ثقافة

الشباب والحياة العلميّة

بسم الله وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، وعلى آله أئمة الهدى، وعلى نور أبصار الورى، وحافظ الشريعة العظمى، الإمام المهدي المفدّى (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

تمهيد الشباب مرحلة زمنيّة مهمّة من عمر الإنسان، وقد اعتبرها الدّين القويم نقطة الانطلاق لبناء الشخصيّة التقيّة، الشخصيّة الرساليّة، الشخصيّة المضيئة بنـور القرآن، والمشعّة بهدى الإيمان، فمرحلة الشباب هي مرحـلة تفتُّق الطاقات المُودعة، وتفجّـر المواهب المُوقفَة، فالإسـلام يُؤكِّد على ضرورة توجيه هذه الطاقات والجهود، وحفظها من شرّ كلّ كفَّار عَنُود، فإن وُجهت وحُفظت صار ذاك الشابّ نفحة من نفحات الجِنان، وقطعة من قطع الإيمان، وإن ضُيِّعت وأُهملت صار ذاك الشابّ نفحة من نفحات النيران، وصورة من صور الشيطان، فالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كان يكرر المرة تلو الأخرى ويبيّن أهميّة البناء الرصين لهذه المرحلة، حيث جاء في وصيّة له لأبي ذر الغفاري (رحمه الله) قوله:«يَا أَبَا ذَرٍّ اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك‏،…»(1)، فمن يضيّع شبابه في الملذات، ويقضي أوقاته في المُلهِيات، لن يحصد إلا الويلات، وطول العذابات.

 وآهٍ…آهٍ… لما يعتري الشباب في هذه الأعصار من امتحانات عصيبة، وابتلاءات جسيمة، فالغرب قد تكالب عليه بكلّ ما يملك من قدرة، وعزيمة مُرّة، فحرفه عن الإسلام الأصيل، وأبعده عن شريعة سيّد المرسلين، فمنذ متى أصبح الشاب لا علاقة له إلا بالماديات، ولا تربطه بدينه أيّة رابطة؟! فكل هدفه في هذه الدنيا العجوز أن يملك أفخمَ البيوت، وأفضلَ المراكب، وأن يحوز الأموالَ الطائلة التي ينفقها في الأمور الباطلة، فالثقافة الغربية قد بدلّت صورة حياته من صورة الإيمان إلى الكفر، ومن صورة الصلاح إلى الفساد، فلباسه غربيّ، ومأكله غربيّ، ومسكنه غربيّ، وكلّ جزء من أجزاء حياته صار غربياً، وحينما تقف معه وقفة المنبّه، والأخ المذكّر، فإذا به يتهكّم ساخراً، ويسمك بالرجعية هازءاً.

 لكن ليست هذه حال كلّ شبابنا المسلم، فلا زال هناك الشباب الواعي الملتزم بمبادئ الإسلام وقيمه، والمحافظ على شريعة الله وسننه، ولا زالت هذه الطبقة من الشباب تمثل العقبة الكؤود أمام أطماع الغرب ومآربه، وهناك أمل كبير في أن تحيي هذه الطبقة روح الإسلام من جديد، وتمهد لظهور صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

 هذه صورة مقتضبة عن وضع الشباب في هذه الأيّام، ونحاول في هذا المقال أن نقف على محور مهم من المحاور التي تخصّ هذه المرحلة، وهو موضوع يتناول ارتباط الشباب بالعلم والتعليم، ولا شبهة في أهميته البالغة، حيث أولاه الدّين الإسلامي عناية فائقة، فالقرآن الكريم في كثير من آياته كان يُشيد بالعلماء ومنزلتهم الرفيعة عند الله تعالى من جهة، وفي خدمة المجتمعات البشرية من جهة أخرى، قال الله تعالى: {مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(2)، وقال تعالى في آية أخرى: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}(3)، والمجاميع الحديثيّة ثرّة بالروايات التي تحثّ على العلم، والتي تبيّن فضله ومكانته، وفي المقام -وقبل أن ندخل في صلب الموضوع- نقف على جهتين من الجهات التي ركّزت عليها روايات أهل البيت (عليهم السلام)؛ ليتضح للقارئ العزيز مدى ضرورة طرح مثل هذا البحث:  الجهة الأولى: العلم فريضة ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أنّه قَالَ:« قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَلا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ»(4).

مرّ الإنسان منذ نشأته بمراحل مختلفة، استمرّت قروناً طويلة، حتَّى بلغ إلى ما بلغ إليه من التطوّر على المستوى العلميّ والفنّي، فالعلوم والتخصّصات في عصرنا الحاضر كثيرة ومتنوعة، وهنا -وبعد النظر في الحديث السابق- ينشأ تساؤل بالنسبة إلى العلم الذي هو فريضة على كلِّ مسلم، فهل دراسة الإنسان المسلم لأيِّ علم من العلوم تُسقط عنه هذا الواجب؟ فما هي حقيقة هذا العلم؟! وما هي حدوده وأبعاده؟! الإجابة على ما ذُكر موجودة في كلمات أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، وقد أشار إليها علماؤنا الأبرار(زادهم الله رفعة وشأناً) أيضاً: أ_ فقد ورد عن نبيّنا الأكرم محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «إنّما العلم ثلاثة:آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنَّ فهو فضل»(5)، وقد بيّن المحدِّث الفاضل الفيض الكاشاني (قدّس سرّه) مراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) -هنا- فقال: “وكأنَّ الآية المحكمة إشارة إلى أصول العقائد، فإنَّ براهينها الآيات المحكمات من العالم أو من القرآن، وفي القرآن في غير موضع (إن في ذلك لايات أو لآية) حيث يذكر دلائل المبدأ والمعاد، والفريضة العادلة إشارة إلى علوم الأخلاق التي محاسنها من جنود العقل، ومساويها من جنود الجهل، فإنّ التحلّي بالأوّل والتخلّي عن الثاني فريضة، وعدالتها كناية عن توسّطها بين طرفي الإفراط والتفريط، والسنّة القائمة إشارة إلى شرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام”(6).

 ب_ وقد علّق المحدِّث البارع الفيض الكاشاني (قدّس سرّه) على الحديث الآنف الذكر، فبيّن حقيقة العلم الذي هو فريضة على كلِّ مسلم، حيث قال: “العلم الذي طلبه فريضة على كلِّ مسلم: هو العلم الذي يستكمل به الإنسان بحسب نشأته الأخروية، ويحتاج إليه في معرفة نفسه، ومعرفة ربّه، ومعرفة أنبيائه ورسله، وحججه وآياته واليوم الآخر، ومعرفة العمل بما يُسعده ويقرِّبه إلى الله تعالى، وبما يُشقيه ويُبعده عنه جلّ وعزّ”(7).

 والمتحصّل أنّ الإنسان المسلم يجب عليه السعي لتحصيل ثلاثة من العلوم:

 1_ أصول العقيدة، من إثبات وجود الله، وصفاته، وأفعاله، والإيمان بمبدأ النبوة، والإمامة، والمعاد.

 2_ التعرّف على المساوئ والمكاره والتخلّي عنها، والتعرّف على المحاسن والمكارم والتحلّي بها.

 3_ معرفة أحكام الله، من الحلال، والحرام، والواجب، والمستحب، والمكروه. وليس المقصود من هذه الثلاثة هو التعمّق والتدقيق، والفحص والتنقيب _مع أنّه قد يكون واجباً عينياً على البعض_، بل يُمكن أن يُكتفى بأصول العقيدة العامة بحيث يكون المكلّف على يقين واطمئنان من عقيدته، والمبادئ الأساسية في الأخلاق، والأحكام الشرعية الابتلائية.

 والأمر الآخر الذي علينا الوقوف عنده هو أنّنا مع سعينا في تحصيل هذه العلوم الثلاثة بالمقدار المطلوب علينا السعي في ذات الوقت لتحصيل العلوم الأخرى، كالطب، والهندسة، وغيرها من العلوم الحديثة، فالمجتمع المسلم كما هو بحاجة للفقيه، فهو بحاجة للطبيب، والمهندس، والفيزيائي، إلا أنّ الذي يتخصص في غير العلوم الدينية عليه أن يحصّل العلوم الثلاثة المتقدّمة بالمقدار المطالب به، فهي التي تقوده إلى مدارج الكمال، وتأخذ به إلى عالم الجمال، وتبلِّغه الآماني والآمال.

 الجهة الثانية: ثواب العالم والمتعلِّم قد يستنكف البعض من التركيز والحث على طلب العلم وتحصيله، فما الثمرة من القراءة، والكتابة، والمطالعة، والمباحثة، فهذه الأمور لن تبني لك منزلاً، ولن توفر لك مركبة، فالأفضل بعد أن تحصل على شهادة من إحدى الجامعات أن تتفرّغ للعمل وطلب الرزق، وألا ترهق نفسك بما لا ينفعك شيئاً، وكأنّهم قد غفلوا عن أنّ العلم هو الذي أوجد المركبة الفاخرة، والمنزل الفخم، فلو توقفت عجلة العلم لعاش النّاس في ظلمة الجهل ووحشته، ولظلّت حياتهم بدائية بسيطة، هذا إذا كان نظرنا للعلم من زاوية المادة والحياة المادية، وإلا فإنّ للعلم على المستوى العقدي والأخلاقي أثراً كبيراً بالغاً، فكلّما تقدّم العلم وازدادت الاكتشافات ازداد الإنسان تعلّقاً بالخالق الواحد القهار، فكلّ ذرة في هذا الكون دليل على وجوده ووحدانيته، ومن هنا نجد أنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد بيّنوا رفعة مقام طالب العلم ومحصّله، ومنزلة طالب العلم وثوابه، ومن هذه الروايات:

  أ_ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِهِ، وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً وَلَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(8).

ب_ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ وَخَوْضِ اللُّجَجِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَانِيَالَ أَنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، التَّارِكُ للاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ، اللازِمُ لِلْعُلَمَاءِ، التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ، الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ»(9).

 المحور الأوّل: الإمام الصادق (عليه السلام) وحياته العلميّة توطئة: أهل البيت (عليهم السلام) هم منبع العلم ومصدره، وهم أصل المعارف ومبدأها، والملاحظ للتاريخ الإسلامي لا يجد من كان أبرز منهم في العلم والمعرفة، حيث كانت تحط عندهم رحال العلماء للنهل من فيض علومهم، وكانت تشدّ إليهم أحزمة الحكماء للاستضاءة من نور هدايتهم، كيف لا يكون ذلك وهم عدل الكتاب الكريم، وصراط الله المستقيم، وهم خزنة علمه، وحفظة سرّه، ومهبط وحيه، إلا أنّ الظروف السياسية والاجتماعية لم تسعهم لإظهار وافر مخزونهم، وعظيم مكنونهم، بيد أنّ إمامنا الصادق (عليه السلام) قد عاش في فترة تاريخية لم يتعرّض خلالها للأذى المباشر والمستمر من قبل حكّام الجور والظلم، فقد عاش في أواخر أيّام الدولة الأموية وكانت في أيّام ضعفها وهوانها، وبداية أيّام الدولة العبّاسيّة وكانت في نشأتها وتأسيسها، فاستطاع إبّان هذه الأوضاع نشر جزء من معارفه العظمى، وترويج بعض من ملكاته العليا، فقصده المخالفون والمؤالفون، والمؤمنون والجاحدون، وصار قطباً في شتّى العلوم، فمن الفقه إلى الحديث، ومن الكلام إلى الأخلاق، ومن الطب إلى الكيمياء، ومن الأحياء إلى الفلك، وغيرها من العلوم التي خرّجت الآلاف من التلاميذ، وكلّ واحد منهم لا تفارق لسانه كلمة «قال الصادق (عليه السلام)».

 لذلك فحينما أردنا أن نتعرّف على منهج أهل البيت (عليهم السلام) في تداول العلوم ونشرها، وجدنا أنّ الوقوف على الجامعة العلميّة الكبرى للإمام الصادق (عليه السلام) خير ما يُمكن أن يقودنا إلى الطريق الصحيح في التعاطي مع العلوم من حيث التعلّم والتعليم، ومن حيث الفهم والتفيهم، وهنا سنقف على أهمّ الخصائص التي اتسمت بها هذه الحاضرة العلمية الكبرى، علّنا نوفق في أن نطبّق ذلك في واقع حياتنا العلمية المعاصرة. مميزات مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) أولاً: العظمة العلميّة للإمام (عليه السلام) لا أحد كان يشكّ في المستوى العلمي المنقطع النظير الذي كان يتمتع به الإمام (عليه السلام)، وهذه المسألة كما هي واضحة عند المؤالفين فهي واضحة أيضاً عند المخالفين، وإليك بعض أقوال من حضروا عنده (عليه السلام) ونهلوا من بحر علمه الزاخر:

 1_ أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي الشهير كان يقول: “ما رأيت أعلم من جعفر بن محمد”(10).

2_ وقال مالك إمام المذهب المالكي: “اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلياً، وإمّا صائماً، وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدّث عن رسول اللّه إلاّ على طهارة”(11). وكذلك قال: “ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهّاد الذين يخشون اللّه، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً”(12).

 3_وقال ابن حجر الهيثمي: “جعفر الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني”(13).

 4_ وقال أبو بحر الجاحظ أحد علماء القرن الثالث: “جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال أنّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب”(14).

 هذه أقوال من لم يؤمن بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ومع ذلك فهم يخضعون صاغرين أمام العظمة العلمية للإمام (عليه السلام)، ولا يمكلون إنكار هذه الحقيقة النيّرة التي بهرت العقول.

 ثانياً: تأسيس جامعة متنوعة العلوم والمعارف الجامعة الجعفرية كانت متنوعة العلوم والدراسات والبحوث، فالدروس التي كان يلقيها الإمام (عليه السلام) لم تكن تقتصر على علوم الدين -من الفقه والحديث والكلام والأخلاق- فحسب، بل اتسعت لتشمل علوم الطب، والفلك، والكيمياء، والأحياء، والهندسة، وغيرها من العلوم، وهذا ما أسهم في نموّ هذه الجامعة وازدهارها على مستوى العالم الإسلامي آنذاك، حيث صارت هذه الجامعة تضمّ أكثر من أربعة آلاف طالب من مختلف البلدان الإسلامية، والإمام (عليه السلام) كان يوجه كلَّ تلميذ من تلامذته للتخصص الذي يناسبه، فكان كلّ طالب متخصصاً في مجال أو مجالين، ومن أبرز طلبته الذين اشتهروا وذاع صيتهم في البلاد الإسلامية: هشام بن الحكم، وأبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، والمفضل بن عمر، وجابر بن حيّان، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم.

 ثالثاً: مناظرات الإمام (عليه السلام) التي ردّت الشبهات عن الدّين الإسلامي يجدر بنا قبل أن نبيّن هذه الميزة أن نقف على مسألتين: *الأولى: أنّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كان عصر صراع الأفكار والثقافات والمذاهب، فحين اتسعت رقعة العالم الإسلامي انفتحت البلاد الإسلامية على المذاهب والتيارات المختلفة، وأصبح هناك خوف كبير عند خلّص المسلمين من أن يؤثر هذا المدّ المذهبي والثقافي الهائل على عقيدة المسلمين وإيمانهم، فكان لا بدّ من وجود تصدٍّ قوي من علماء الأمّة الإسلامية للمحافظة على الدين، وصونه من التحريف والتزوير. *الثانية: أنّ أصحاب المذاهب والديانات المختلفة قد انضموا إلى الجامعة الجعفرية لما سمعوا عنها من العظمة، وسمو المكانة، وبهذا صارت الجامعة الجعفرية محطّاً للمؤالفين والمخالفين، والمسلمين وغيرهم.

 وبناءً على هاتين المسألتين فإنّ الدّين الإسلامي آنذاك كان يعيش خطر الغزو الفكري والثقافي، وكان لا بدّ له من متصدٍّ عارف، بصير، خبير، يدفع الشبهات، ويبيّن مواطن اللبس والاشتباه، ومن أجدر من ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث انبرى بكلِّ صلابة، وحكمة، وبصيرة، ليُزيل الشبهات، ويحل المعضلات، فدارت بينه وبين تلك الفرق المناظرات والمطارحات، والجلسات العلميّة المطوّلة، حيث حاورهم بالحجج البالغة، ونقاشهم بالأدلّة الدامغة، وحادثهم بالأسلوب الليّن، وصاحبهم بالخلق الديّن، فاتضحت ببركته معالم الدين وحدوده، وانقشعت بفضله سحائب الشرك وآثاره، وأشرقت شمس التشيع المغيّبة، واتضحت عظمته المخفيّة.

ومن تلكم المناظرات التي جرت مع الإمام (عليه السلام) مناظرته مع أبي حنيفة، الذي كان من تلامذته:   فقد جاء أبو حنيفة إلى بيت الإمام الصادق (عليه السلام) للالتقاء به ذات مرة واستأذن عليه، فحجبه الإمام (عليه السلام)، وقال أبو حنيفة: “صرت إلى بابه واستأذنت عليه فحجبني، فجاء قوم من أهل الكوفة، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلت معهم، فلماّ صرت عنده قلت له: يا ابن رسول اللّه لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله)، فإنّي تركت بها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم.

 فقال الإمام (عليه السلام): «لا يقبلون منّي»، فقلت: ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول اللّه؟! فقال (عليه السلام): «أنت ممن لم تقبل مني، دخلت داري بغير إذني، وجلست بغير أمري، وتكلّمت بغير رأيي، وقد بلغني أنّك تقول بالقياس؟»، قلت: نعم به أقول، قال (عليه السلام): «ويحك يا نعمان أوّل من قاس اللّه تعالى إبليسُ حين أمره بالسجود لآدم (عليه السلام)، وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، أيّما أكبر يا نعمان القتل أو الزنا؟»، قلت: القتل، قال (عليه السلام): «جعل اللّه في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة؟ أينقاس لك هذا؟»، قلت: لا، قال (عليه السلام): «أيما أكبر البول أو المني؟»، قلت: البول، قال (عليه السلام): «فلِمَ أمر اللّه في البول بالوضوء وفي المني بالغسل؟ أينقاس لك هذا؟»، قلت: لا، قال (عليه السلام): «فأيّما أكبر الصلاة أو الصيام؟»، قلت: الصلاة، قال (عليه السلام): «فلمَ وجب على الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ أينقاس لك هذا؟»، قلت:لا، قال (عليه السلام): «أيّما أضعف المرأة أو الرجل؟»، قلت: المرأة، قال (عليه السلام): «فلِمَ جعل اللّه تعالى في الميراث للرجل سهمين وللمرأة سهماً؟ أينقاس لك هذا؟»، قلت: لا، قال (عليه السلام): «فَلِمَ حكم اللّه تعالى في من سرق عشرة دراهم بالقطع وإذا قطع رجل يد رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم؟ أينقاس لك هذا؟»، قلت: لا، قال (عليه السلام): «وقد بلغني أنّك تفسر آية في كتاب اللّه وهي { َتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أنّه الطعام والماء البارد في اليوم الصائف»، قلت: نعم، قال له: «دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً وأسقاك ماء بارداً ثمّ امتنَّ عليك به ما كنت تنسبه إليه؟»، قلت: البخل، قال (عليه السلام): «أفيبخل اللّه تعالى؟!»، قلت: فما هو؟ قال (عليه السلام): «حبنا أهل البيت»”(15).

 رابعاً: الطابع النقدي للجامعة الجعفرية الإمام الصادق (عليه السلام) مع اهتمامه الكبير بالجانب العلمي والمعرفي، إلا أنّه لم يغفل عن الجانب السياسي والاجتماعي، حيث جعل الجهة المعرفيّة منطلقاً وأساساً لنشاطاته السياسية والاجتماعية، فكان منهجه العلمي بدقته وعمقه منهجاً نقدياً فاضحاً لزيف الحكومة الظالمة، وأنّ تمسكها بقيادة المسلمين تمسك ناتج عن الأهواء، والشهوات، وحبّ الدنيا، فالإمام (عليه السلام) حينما كان يبيّن حقيقة الدّين، وركائزه، وأركانه، وجه بذلك ضربة قاسية للحكومة الجائرة، إذ أنّه بهذا البيان الحقّ أثبت لعامة المسلمين أنّ المنهج الذي تتبعه الحكومة في تعاطيها مع شؤون الإسلام والمسلمين منهج منحرف، بعيد كلَّ البعد عن الحقائق التي جاء بها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، فأيُّ إسلام هذا الذي يُباح فيه شرب الخمر، والقتل، والعلاقات المحرّمة، والسرقة، والغدر، والنفاق، وغير ذلك ممّا جعل الأمّة الإسلامية في سبات عن الدين القويم، وفي غفلة عن شريعة سيّد المرسلين.

المحور الثاني: الشباب والحياة العلمية بعد أن أخذنا إطلالة مجملة حول مميزات مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) نقف الآن على الواقع العلمي للشباب في الوقت الحاضر، فالمراقب والمتابع للسير العلمي والحركة المعرفيّة عند الشباب المسلم يجد تراجعاً واضحاً، وتخلّفاً ملموساً، وهذا التراجع والتخلّف لم يكن ناتجاً عن فراغ، بل له أسبابه التي ولّدته، وجعلته يقود الأمّة الإسلامية إلى مراتب متدنيّة في المجال العلمي.

 وليس المقام مقام استقصاء كلّ الأسباب والظروف التي أوجدت لنا هذا الواقع المؤلم، وإيجاد الحلول لها، وإنّما سنعرض إلى إشارات تعكس جانباً من جوانب الوضع التعليمي عند الشباب المسلم، وهي كالتالي: الإشارة الأولى: ربط العملية التعليمية بالهدف الحقيقي عندما نرجع إلى العلماء القدماء من المسلمين نجد الهمّة العالية، والجدّ المستمر، والعزيمة الصلبة، فتراهم يلتذون بالعلم التذاذاً عجيباً جداً، وكأنّهم أعظم الملوك في الأرض، أو أثرى الأثرياء في العالم، فما هو السرّ في هذا التعلّق العميق بالعلم والتعلّم؟! قد يُقال أنّ منشأ هذا الارتباط القويّ هو سموّ الهدف من جهة، ووضوحه من جهة أخرى، فأولئك العلماء حينما كانوا يدرسون ويتدراسون، ويبحوثون ويتباحثون، كان همّهم الأعلى، وغايتهم الكبرى هي إحياء الدين، وإعلاء كلمة الله في الأرض، فهم يدرسون الكيمياء والرياضيات وغيرها من العلوم لا لأجل ذاتها، وإنّما لبناء الأمة، وإصلاح المجتمع، وإعداد النخب، فكلّما نظروا إلى الهدف والغاية ازدادوا شوقاً وتلهفاً لطلب العلم وتحصليه.

 وإذا وقفت في هذه الأيام مع الشباب فإنّ البعض منهم قد غاب عنه الهدف الحقيقي لطلب العلم، فترى عزيمته واهنة، وإرادته متهالكة، فجلّ ما يصبو إليه هو أن يحصل على شهادة من إحدى الجامعات تمكنه من استلام وظيفة مرموقة، حتى يعيش حياته المادية برخاء وهناء، وبعد أن يحصل على هذه الشهادة تراه قد ودّع شيئاً يُسمى العلم والمعرفة، واعتقد في سريرته أنّ المشتغل بذلك مضيّع لوقته وعمره.

 فلو وقف هذا الشاب وأمثاله على الهدف الحقيقي لتحصيل العلم، لطلبوه بنهم وشغف كبيرين، كيف لا وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وَطَالِبُ عِلْمٍ، فَمَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ سَلِمَ، وَمَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلا أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُرَاجِعَ، ومَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وعَمِلَ بِعِلْمِهِ نَجَا وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّه»(16).

 الإشارة الثانية: الإعداد والتخطيط التخطيط والإعداد للمناهج الدراسية المعتمدة في الجامعات والمدراس ليس تخطيطاً مناسباً لتخريج فئة متميزة، ونخب بارزة، تقود الأمّة إلى الرقيّ والازدهار، وذلك يرجع لأمرين: الأوّل: أنّ البرامج المعدّة للمتعلمين خلال فتراتهم الدراسية المختلفة برامج ذات أفق محدود، فكلّ مرحلة يكون لها تخطيطها المستقلّ عن المرحلة الأخرى، والمنبه على ذلك أنّ الطالب حينما ينتقل من مرحلة إلى أخرى يحسّ بانتقالة كبيرة جداً بين المرحتلين، ويلاحظ عدم وجود الترابط، بينما تلقاه في المرحلة الأولى والمرحلة الثانية، وهذا الأمر يجعل المعلومات في ذهن الطالب مبعثرة ومشوشة.

 الثاني: أنّ المناهج المعدّة ليست معدّة لتخريج كفاءات بارزة، أو عناصر فاعلة، وإنّما هي كفيلة بإعداد متعلمين لديهم ثقافة موسعة في المجال الذي قد تخصصوا فيه، وعلى هذا فكيف سترتقي الأمة ذرى المجد وهي لا تملك مفكرين قادرين على انتشالها من غيابت الجهل إلى أفق المعرفة والكمال؟! الإشارة الثالثة: التقليد وعدم الإبداع الأجواء الدراسية الموجودة في الجامعات والمدارس المختلفة ليست أجواءاً دافعة نحو الإبداع، والابتكار، والاكتشاف، حيث لا تتوفر الإمكانيات اللازمة لخلق روح الإبداع، وترتب على ذلك أنّ الشعوب الإسلامية أصبحت شعوباً مقلّدة في الفكر والثقافة للأطروحات الغربية، ومستوردة للمواد الاستهلاكيّة بشتى أنواعها، فهي متبعة للغرب في المجالات العلمية اتباع الفصيل لأمّه، فأيّ حضارة هذه التي سوف تُبنى، وأيّ رفعة هذه التي سوف تُحقق؟؟.

كانت هذه بعض الإشارات التي تمسّ واقعنا العلمي، ويظلّ البحث حول هذه المسألة وتفاصيلها محتاجاً إلى مراجعة، وتدقيق، وتحرٍ أكثر، كي يقف المجتمع المسلم على أسباب الضعف ويحاول معالجتها، ويقف على أسباب القوة ويجهد في تحصيلها.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصادر والهوامش

  • (1) وسائل الشيعة،ج1،ص114.
  • (2) آل عمران: 7.
  • (3)آل عمران: 18.
  • (4) الكافي، ج1، ص30.
  • (5) الكافي ج1، ص32.
  • (6) كتاب الوافي، ج1، ص134.
  • (7) كتاب الوافي، ج1، ص 125.
  • (8) الكافي،ج1،34.
  • (9) الكافي،ج1،ص35
  • (10) تذكرة الحفاظ،ج1،ص166.
  • (11) تهذيب التهذيب،ج1،ص88.
  • (12) الإمام الصادق (عليه السلام) والمذاهب الأربعة،ج1،ص53.
  • (13) الصواعق المحرقة،ص201.
  • (14) الإمام الصادق (عليه السلام) والمذاهب الأربعة،ج1،ص55، نقلاً عن رسائل الجاحظ.
  • (15) بحار الأنوار، ج10، ص220.
  • (16) الكافي،ج1،ص46.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى