ثقافة

العزة من منظور القرآن الكريم القسم الأول

المقدمة: بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي انتفض الأحرار ليواجهوا الظلم والاضطهاد بكل أنواعه وأشكاله، ومن بين الدول التي قام فيها شعبها بالاحتجاج هي البحرين، فقام شعب البحرين بمختلف أطيافه وفئاته بالمشاركة في المسيرات والاعتراضات والمظاهرات السلمية المطالبة باستراجاع الحقوق، وتشكيل حكومة منتخبة من الشعب، وتوزيع عادل للدوائر الانتخابية، ورفض التمييز والطائفية والتجنيس وما شاكل ذلك.

 وفي طيّات هذه الثورة كثرت الكلمات والمواقف والخطابات التي تؤكد على حفظ عزة الشعب وصونها من الإذلال والمعاملة الظالمة، وانتشر على ألسن الناس كلمة العزة والذلة، فصار مطلب العزة أمراً أساسياً يتحتم المطالبة به.

 ومنها قمتُ أسأل ما معنى العزَّة التي يطالبون بها؟، وكيف تكلّم القرآن والسنّة عن العزة؟ ولم يكن من المناسب استعراض الآيات والروايات معاً في مثل هذا البحث القصير، فآثرت الاقتصار على بحث مفهوم العزة في مضامين آيات القرآن الكريم، وعلاوة على ذلك أحببت أن أطلع أكثر على القرآن وعلى كيفية التدبر والتأمل في آيات القرآن.

 وفي حقيقة الأمر أن الذي دعاني لاختيار العنوان هو عندما رأيت أن أهل السنة يوجد عندهم بحوث تخص العزة في القرآن والحديث، وذلك على مستوى بحث طويل أو مقالات قصيرة، وأما عندنا الشيعة لم أجد بحث العزة بشكل توسعي على ضوء القرآن، والذي يوجد هو فقط مقالات، نعم، توجد بحوث تحقيقيَّة عن العزة ولكن ليس باللغة العربية بل بالفارسية، وهذا يقيد الاستفادة منها باعتبار اختلاف اللغة، فعمدت إلى تحقيق العزة في القرآن بشكل موسّع.

المبحث الأول: مفهوم العزَّة لغةً واصطلاحاً أولاً: العزَّة في اللغة العزَّة من مصدر عَـزَزَ، ويقابلها الذلَّة، والعزَّة ينطلق معناها من الشَّيء القليل الذي أصبح وجوده يقارب النّدرة بسبب قلَّته[1]، وعلى هذا المعنى تفرَّعتْ معانٍ أخرى ترتكز على المعنى الأساس وهي: القهـر والصَّلابة[2]، والشـدَّة[3]، الغلـبَة والقـوَّة[4].

 ومن خلال بعض كلمات العرب في القواميس يظهر أنَّ العزة كمعنى يُطلق على الإنسان وغيره كالأرض.

 ثانياً: العزَّة فـي الاصطلاح مفهوم العزة لا ينحصر وجودها في مجال معيَّن، بل من خلال البحث وجدت من يتكلَّم عن الإذلال في علم الفقه[5]، وآخر في الأخلاق[6]، وثالث في علم النَّفس، ولكن بما أن البحث يقوم على أساس النَّظر في آيات القرآن، فيلزم أن نأتي بالمعنى الاصطلاحي عند أهل التفسير.

 ويظهر من كلام الشَّارح لمفردات القرآن ووأهل التفسير أنهم أتوا بالمعاني الفرعيَّة للعزَّة، فقالوا بأنَّ العزَّة عبارة عن (غلَبة) أو (صلابة) أو (صعوبة).

 فقد جاء في المفردات[7] أنَّ العزَّة حالةٌ مانعة للإنسان من أن يُغلب، فالراغب الأصفهاني قيَّدها بأنها حالة ولم يشر إلى المعنى الأصيل للعزَّة (القلّة).

 بينما رأى صاحب تفسير الميزان[8] أن أصل معنى العزَّة هو الصلابة: الصَّلابة هو الأصل في معنى العزَّة ثم توسع فاستُعمل العزيز فيمن يَقهَر ولا يُقهر، كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا}[9].

 ثم ذكر العلامة الطباطبائي مجموعة من المعاني المستعملة في العزَّة وطبقها على آيات من القرآن ومنها: “العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}[10]، والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ}[11]، والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ}[12]”.

 وأيضاً ذكر في تفسير الأمثل[13] أن العَّزة بـمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنّفوذ.

 المبحث الثاني: الفروق بين مفهوم العزَّة ونظائرها خصَّ الله العزَّة له ولرسوله| وللمؤمنين، وهذا الاختصاص من قبله يستدعي الوقوف على التفريق بين العزَّة ونظائرها؛ حتى لا يحصل الخلط فيَذهب البعض لتحصيل أمر مذموم معتقداً أنَّه عزة، والمتبادر إلى الذهن هو هذه المصطلحات القريبة من مفهوم العزَّة: الكِبر، العَظَمة، الفخر، الشَّرف.

 أولاً: العزة والكبر كان من المهم التفريق بين العزَّة والكِبر؛ حتى لا يُفهم أنَّ العزَّة تكبُّر باعتبار أن معنى العزَّة يؤول إلى الإحساس بالقوَّة، والكبر أو التكبّر فيه شعور بأن المتكبِّر أكبر من فلان في القوة أو شيء آخر.

 “العزَّة تشبه الكِبر من حيث الصورة، وتختلف عنه من حيث الحقيقة، فصورة العزَّة تشترك مع الكِبر في معنى القوة والشدة …، وتختلف عنه في أمرين: الأمر الأول: من حيث الدافع لهذه القوة والشدة والرفعة والمنعة؛ فالأول: إكرام النفس، وطلب مرضات الله، والثاني: إزدراء الخلق والتعالي عليهم، وإشباع رغبات النفس.

 الأمر الثاني: أن العزة مقرونة بالعفو، والرحمة، والعدل، والإيمان، بخلاف الكِبر: فإنه مقرون بالتعالي، والظلم، والغرور”[14]. ثانياً: العزَّة والعَظَمة التقسيم والتفصيل قاطع للشركة، فنلاحظ الحديث الآتي أن الإمام (ع) نفى وجود العَظمة فيه، وأثبت العزَّة له، وهذا له دلالة على وجود فرق بين المفهومين، وعلى سلبيَّة الاتصاف بالعظمة لغير الله، فهو المتفرِّد بالعظمة.

قِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ  (ع) إِنَّ فِيكَ‏ عَظَمَةً قَالَ: >بَلْ فِيَّ عِزَّةٌ قَالَ اللهُ تَعَالَى‏ ولِلهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين‏<[15].

 نلاحظ كم كان الإمام (ع) دقيقاً في تصرفاته وسلوكه، فعندما رأى شخص الإمام على حالة أو فعل ما، حسبه بذلك يتعظَّم على الناس، ولكن الإمام (ع) قطع الشك باليقين فقال هذه عزَّة واستدلَّ بالآية، فالإمام (ع) أراد القول بأن المؤمن لا يليق به العظمة، بل ما يناسبه هو العزَّة والله أثبتها له.

ثالثاً: العزَّة والفخر كذلك هنا نجد الاشتباه يحصل للبعض، بحيث يعتقد أن العزة بها اكتساب للقوة ومصادر هذه القوة مختلفة، فيقوم بالتعالي على الناس لأن نَسَبه يغلب نسب آخر في الامتداد مثلاً، أو يَقهر آخر على أنَّه هو الأكثر مالاً وولداً، ويحسب أن ذلك هو العزَّة المنصوص عليها في القرآن بأنها للمؤمنين، فيحصل اشتباه في التَّطبيق.

 فهنا تعريفان لـ (الفخر) بالتأمُّل فيهما نميّز الفخر عن مفهوم العزَّة ونضع الحدّ الذي يفصلهما عن بعضهما.

 التعريف الأول: “الْفَخْرُ: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه”[16].

التعريف الثاني: “أنّ الأصل الواحد في المادة: هو دعوى فضيلة له ممتازة في قبال آخرين، وهذه الفضيلة إمّا في نفسه من صفة باطنيّة أو عمل، وإمّا في الخارج كالفضيلة في حسبه أو نسبه أو صاحبه، ويكون النظر الى تعظّم وتشرّف وتمدّح مستندا الى فضيلة معيّنة”[17].

على ضوء التعريف نجد أن مفهوم الفخر يكون في العالم الباطني والظاهري للإنسان، فالإنسان يـملك أشياء أو يحوزها بشكل عام، ويرجع نسبه وأصله لعائلة، ويسكن في بلدة ما، وينتمي لشعب من الشعوب، فنراه إذا أراد الافتخار جلب ما عنده وقام يـمتدح نفسه بها وهكذا. بينما الأصل في العزَّة حالة داخلية باطنية يُشعر بها عدم قبول الانكسار بحقّ لا بشكل مزيَّف، ولها مظهر خارجاً.

 رابعاً: العزة والشرف العلو والمكان العالي هو ما يذكره اللغويون عن الشَّرف، فلعلَّ البعض يتصوَّر أن العزّ سبب لأن يرتفع به الإنسان عن كلِّ شيء على نحو الإطلاق، وهذا تصوّر خاطئ؛ الصحيح هو الارتفاع والغلبة على الأشياء المُـذلة والمخزية فقط، فالشرف يشابه العزة بنحو ما لا من كلِّ الجهات.

“أن العز يتضمن معنى الغلبة (أو القلة) والامتناع، والشرف إنما هو في الأصل شرف المكان ومنه قولهم أشرف فلان على الشي‏ء إذا صار فوقه ومنه قيل شرفة القصر وأشرف على التلف إذا قاربه”[18].

 المبحث الثالث: تـحليل حقيقة العزَّة قد يكون المعنى اللغوي والاصطلاحي لا يفي بالتعرّف على حقيقة العزَّة بنحو عميق، أي يتعرَّف على معقد العزة من الإنسان ووظيفتها وما تقوم به، وأين يجب البحث عنها، حيث تطرَّق المفسّرون لذلك.

 فقد جاء في تفسير الأمثل[19] أن حقيقة العزَّة قدرة تتجلّى في قلب وروح الإنسان، تبعده عن الخضوع والاستسلام أمام الطُّغاة والشّهوات، وبذلك يصل إلى مستوى الصَّلابة.

 وذكر صاحب التبيان تحليلاً للعزة يشبه ما ذكره تفسير الأمثل، فقال: “والعزة القدرة على كل جبار بالقهر بأن لا يرام ولا يضام”[20].

ولكن العلّامة المصطفوي خالف التفسيرَين السَّابقَين في تحليله وتحقيقه للعزَّة: “مفاهيم القوّة والشدّة والصحّة والعزّة وأمثالها: إنّما هي من آثار التسلّط ومن لوازمه”‏[21].

 اتّضح لنا أنّ العزة تلامس الجانب الروحي والقلبي للإنسان، وهذا يكشف عن مكانة العزة بالنسبة للإنسان؛ لأن الروح مقوِّمة للبدن، وبدن بلا روح يُعتبر ميّتاً، فكذلك الأشياء المتعلّقة بالروح كالعزَّة، فنقول بأنّ الإنسان حين تتوفّر روحه على العزَّة يصير في حياةٍ ونشاطٍ وحيويَّة.

 ونستنبط أيضاً أنَّ العزَّة قدرة وسلطة نفسانيَّة باطنيَّة للإنسان يطرد بها كلَّ أمر يسبِّب له الذلة والخضوع والانتكاس، وهذه القدرة تتجلَّى في مكان طاهر وهو القلب، وتُـمازج الوجود المعنوي للإنسان وهو الروح، وعليه نقول بأنَّ العزة بـمعناها ومفهـومها ومعاقدها وثـمراتها تـمثِّل للإنسان مطلباً مهمّاً لا بدَّ من تحصيله لعظمته ونفاسته.

 وعلى ضوء هذا التحليل تُعرف العلاقة بين القلب والروح من جانب والعزَّة من جانب آخر، وهذه المعرفة تحفّز الإنسان على تزكية قلبه وروحه لزرع العزَّة، ومن ثم تنميتها بالفضائل والمكارم والأخلاق الحسنة.

 المبحث الرابع: أهميَّة عزَّة المؤمن عزة المؤمن نابعة من عزة الله ونبيّه وكتابه ودينه، ومن يرتبط بالعزيز يكون عزيزاً، فهو يأبى الذلّ والنقص والخضوع، وورد في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع) عبارة صريحة في كون عزة المؤمن من عزة الله: >يَا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ والرِّفْعَةِ وأَوْلِيَاؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّون‏<[22].

 فيكفينا أن نعرف أن المؤمن يعتز بعزته حتى ندرك مدى الأهميَّة لعزة المؤمن، فعندما تُحترم وتُحفظ هذه العزَّة فإن هذا احترام لعزته، وعلى العكس، عندما تُهان عزة المؤمن فهذا يعني أن عزة الله قد تعرَّضت للإهانة.

 ونجد أيضاً في كتاب الله العزيز وروايات المعصومين^ ذكراً لعزَّة المؤمنين بطريقة تبيِّن أهمية ذلك.

 أـ كتاب الله: قال الله تعالى: {وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقينَ لا يَعْلَمُونَ}[23].

 من الممكن أن تُذكر عدَّة أوجه دالة على أهميَّة المؤمن على ضوء الآية، فالأول هو تصريح القرآن بوجود عزَّة للمؤمنين، بل وحتى أن ذكر ذلك جاء في سياق ذكر عزة الله وعزة الرسول|، فلو لم تكن لعزة المؤمن أهمية لما خصّ القرآن ذلك له.

 وأما الثاني هو بالاستعانة بعلم النحو، حيث نلاحظ هنا في الآية وجود (لام جارّة) وهذا لها عدة معاني، فإذا وقعت اللام بين معنى (العزَّة) وذات (الله) كانت الدَّلالة هي الاستحقاق، فنجد أن ابن هشام في مغني اللبيب ذكر هذا المعنى لهذا النوع من اللام. “الاستحقاق وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو (الحمد لله) و(العزَّة لله)”[24].

 وعند تطبيق ذلك على موردنا نرى استحقاق المؤمن للعزَّة، والاستحقاق يعني وجود حقّ، والحق أمر خاصّ لا يمكن التنازل عنه أو غض الطَّرف عن المطالبة به.

 ب ـ الروايات وفي السنّة أيضاً كلام يشدّد على أهمية العزَّة للمؤمن، وهذا يتّضح من ألسنة الروايات.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: >إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ إِلَّا إِذْلَالَ نَفْسِهِ<[25].

لأنَّ شأن العزَّة عظيم فإن الله لم يفوِّض أمرها حتى إلى المؤمن، فهذا يعني أنها من شؤون المولى، ويتبيَّن أن في الحديث إطلاق (كُلَّ شَيْ‏ءٍ) ويُستفاد من هذا أنه تُوجد أمور كبيرة ومهمة في حياة المؤمن، ولكن هي في تصرُّفه ومفوَّضة إليه، ولكن إذلال النَّفس فاقت أهميته تلك الأمور فلم تعد من تصرّفات المؤمن ولم تُفوَّض إليه.

 وكذلك في حديث آخر عن الإمام الحسن (ع) يُثبت لنفسه العزَّة.

 قِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) إِنَّ فِيكَ‏ عَظَمَةً قَالَ: >ب

المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى