما فيها فتؤكل لأنه يفسد، وليس لما فيها بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن»، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يعلم أهي سفرة ذمي أو مجوسي؟ قال: «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا»(57).

 وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن»، قيل: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي، فقال: «هم في سعة حتى يعلموا»(58).

 وقد قُرّب الاستدلال به بأن الظاهر منه التوسعة على الناس مع عدم علمهم بالتكليف وعدم الضيق عليهم، سواء كانت (ما) مصدرية وظرفاً لزمان الفسحة والسعة أي كأنه قال: (الناس في سعةٍ ما دام لا يعلمون) فتكون كلمة السعة نكرة منونة، أو كانت (ما) موصولة مضافة إلى السعة، فكلمة السعة مكسورة من غير تنوين لأنها مضاف والموصول مضاف إليه، فالمعنى أن الناس في سعة وفسحة وتأمين من جهة الذي لا يعلمون به من التكليف، فعلى كلا المعنيين يدل الحديث على البراءة، ولا شك أن وجوب الاحتياط ينافي كون المكلف في سعة ما دام لا يعلم، أو من قِبل ما لا يعلم(59).

 مناقشته الاستدلال به: أولاً: ظاهر «الناس في سعة» ومع غض النظر عن سياق الحديث عدم جعل التكليف بقيام بعمل على العباد فهو نفي منجزية الوجوب لفعل وجودي ما لم يُعلم بوجوبه، فيتضح أن الحديث أجنبي عن محل البحث، فهو يبين الوظيفة في مقام الشبهة الوجوبية ومحل الكلام إنما هو في الشبهة التحريمية(60).

 ثانياً: على فرض دلالة الحديث على البراءة فهو شامل للبراءة في الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية، وأدلة الاحتياط واردة في خصوص الشبهة التحريمية فتخصصه بالشبهة الوجوبية(61).

 ثالثاً: من قرينة سياق الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يظهر أن المراد من الرواية أن الناس في سعة من البناء على الطهارة ما لم يعلموا بالنجاسة حيث احتملوا أن تكون السفرة سفرة مجوسي أو ذمي فهي نظير «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر»، فالإطلاق في الرواية لأجل بيان عدم اختصاص الحكم بالطهارة في المورد، بل كل مورد يشك في نجاسته فهم في سعة من البناء على الطهارة فيه حتى يحصل لهم العلم بالنجاسة، فالرواية تكون أجنبية عما نحن فيه(62).

 وأشار السيد الخوئي إلى أن الرواية المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما هي خاصة بالشبهة الموضوعية التي قامت فيها الأمارة على الحليّة، فالإمام (عليه السلام) حكم بالحليّة ما في السفرة ومنه اللحم من جهة كون المورد في أرض المسلمين فهي أمارة على التذكية، وجعلها الشيخ مكارم الشيرازي خاصة بالقضية الخارجية الواردة في الرواية، ولكن لم يستشكلا في ما رواه ابن جمهور لأنه مطلق، وإن استشكلا في إرساله(63).

رابعاً: على فرض دلالتها على البراءة في الشبهة التحريمية فإن أدلة الاحتياط مقدمة لأن السعة مغيّاة بالعلم بالتكليف، والمفروض أن أدلة الاحتياط تعين التكليف بالتوقف والاحتياط، فالعلم حاصل فلا موضوع للسعة مع العلم بأن الوظيفة هي الاحتياط، فالبراءة تكون في حق من لا يعلم أنَّ وظيفته الاحتياط كأن لم يطلع على أخبار الاحتياط(64).

وقد قرر الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) الإيراد الأخير في الاستدلال بالرواية وكذا السيد الإمام الخميني (قدّس سرّه)(65)، وعلّق المحقق العراقي الاستدلال للبراءة بالرواية على عدم هذا الإيراد(66).

 لكن الآخوند الخراساني (قدّس سرّه) يرى صحة هذا الإشكال فيما لو كان وجوب الاحتياط وجوباً نفسياً لا طريقياً، وبما أن وجوب الاحتياط طريقي لأجل التحفظ على الحكم الواقعي فلا يرد هذا الإشكال(67).

وتوضيح ذلك أن يقال: إن موضوع دليل السعة عدم العلم بالحكم الواقعي، فإذا كان دليل الاحتياط دال على أن كلفة الاحتياط في ظرف الجهل بالحكم لملاك مستقل في نفس الاحتياط وليست لأجل التحفظ على ملاك الحكم الواقعي دل ذلك على أن الاحتياط بمثابة الحكم الواقعي الثانوي في ظرف الجهل بالحكم الواقعي، وأن الحكم الواقعي المجهول بمثابة الحكم الواقعي الأولي، فحينئذ يكون دليل الاحتياط حاكم على دليل السعة، فمع الجهل بالحكم الواقعي سواء كان الأولي أو الثانوي يحقق موضوع دليل السعة، وأما إذا كان يعلم بالحكم الواقعي الأولي أو الثانوي أي الاحتياط فلا يتحقق موضوعه.

 أما إذا كان دليل الاحتياط دال على أن كلفة الاحتياط ليست لملاك في نفس الاحتياط بل لأجل التحفظ على ملاك الحكم الواقعي المجهول، أي أن جعل الاحتياط لأجل بيان أن ملاك الحكم الواقعي ينجز التكليف حتى في ظرف عدم العلم به مع احتماله، فإن وجوب الاحتياط وجوب طريقي فلا يكون دليل الاحتياط رافعاً لموضوع دليل السعة؛ لأن الجهل بالواقع ما زال باقياً على حاله، فتقع المعارضة بين دليل السعة مع دليل الاحتياط، وبما أن الظاهر من دليل الاحتياط أن وجوبه طريقي فتحقق المعارضة(68)، وعلى ذلك لا يرد الإشكال الثالث لصاحب الحدائق.

وذهب المحقق النائيني (قدّس سرّه) إلى أن إشكال ورود دليل الاحتياط على دليل السعة لا من جهة البناء على كون جوب الاحتياط وجوب نفسي بل من جهة احتمال أن كلمة «ما» في «الناس في سعة ما لم يعلموا» مصدرية لأن مفاد الرواية يكون الناس ما دام لا يعلمون يكونون في سعة، فإذا علموا بوجوب الاحتياط فهم ليسوا في سعة، فتكون أدلة الاحتياط حاكمة عليها، ولا يرد الإشكال بناء على كون كلمة «ما» موصولة لأن مفادها يكون أن الناس من جهة جهلهم بالحكم الواقعي يكونون في سعة، فتتعارض مع أخبار الاحتياط الدالة على كون الناس في الضيق من جهة جهلهم الحكم الشرعي، لكن أخبار الاحتياط مع ذلك مقدمة لأنها خاصة في الشبهة التحريمية، وحديث السعة يشملها مع الوجوبية فتخصصه أخبار الاحتياط بالوجوبية، فتتمخض من هذا البناء النتيجة التي توصل إليها صاحب الحدائق في الإشكال الثاني.

وكيف كان فإن المحقق النائيني لم يرجّح أحد الأمرين، وهذا يعني إجمال الرواية عنده(69)، وكذا يرى بعض المحققين(70)، ونقل السيد الخوئي عن النائيني أنه يرجّح أن تكون «ما» مصدرية(71).

 واختار السيد الخوئي أن كلمة «ما» موصولة وذلك لعدم دخول ما الزمانية على الفعل المضارع بحسب الاستقراء، وإذا ثبت في موارد فإنه نادر للضرورة أو شذوذ ولا تحمل عليه إلا لقرينة، وعلى ذلك يرى السيد الخوئي أن حديث السعة يدل على البراءة الشرعية(72).

والذي يظهر أن ما الظرفية المصدرية لا تدخل على الفعل المضارع في صورة كونه مثبتاً، أما في صورة كونه منفياً فإنها تدخل عليه، بل الظاهر كون «ما» في الحديث مصدرية، إذ لو كانت موصولة لكانت إلى معنى غير صحيح أقرب منها إلى معنى صحيح؛ أي تكون دلالتها إلى معنى أن الناس في سعة بسعة الحكم الذي لا يعلمونه أقرب منها إلى معنى كونهم في سعة من جهة الحكم الذي لا يعلمونه، وعلى ذلك يتقرر إشكال صاحب الحدائق.

الحديثالثالث:- حديث الحجب: ما رواه الشيخ الصدوق قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(73).

 ورواها الشيخ الكليني بدون كلمة «علمه»(74).

 والرواية موثقة ومعتبرة بناء على اعتبار أحمد بن محمد بن يحيى العطار، كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي (قدّس سرّه)(75)، ولكن أورد بعضهم إشكالا على السند من جهة أبي الحسن زكريا بن يحيى فإنه مشترك بين التميمي والواسطي الثقتين، وبين الحضرمي والكلالي والنهدي والنصراني الأب المجهولين، وإن ذكر صاحب جامع الرواة هذه الرواية ذيل ترجمة الواسطي الثقة، غير أن إسناده هذا إلى الراوي الخاص من اجتهاده على ما يبدو(76).

وتقريب الاستدلال بالرواية أن يُقال: إن حرمة ما يشك في حرمته كشرب التتن علمها محجوب عن العباد مستورة عنهم فتكون موضوعة عنهم، فكل حكم واقعي مجهول موضوع عن المكلفين(77).

 مناقشته الاستدلال بالحديث: أولاً: الظاهر من كلمة الوضع في الحديث هي أن الموضع لفعل وجودي، فيختص الحديث بالشبهة الوجوبية، فيكون المعنى إن ما حجب الله علمه عن العباد فالتكليف بوجوبه موضوع عنهم، إذ ليس من المتعارف استعمال الوضع لوضع التحريم بخلاف استعماله في وضع التكاليف الوجوبية فإنه متعارف(78).

 وربما هذا الاستظهار ناظر إلى أن الوضع يستعمل عرفاً لوضع الأشياء التي لها وجود مثل وضع الطعام في السفرة، أو وضع الشيء في المنزل أو في المسجد، فإذا استعمل في التكليف فيكون له وجود تقديري قائم بفعل المكلف، وما يقوم به المكلف من الأفعال التكليفية إنما هو في الواجبات، لأن المحرمات تروك للأفعال وترك الفعل ليس له وجود.

لكن يمكن أن يُقال أن نفس التكليف سواء كان بما يجب فعله أو يحرم له نحو من الوجود، ووضع بعض المحرمات إنما هو وضع لوجود التكليف بها.

 ثانياً: على فرض أنه يشمل الشبهات التحريمية فإنه مخصص بالوجوبية حيث اختصاص أدلة الاحتياط بالشبهة التحريمية، أو أنه لا يشمل الشبهات التحريمية لأن الشبهات التحريمية لم يحجب الله الاحتياط في مواردها.

وقد أشكل الشيخ الأنصاري بإشكال أبرز وهو أن الظاهر من «ما حجبه الله» هو الأحكام التي لم يبينها الله سبحانه للعباد، لا ما أمر بتبليغها ثم اختفت بسبب معصية من عصى الله أو ستره، فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن الله تعالى حدّ حدوداً فلا تَعتَدُوها، وفَرَضَ فرائض فلا تَعصُوها، وسكتْ عن أشياءٍ، لم يسكتْ عنها نسياناً لها، فلا تتكلّفوها، رحمةً من الله لكم»(79).

وسار على إشكاله مجموعة من المحققين(80)، وحاول بعض دفع الإشكال(81).

الهوامش والمصادر

  • (1) الدرر النجفية، ج1، ص155-186.
  • (2) الدرر النجفية، ج1، ص155.
  • (3) الوافية في أصول الفقه، ص178- 198، والفاضل التوني هو عبد اللّه بن محمد التوني البُشرُوي الخراساني، الساكن بالمشهد الرضوي، أحد أكابر الإمامية، ويعرف بالفاضل التوني. لم يُعرف تاريخ مولده، ولم تُعرف أساتذته الذين تلقى العلم عنهم، وإنما يُعرف عنه أنه أمضى فترة من حياته في المدرسة المعروفة بمدرسة عبد اللّه التستري بأصفهان، ثم استوطن مشهد الرضا (عليه السلام)، وأراد التوجه إلى العراق لزيادة مراقد الاَئمّة (عليهم السلام)، فمرّ بقزوين وأقام بها مدة، ثم دعاه ربُّه وهو بكرمانشاه، فلبّى نداءه في السادس عشر من شهر ربيع الاَوّل سنة إحدى وسبعين وألف، ودُفن هناك عند القنطرة المشهورة بـ (پل شاه). انظر:(أمل الآمل، ج2،ص163 برقم 477، رياض العلماء ج3، ص237، روضات الجنات، ج4،ص244، برقم 389، أعيان الشيعة، ج8، ص70، سفينة البحار: ج2، ص137 وج6، ص77، طبقات أعلام الشيعة، ج5، ص343).
  • (4) الذريعة إلى أصول الشريعة، ج2، ص805.
  • (5) الاعتقادات للصدوق، ص114.
  • (6) العدة في أصول الفقه، ج2، ص741-742.
  • (7) انظر التذكرة بأصول الفقه للشيخ المفيد، ص43.
  • (8) التذكرة بأصول الفقه، ص43.
  • (9) معارج الأصول للمحقق الحلي، ص203.
  • (10) المسائل العكبرية، ص87.
  • (11) تصحيح اعتقادات الإمامية، ص143.
  • (12) انظر التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي 476هـ.، ص532، اللمع في أصول الفقه له أيضاً، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ج1، ص528، روضة الناظرة وجنة المناظر لأبي محمد المقدسي 620هـ.، القسم الثاني، ص38، البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين الزركشي 794هـ.، ج1، ص120، القواعد والفوائد الأصولية، لعلي بن عباس البعلي الحنبلي 803هـ.، ص107، التحبير شرح التحرير، لعلاء الدين المرداوي الحنبلي 885هـ.، ج2، ص765، المختصر في أصول الفقه، لأبي الحسن البعلي، ص56، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعبد القادر الدمشقي1346هـ، ص156.
  • (13) معارج الأصول، ص202-203.
  • (14) فوائد الأصول، ج3، ص329.
  • (15) معارج الأصول للمحقق الحلي، ص208، المعتبر للمحقق الحلي،ج1، ص32، مبادئ الأصول للعلامة الحلي، ص186، و242، القواعد والفوائد للشهيد الأول، ج1، ص132، معالم الدين، ص192، وص194، وص222، وص234، وص250، زبدة الأصول للشيخ البهائي، ص244، وربما أول من وضح أن البراءة الأصلية من أقسام الاستصحاب هو المحقق الحلي في المعتبر، ص32، وفي معارج الأصول ص212 تعرض لها تحت عنوان النافي للحكم واستدل لها بقبح التكليف بما لا يطاق.
  • (16) الوافية ص178- 197.
  • (17) الفوائد الحائرية للبهبهاني، ص239- 261.
  • (18) مثل كتاب الانتصار للسيد علم الهدى، وكتاب الخلاف والمبسوط للشيخ الطوسي.
  • (19) الناصريات للسيد المرتضى، ص254، ص304، الانتصار، ص207، ص214، ص220، ص353، ص358-359، ص546.
  • (20) الخلاف، ج1، ص71، 73، 75-77، 85، 127-129، 160، 219، 245، 276، 281، 285، 317، 353…الخ، المبسوط، ج1، ص28، 41، 198، 204، 229، 338، 346، 349، 353،…الخ. (21) جواهر الفقه، ص17-18، 29، 43، 47، 67، 89، 102، 105، 107، 111، 223، 224.
  • (22) غنية النزوح، ص35، 87، 115، 118، 120، 122، 123، 240، 244، 255، 262، 271، 276، 279، 350، 376، 385..الخ.
  • (23) السرائر، ج1، ص118، 136، 144، 170، 178، 224، 232، 247، 282، 298، 303، 319، 321، 324، 376، 377، 380، 387…الخ.
  • (24) المعتبر، ج1، ص32، وأما ما ذكره في معارج الأصول ص212 ضمن مسائل مختلفة من النافي للحكم، فإنه وإن كان أعم من نفي الوجوب والحرمة إلا أن ما ذكره في المعتبر يُعد قرينة على أن مراده ما ينفي الحكم الوجوبي.
  • (25) ذكرى الشيعة، في أحكام الشريعة، ج1، ص52.
  • (26) الدرر النجفية، ج1، ص201.
  • (27) الدرر النجفية، ج1، ص159.
  • (28) الذريعة، ج1، ص362.
  • (29) رسائل السيد المرتضى، ج1، ص311-312، وج2، ص45-46، ص318، وج3، ص113.
  • (30) عدة الأصول، ج2، ص448، وانظر ج1، ص221.
  • (31) عدة الأصول، ج1، ص228، وفي طبعة أخرى: ج2، ص87.
  • (32) الفقيه والمتفقه، ج1، ص329.
  • (33) سورة البقرة، آية: 29.
  • (34) معارج الأصول، ص205، الوافية، ص185.
  • (35) الدرر النجفية، ج1، ص168.
  • (36) فرائد الأصول، ج1، ص319.
  • (37) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص317، ح937، وسائل الشيعة، ج6، باب19 من أبواب القنوت، ص289، ح3، عوالي اللئالي، ج3، باب الأطعمة والأشربة، ص462، ح1.
  • (38) نفس المصدر.
  • (39) الاعتقادات، ص114.
  • (40) انظر مباحث الحجج والأصول العملية تقريرات للشهيد محمد باقر الصدر، ج5، ص36، ودروس في علم الأصول ج1، ص341، واصطلاحات الأصول للمشكيني، ص47.
  • (41) فرائد الأصول، ج1، ص327، ط النشر الإسلامي، وج2، ص43، ط مجمع الفكر الإسلامي.
  • (42) نهاية الأفكار، ج3، ص230، منتهى الأصول، ج2، ص192.
  • (43) الدرر النجفية، ج1، ص168.
  • (44) انظر الدرر النجفية، ج1، ص173، والحدائق الناضرة، ج1، ص49 من المقدمة.
  • (45) الدرر النجفية، ج1، ص170، الحدائق الناضرة، ج1، ص49.
  • (46) زبدة الأصول لسيد محمد صادق الروحاني، ج3، ص234.
  • (47) وسائل الشيعة، ج6، أبواب القنوت، ب19.
  • (48) انظر الدرر النجفية، ج1، ص172-173، والعبارة نقلت بمعناها لا نصها لكونها تحتاج إلى توضيح، الحدائق الناضرة، ج1، ص49.
  • (49) انظر الدرر النجفية، ج1، ص172- 173.
  • (50) كفاية الأصول، ص384.
  • (51) فوائد الأصول، ج3، ص363.
  • (52) دراسات في علم الأصول، تقريرات أبحاث السيد الخوئي للسيد علي الهاشمي الشاهرودي، ج3، ص255، وانظر أجود التقريرات، تقرير بحث النائيني، للسيد الخوئي، ج2، ص182.
  • (53) انظر الدرر النجفية، ج1، ص170، وص172، الحدائق الناضرة، ج1، ص49.
  • (54) الحدائق الناضرة، ج1، ص49.
  • (55) فرائد الأصول، ج1، ص327، نهاية الأفكار، ج3، ص230.
  • (56) عوالي اللئالي، ج1، ص424، ح109.
  • (57) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي، ج2، ص497، ح1773.
  • (58) الكافي، ج6، ص297.
  • (59) انظر كفاية الأصول للآخوند، ص342، منتهى الأصول للموسوي البجنوردي، ج2، ص190، أنوار الأصول، ج3، ص41.
  • (60) الدرر النجفية، ج1، ص173.
  • (61) انظر الدرر النجفية، ج1، ص173- 174، وذكر هذا الإشكال أيضاً في ضمن إشكاله على حديث الحجب.
  • (62) الدرر النجفية، ج1، ص173- 174.
  • (63) مصباح الأصول، ج2، ص278- 279، أنوار الأصول، ج3، ص41- 42.
  • (64) الدرر النجفية، ج1، ص173.
  • (65) فرائد الأصول، ج1، ص327، ط النشر الإسلامي، وج2، ص42، ط مجمع الفكر الإسلامي، تحريرات في الأصول، ج7، ص21.
  • (66) مقالات الأصول، ج2، ص174.
  • (67) كفاية الأصول، ص342.
  • (68) انظر توضيح عبارة الآخوند في نهاية الدراية، ج4، ص68، منتهى الدراية، ج5، ص262-263، والشرحان وأن لم يصرحا بما ذكرته من توضيح لكنهما ذكرا ما في معناه.
  • (68) أجود التقارير، ج3، ص315، ط مؤسسة صاحب الأمر (عج)، وج2، ص181، ط مطبوعات ديني، فوائد الأصول، ج3، ص362.
  • (70) منتقى الأصول تقرير بحث الروحاني للحكيم، ج4، ص428.
  • (71) دراسات في علم الأصول، ج3، ص255، مصباح الأصول، ج2، ص278.
  • (72) مصباح الأصول، ج2، ص278- 279، دراسات في علم الأصول، ج3، ص254- 255.
  • (73) توحيد الشيخ الصدوق، باب التعريف والبيان، والحجة والهداية، ص413، ح9.
  • (74) الكافي، ج1، باب حجج الله على خلقه، ص164، ح3.
  • (75) معجم رجال الحديث، ج3، ص120- 123.
  • (76) انظر تسديد الأصول للشيخ محمد المؤمن القمي، ج2، ص142، منتهى الدراية للسيد الشوشتري، ج5، ص236.
  • (77) نهاية الأفكار، ج3، ص226، منتهى الأصول، ج2، ص189، المحكم في أصول الفقه، للسيد محمد سعيد الحكيم، ج4، ص44، زبدة الأصول للسيد محمد صادق الروحاني، ج3، ص224.
  • (78) الدرر النجفية، ج1، ص174.
  • (79) فرائد الأصول، ج1، ص326، ط النشر الإسلامي، وج2، ص41، ط مجمع الفكر.
  • (80) أجود التقريرات، ج2، ص181، ط ديني، دراسات في علم الأصول، ج3، ص247، مصباح الأصول، ج2، ص271.
  • (81) نهاية الأفكار، ج3، ص227، المحكم في أصول الفقه، ج4، ص44.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى