ثقافة

العفة في الآيات والروايات

 المقدّمة نواجه في المجتمع اليوم تحدّيات كبيرة وثقيلة، ومنها الهجوم على عفّة المسلم ومحاولة جرّها نحو المحرّمات بغية تدنيسها وتلويثها، وهذا له صور واضحة في الموادّ الإعلاميّة والثقافيّة والاجتماعيّة لدى أعداء الإسلام والدّين، فَهُم يشنّون حرباً ناعمة على عقول وأخلاق المؤمنين والمؤمنات، فتراهم يبثّون التحلّل الأخلاقي ويقنّنون الفحشاء والرذيلة، ويضعون الحماية لأصحاب الإفساد في الأرض[1].

ولذا شددتُ العزم والهمّة على انتخاب عنوان (العفّة) لهذا البحث المتواضع، وأردت من ذلك عرض الرؤى القرآنيّة والروائيّة المرتبطة بالعفّة والعفاف، حتى أضيف الأصالة إلى مبدأ العفّة؛ لأنّ كتاب الله هو الهادي لكلّ شيء، وكلام المعصوم (ع)  هو يرافق القرآن في الحجيّة والنورانيّة.

وحتى أضع الخريطة كاملة آليت على نفسي أن أوضّح معنى العفّة أولاً، ومن ثم أستخرج الوسائل الموصلة والمُورِثة للعفّة، وبعدها أعرض الآثار الحاصلة نتيجة التعفّف، وهذا له الدور في توعية الشباب والشابات عن العفّة بصورة جليّة ترغيباً لهم في السعي لاكتسابها والحفاظ عليها وصيانتها من عبث الأعداء بها.

 السؤال الأساسي للبحث: ما هي رؤية القرآن والسنة للعفَّة؟ الأسئلة الفرعية: * ما هو مفهوم العفّة في اللغة والاصطلاح؟ *  ما العوامل المساعدة على نيل العفة؟ * ما هي الآثار الناتجة من تحصيل العفّة؟ تمهيد قبل الخوض في تفاصيل هذا البحث المرتبط بآيات القرآن الكريم وروايات المعصومين^، نذكر المعنى المقصود من العفَّة، وهذا تمَّ بحثه في القواميس والمعاجم اللغويَّة والاصطلاحيَّة، وهذا  التمهيد له دور وأهميَّة في رسم المبادئ التصوريّة عن البحث لدى القارئ الكريم.

العفَّة في اللغة: يذكر صاحب كتاب العين بأنّ العِفَّة هي “الكفّ عمَّا لا يحلّ”[2]، والعفَّة مأخوذة من مادّة (ع ف ف). كقولهم عفَّ عن الشّي‏ء يعفّ عفّة.

 وأمّا في معجم مقاييس اللغة فقد ذكر صاحبه: “(العين) و(الفاء) أصلان صحيحان: أحدُهما الكفُّ عن القبيح، والآخر دالٌّ على قلّة شي‏ء. فالأوّل: العِفَّـة [بكسر العين]: الكفُّ عمّا لا ينبغى، والأصل الثانى: العُفَّـة [بضم العين]: بقيّة اللّبن فى الضَّرع”[3].

 العفَّة في الاصطلاح: أورد الراغب الأصفهاني أنّ العِفَّة: “هي حصول حالة للنّفس تـمتنع بها عن غلبة الشّهوة، والْمُتَعَفِّفُ‏: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، والاستِعْفَافُ‏: طلب العفَّة”[4].

بينما نجد أنّ العلامة حسن المصطفوي قام بتحقيق معنى العفَّة وقال: “هي حفظ النَّفس عن تمايلاته وشهواته النَّفسانيّة، فَالْعَفُّ يتعلَّق بما يكون في النَّفس”[5].

عوامل العفَّة على ضوء الآيات والروايات العفّة مثل أيّ خلُق وفضيلة فإنّ لها طرقاً تعين على اكتسابها والتحلّي بها، وتوجد وسائل إذا أخذ بها السالك أوجَد في نفسه العفَّة، وهذا البحث يتكئ على ضوء الآيات والروايات فكان من المناسب تدبّر القرآن والأحاديث لاستخراج واستنباط العوامل التي تؤدّي إلى العفَّة.

الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان الاستعاذة عبارة عن طلب اللجوء إلى الله لنيل العون والحماية من وساوس الشيطان وأعماله القبيحة، ونجد في الآية التالية أنّ السيدة مريم عندما احتجبت عن القوم لكي تضع المولود رأت بشراً فخافت من أنْ يؤذيها لوحدها وهي طاهرة عفيفة، فاستعاذت بالرحمن ولجأت إليه.

 قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}[6].

‏الثاني: الاستعانة بالله ذكر صاحب تفسير الأمثل[7] أنّ نساء مصر قمن بترغيب النبي يوسف (ع)  من امرأة العزيز، وذلك ليُفتنّ النبي (ع)  ويقع في حبّها ومعصية الربّ، ولكن يوسف (ع)  استعان بربّه ليحفظ عفّته وقال: إذا لم تصرف عنّي كيد النساء أقع في ما لا يرضيك، فاستجاب له ربّه وصرف عنه كيدهنّ.

 قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ… * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}[8].

 ‏الثالث: الإيمان بالله بعد دعوة زليخا النبي يوسف (ع)  للمعصية استعاذ بالله وقال إنّ ربّي أحسن تربيتي وإكرامي ومنزلتي، وهذا الاستذكار عبارة عن إيمان في قلب يوسف (ع)  بحيث ما إن عُرضت عليه المعصية تجلّى إيمانه واعتقاده بالله وتذكّر تربية ربّه له، فالإيمان بالربوبيَّة أعانه وأبقى عفَّته.

 قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[9].

 الرابع: التقوى التقوى تعني حفظ الشَّيء عن الخلاف والعصيان في الخارج وفي مقام العمل[10]، وبين العفّة والتقوى علاقة وثيقة، ونلاحظ أنّ السيدة مريم÷ لما استعاذت بالله كان ذلك نتيجة خوفها أن يكون ذلك الرجل الذي ظهر لها سيئاً ويريد أن يؤذيها، فمن لا يتقي ربّه يعصي وأما المتقي يتعفَّف.

 قال تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}[11].

وهذا المعنى نجده في قول الإمام علي  (ع) : >إنّ الأتقياء كلُّ سخيّ متعفف محسن<[12]، ومفاده أنّ الأتقياء يتفرّع على تقواهم العفّة وغيرها. ‏الخامس: الستر والحجاب عند وجود حاجة أو مسألة بين رجل وامرأة أجنبيّة عنه، فإنّ إسدال الحاجب وإنزال الساتر له أن يُبقي الطَّهارة والعفاف ويسدّ منفذ الشيطان، وهذا يجعل القلوب في حالة أطهر مما لو تقابل الرجلُ مع المرأة وجهاً لوجه، فإنّ البصر سهم فمن الممكن أن يغتال الناظر ويخدش من عفّته.

 قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[13]. السادس: رحمة الله نلاحظ في الآية التالية اعتراف النبي يوسف (ع)  بالرحمة الإلهية التي أنقذته وصانت عفَّته، حيث يقول (ع)  إنّ النَّفس تأمر بالسوء وتدعو الإنسان إلى المعصية، ولكن مَن ينصره الله على النفس يجعل عفّته هي السلطان على أهواء النفس الشهوانيّة. قال تعالى: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * … وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[14].

‏السابع: رؤية برهان الله (لولا) حرف شرط يدلّ على امتناع شيء لوجود غيره، وفي قصة النبي يوسف (ع)  يُذكر في الآية أنّه فكّر في الحرام لولا أن رأى البرهان، يعني امتنع عصيانُ يوسف (ع)  لوجود البرهان، والبرهان هو نور من الإيمان وخشية الله[15]، فرؤية البرهان كان العامل الأصلي لعفَّة النبي يوسف (ع) .

 قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[16]. الثامن: الغيرة المحمودة الغيرة تعلُّق شديد بشخص الحبيب مع الخوف من ميله لآخر، ونرى في كلام أمير الفصحاء الإمام علي (ع)  المقياس لعفّة الإنسان، وذلك بقياسها بالغيرة ومقدار حجمها، فمن يغار غيرة حميدة على أهله يتعامل مع الأجنبيّة بكلّ عفّة ولا يسمح لشهوته بالعبث خارج إطار ما رسمه الشَّرع.

الإمام علي (ع)  في نهج البلاغة: >قدْر الرجل على قدْر همّته… وعفّته على قدْر غيرته<[17]، وقال أيضاً  (ع) : >ما زنا غيور قطّ<[18].

 التاسع: تأمين الحاجات الجنسيَّة بالزواج الزواج من سنن الرسول| وفيه يقضي الإنسان غريزته وفق ما قرَّره الشَّارع له، وقد حثّ دين الإسلام على رعاية الحقوق الزوجيَّة كثيراً، بل شدَّد وغلَّظ على ذلك مريداً إغلاق أي متنفَّس لشهوة الحرام، وهذه الرواية لها دلالة بتلبية رغبة الزوج الجنسيَّة والسعي لإشباعها ليُحصن الزوج عفَّتُه.

 عن أبي عبد الله (ع)  قال: >جاءت امرأة إلى رسول الله|، فقال: يا رسول الله! ما حق الزوج على المرأة… وتعرِض نفسها عليه غدوةً وعشيّةً<[19]. العاشر: تجمُّل وتـزيُّن الزوجة والزوج التزيّن والتجمّل وظيفة متبادلة بين الزوجَين لصنع الانجذاب ومتعة البصر والارتياح النفسي بينهما، ومن المستحبّات هو التنظّف والتَّهيئة للآخر فيما بين الزوجَين، وثمرة ذلك واقعيّة جداً؛ لأنّ الكون بهيئة جميلة يثبّت العفَّة ويرفعها في النَّفس، وذلك لا ينحصر بعمر الشباب بل حتى المشيب.

* عن أبي جعفر (ع)  قال: >لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها ولو في عنقها قلادة ولا ينبغي أن تدع يدها من الخضاب ولو تمسحهما مسحاً بالحنّاء وإن كانت مسنّة<[20] * قال رسول اللّه |: >عفُّوا تَعِفَّ نساؤكم، إنّ بني فلان زنوا فزنت نساؤهم<[21] * عن الحسن بن جهم قال: >رأيت أبا الحسن (ع)  اختضبَ فقلت: جُعِلت فداك اختضبتَ؟ فقال: نعم، إنّ التهيئة مما يزيد في عفّة النساء<[22] الحادي عشر: الحياء الحياء هو انقباض النَّفس عن القبائح[23]، والفحشاء والمنكرات المتعلّقة بالشَّهوة قبائح عظيمة، والمستحِي يستقبح الرذائل والدنايا. وكلام المعصومين يذكر صراحةً أنَّ الحياء عامل في تكوين العفَّة والعفاف، وانقباض النفس (الحياء) يُصنَع بمجاهدة أهواء النفس حتى يُرى القبيح مذلّة ليُنفر عنه. 

 عن الإمام علي (ع) : >الحياء يصدّ عن فعل القبيح<[24]، و>على قدر الحياء تكون العفّة<[25]، و>سبب الْعفّة الحياء<[26].

 الثاني عشر: الصبر عن الشّهوة نقصد من هذا أنَّ الإنسان عندما يتحمّل ويحبس نفسه عن مصادفة المكروه، فهو بذلك يرقى ويسمو لمرتبة العفّة، والشَّهوة عبارة عن اشتياق النفس وشدة ميلها للملذّات، وهي لها أوقات تستعر وتشتدّ فيها، ومن يريد أن يبقى على الطَّاعة يصبّر نفسه ويتكلّفها عن الوقوع في المعصية بالعفاف.

عن الإمام علي (ع) : >الصّبر عن‏ الشهوة عفّة<[27].

الثالث عشر: الاقتناع بالكفاف الكفاف هو ما يكون بقدر الحاجة إليه من غير فضل وزيادة، وفي حياتنا الدنيا الكثير من الملهيات والمشتهيات المتنوعة، والإنسان الساعي للكفاف والرضا والاقتناع بما يكفيه يعني أنّه يسير نحو التعفُّف والتحرّز من السقوط في أمر محظور أو مشبوه، ومَن يطلق لنفسه العنان في تقبّل كل ما يُلهي ويُشهّي فإنَّه يدع نفسَه معرضةً للمخاطر والمخالفات الشرعيَّة. 

 قال الإمام علي (ع) : >مَنِ اقْتَنَعَ‏ بِالْكَفَافِ‏ أَدَّاهُ إِلَى الْعَفَافِ<[28]، وقال أيضاً >الرِّضَا بِالْكَفَافِ‏ يُؤَدِّي‏ إِلَى الْعَفَافِ<[29].

آثار العفَّة على ضوء الآيات والروايات عند الإمساك بالعفة والقيام بلوازمها فإنّ ذلك ينعكس على الإنسان من الناحية المادية والمعنوية، وفي القرآن والسنّة آثار متعددة موجودة في الآيات والروايات ومنها: ‏الأول: الاعتدال الجنسيّ العفّة والطَّهارة باعثة على الاعتدال في المسائل الجنسيّة، والمحافِظ على فَرْجه من التلوّث والانحراف لا يتجاوز الضّوابط الشّرعية، فالمتعدّي هو الظالم والمتجاوز إلى ما لا يحلّ، والآية هنا تصفه بـ(العادُون)[30]، فالعفّة وتوظيف الشهوة في الحلال تجعل الرغبة الجنسيّة معتدلة وصحيّة.

 قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[31].

 ‏الثاني: الاستفادة من فضل الله أمَرَ الله غير القادر على الزواج -لغلاء التكاليف مثلاً- بالاستعفاف إلى أن يستغني ويستطيع، والنكتة اللطيفة في الآية أنّ بعد الأمر بالاستعفاف يُنتظر الاستغناء من الله لا من غيره، فهذا يُعتبر كالجائزة الممنوحة لمن يتعفّف ويمتنع عن الذنوب حال ما يكون أعزب.

 قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ}[32].

 الثالث: النزاهة والبعد عن السوء العفة تبعث على الصيانة والنزاهة من الاتهام بالخبث ومن الكلام الخبيث، والخبث يسوق إلى الدناءة وعدم العفّة، ونرى في الآية القادمة إيجادها المناسبة بين الخبيث والخبيثة من جهة، وبين الطيّب والطيّبة من جهة أخرى، وأضافت وقالت إنّ الطيّبين والطيّبات (الذين يتحلّون بالعفّة) ساحتهم مبرّأة وخالية مما يقوله الخُبَثاء من فحش الكلام وقبيحه، فمن ثمار العفّة الاتصاف بالنزاهة.

قال تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[33].

 الرابع: جواز الزواج بالكتابيّة حَكَم الفقهاء بجواز الزواج من الكتابيّة[34]، ومن الأدلة المستند إليها هو الآية التالية، وعند التدقيق في الآية نجد أنّها وضعت قيداً للكتابيَّة وهو كونها مُحصنة أي عَفيفة[35]، وعليه نستنتج أهميّة العفّة حتى في الارتباط بغير المُسلمة، فقَيد العفّة كان عنواناً داخلاً في مسألة جواز الزواج من الكتابيَّة.

 قال تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ… وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}[36].

 الخامس: حصول الخير في الدنيا والآخرة[37] العجائز والنساء الكبيرات اللاتي لا يتوقّعن أن يتزوّجن بعد وهم في سنّ الشيخوخة قد سمح لهن الشارع وفسح لهن المجال قليلاً في مسألة الحجاب، فلهنّ أن يتخلّين عن اللباس الفوقاني شيئاً ما من غير تبرّج، ولكن مع هذا الاستثناء لهم فإنّ الاستعفاف أفضل لهنّ؛ لأنّ فيه الخير والصلاح.

 قال تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[38] وأيضاً نرى نفس المضمون في الرواية: عن الإمام علي (ع) : >إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً أَلْهَمَهُ الْقَنَاعَةَ فَاكْتَفَى بِالْكَفَافِ وَاكْتَسَى بِالْعَفَافِ<[39]‏ ‏السادس: الفلاح والنجاح الفلاح هو البقاء على الخير والنجاة من الشرور وإدراك الصلاح، وفي القرآن عدَّد الله مجموعة من الصفات التي يتميّز بها المؤمنون، ومنها (حفظ الفرج)، فالمؤمن الذي يفلح وينجح هو من يصون فرْجَه عن الفساد والتلوّث بالحرام، فثمرة حفظ الفَرْج هو الفلاح والبقاء والاستمرار عليه.

 قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ… وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[40].

 ‏السابع: الحماية والصون من التحرُّش والأذى من الواضح أنّ المرأة التي تتستّر بالجلباب وتمتنع من كشف جسدها فإنّها بذلك تجعل عفّتها محفوظة، والأمور الغريزية لديها مصونة وفي أمان من التحرّش، ونجد في الآية خطاباً للنبي| بأن يأمر بناته ونساءه برعاية ارتداء الجلباب خوفاً من معرفتهن من قبل الآخرين وأذيّتهم لهنّ، وطبعاً الخطاب يتجاوز إلى كل النساء المسلمات بأن يحفظوا الحجاب الشَّرعي الكامل.

 قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}[41].

 الثامن: استحقاق المغفرة والرزق الكريم والأجر العظيم من يقوم بطاعة ربّه ينال الإكرام من الله، والمتعفّفون والمتعفّفات خُصّص لهم المغفرة والصفح الإلهي، وأيضاً يكونوا في عناية خاصّة من قبل الله من ناحية الرزق، فيحصلوا على كريم الرزق والأجر استحقاقاً لهم لمجاهدتهم لأنفسهم ومحافظتهم على عفافهم.

* قال تعالى:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ… لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.[42] * قال تعالى:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ… أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.[43] التاسع: تضعيف الشَّهوة وحفظ عفّة الزوجة من الوسائل التي تعمل على تضعيف الشهوة وتنظيمها على الخط الصحيح هو العفّة، بحيث من يشعل شهوته ويثيرها على الأهواء وبالشكل العشوائي يشعر بالارتباك، ويرى أنّ غريزته مسيطرة عليه من كل جانب، بل ويجد أثر دناءته مع نساء الناس في أهله والمقرّبين منه.

عن الإمام علي (ع) : >العفّة تُضعِف الشهوة<[44]، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : (ع)  >عِفُّوا عن نساء النّاس تَعِفَّ نساؤكم<[45]. العاشر: صيانة النفس وتنزيهها عن الدنايا من يتحرّك في الحياة ويعيش وهمّه الأول شهواته ونزواته ورغباته نجده مأسوراً للأضرار المعنوية والمادية، ومن يضبط نفسه عن طريق العفاف والحشمة يجد من نفسه الالتزام والانتظام في أموره الحياتيّة، بل ويدفع بنفسه عن الأضرار ويحفظها في مكان أمين من الشرور والمخاطر.

الإمام علي (ع) : >العفاف يصون النّفس وينزّهها عن الدّنايا<[46]، >ثمرة العفّة الصيانة<[47].

 الحادي عشر: رجحان العقل والعقلانيّة ومن الأمور التي تتركها العفّةُ على المتّصف بها هو التعقّل ورشد التفكير، وفي حقيقة الأمر نجد الواقعية لهذا الكلام، فإن المنغمس في شهوات الحرام يصغر عقله ويتحجّم، ويحس بتفاهة تفكيره وأفكاره، ولعله هذا أثر تكوينيّ، ومن يرجّح كفة العفّة يكمُل عقله ويسمو نحو الرشاد والصلاح. 

عن الإمام علي (ع) : >يُستدلّ على عقل الرجل بالتحلّي بالعفّة<[48].

الثاني عشر: محالفة العزّة العزّة عبارة عن قدرة وقوة داخلية في نفس الإنسان يمتنع بها عن قبول الإذلال والمذلّة، والعزة حقّ من حقوق المؤمن كما صرّح القرآن[49] بذلك، ومن الأسباب التي تورث وتنتج العزّة هو العفّة؛ لأنّ الطاعة لا يكون معها إلا قوّة، والمعصية لا يكون معها إلا ذلّة، وكم من معصية أورثت ذلّة.

 قال الإمام علي (ع) : >من أُتحف العفّة والقناعة حالفه العِزّ<[50].

 ومن خلال قراءة الروايات وجدنا آثاراً أكثر مما ذكر في هذا البحث، ولكن بسبب قصر هذا البحث نحيل القارئ لمراجعة المصدر[51] للاطلاع عليها والاستفادة والاستزادة من نور كلام أهل البيت^، ولكن لا بأس بذكر العناوين فقط للآثار الأخرى للعفة وهي: (القناعة)، (زكاة الأعمال)، (الغنى وعدم الفاقة)، (الورع)، (زينة وحلية الإنسان)، (نيل محبّة الله)، (ستر العيوب)، (خفّة المؤونة)، (تقوية وتدعيم الإيـمان). الخاتمة في نهاية البحث اتّضحت لنا الأهميّة الموضوعة للعفة في الآيات والروايات، ولاحظنا التأكيد والحث المتكرّر على اكتساب العفّة وعدم تركها أبداً؛ لأنّ فيها النجاة في الدنيا والآخرة.

 وعلى هذا وبعد العرض الكامل للعوامل والآثار تجلّى لنا كيفية ارتباط العفة بالنفس الإنسانية للفرد والمجتمع، وكيفية علاقتها بالروح والمعنويات، وأيضاً ثمارها على الجسد وصحيفة الأعمال، وبهذا يتبيّن تشعّب العفة والعفاف في جميع نواحي الحياة، وذلك باعتبار أنّ العفة مرتبطة بشهوة، والشهوة غريزة مدسوسة في الفطرة، والفطرة باقية على الدوام.

وعلى هذا الأساس يتحتّم على الخبير والإنسان الواعي أن يديم المراقبة والمحاسبة لنفسه، ويتفحّص الخلل من سلوكه وأفعاله حتى يسدّه بما يناسبه ولا يترك مساحة معرضة لغزو الشيطان وهجومه على العفة والعفاف.

ومن التوصيات أن يأخذ القرآن والحديث مكانهما اللائق بهما في حياة البشرية من أجل إرساء الروافد المعنوية الراقية من كلام الله وكلام المعصومين^ بشكل أوسع.

وأيضاً نرى من اللازم التأكيد على علو الإنسانية ورفعة شأنها وهذا من شأنه أن تحصل البصيرة والوعي الكافي لدى الناس حتى يحصّنوا أنفسهم من الشرور والإغراءات الشيطانية.

وأملنا أن نكون في عناية الله في الليل والنهار بحق محمد وآل محمد.

 والحمد لله رب العالمين.

الهوامش والمصادر

  • [1] عن الإمام علي×: >صَارَ الْفُسُوقُ فِي الدُّنْيَا نَسَباً وَالْعَفَافُ‏ عَجَباً<. التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص:503، ح10600.
  • [2] الفراهيدى، الخليل بن أحمد (ت 175هـ)، كتاب العين، ج‏1، ص92.
  • [3] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج‏4، ص3.
  • [4] الراغب الأصفهانى، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، ص573.
  • [5] المصطفوى، حسن، التحقيق فى كلمات القرآن الكريم، ج‏8، ص219.
  • [6] سورة مريم: 17- 18.
  • [7] مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏7، ص200.
  • [8] سورة يوسف: 29 و 30 و 33 .
  • [9] سورة يوسف: 23.
  • [10] المصطفوى، حسن، التحقيق فى كلمات القرآن الكريم، ج‏13، ص202 .
  • [11] سورة مريم: 18.
  • [12] التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص273، ح 5988.
  • [13] سورة الأحزاب: 53.
  • [14] سورة يوسف: 51 و 53.
  • [15] انظر: مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏7، ص182.
  • [16] سورة يوسف: 24.
  • [17] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج‏18,ص175.
  • [18] التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص259، ح 5534.
  • [19] الكلينى، محمد بن يعقوب، الكافي (ط – الإسلامية)، ج‏5، ص508.
  • [20] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي (ط – الإسلامية)، ج‏5، ص509.
  • [21] الطبرسي، حسن بن فضل، مكارم الأخلاق، ص238.
  • [22] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي (ط – الإسلامية)،ج‏5، ص567.
  • [23] انظر: الراغب الأصفهانى، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، ص270.
  • [24] التميمي الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص257، ح 5454 .
  • [25] الليثى الواسطى، علي بن محمد، عيون الحكم و المواعظ (لليثي)، ص327، ح5613.
  • [26] المصدر نفسه، ص282، ح 5081.
  • [27] المصدر نفسه، ص58، ح1473.
  • [28] التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص393، ح 9071.
  • [29] الليثى الواسطى، على بن محمد، عيون الحكم و المواعظ (لليثي)، ص27، ح 343.
  • [30] انظر: الطبرسى، فضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏7، ص158 .
  • [31] سورة المعارج: 29- 31.
  • [32] سورة النور : 33.
  • [33] سورة النور: 26.
  • [34] انظر: المكارم شيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص607.
  • [35] >وسئل الصادق× عن قول اللهù والمحصنات من النساء، قال هنّ ذوات الأزواج. قلت: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، قال: هنّ العفائف<. ابن بابويه، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج‏3، ص437، ح4512.
  • [36] سورة المائدة: 5.
  • [37] >أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ صِدْقُ حَدِيثٍ وَأَدَاءُ أَمَانَةٍ وَعِفَّةُ بَطْنٍ وَحُسْنُ خُلُقٍ<. التميمي الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص217، ح4282.
  • [38] سورة النور: 60 .
  • [39] التميمي الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص393، ح8988.
  • [40] سورة المؤمنون: 1 و5.
  • [41] سورة الأحزاب: 59.
  • [42] سورة النور: 26.
  • [43] سورة الأحزاب: 35.
  • [44] التميمى آمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص256، ح5421.
  • [45] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي (ط – الإسلامية)، ج‏5، ص554 .
  • [46] التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص256، ح5420.
  • [47] المصدر نفسه، ص256، ح 5423.
  • [48] المصدر نفسه، ص256، ح 5419.
  • [49] قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقينَ لا يَعْلَمُونَ} سورة المنافقون: 8.
  • [50] التميمى الآمدى، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم و درر الكلم، ص392، ح9025.
  • [51] المصدر نفسه، ص255.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى