ثقافة

على ضفاف تحقيق النصوص التراثية حوار مع سماحة الشيخ إسماعيل الكلداري

كلّ علم أو حقل معرفي لا يمكن أن يستغني عن المنهج النقلي في ما يؤخذ من مدوّنات العلماء، ولكن يجب الوثوق لصحة النسبة وسلامة الرواية عنهم وعن مصنّفاتهم، وإلا صارت عُرضة للتزييف والعبث قبل أن تكتسب صفة “الوثيقة المعتمدة” عنهم.

 وقد اعتنى الكثير من المحققين بالتراث الإسلامي المخطوط وبُذل في سبيل ذلك الغالي والنّفيس بهدف حفظ وصيانة وفهرسة المخطوطات، وخير مثال ما قدّمه آية الله العظمى السيد شهاب الدّين المرعشي النّجفي الذي لم يألُ جهداً في سبيل حفظ وجمع التراث الإسلامي، وكذلك ما نهض به العلامة الكبير آقا بزرك الطهراني، فحفظه بكلّ عزم وإخلاص منقطع النظير.

وهذه النماذج مع ما كانت عليه من الفضيلة والعلم والاجتهاد، إلا أنّها أيقنت أهميّة حفظ وصيانة التراث والمخطوطات الإسلامية. ومن هذا المنطلق ارتأينا في هذا العدد أن نحاور سماحة الشيخ إسماعيل اﻟﮕﻠﺪاري.

لنفتح نافذة على تحقيق التراث الإسلامي. استهلالاً للحوار.. سماحة الشيخ ما مستوى أهمية إحياء وتحقيق المخطوطات والكتب التراثية؟  لا شك في أنّ المخطوطات العربية والإسلامية تكشف عند الرجوع إليها عن النشاط الفكري لهذه الأمّة إبّان نهضتها، وهذا الأمر يحتاج إلى إبراز، وإبراز هذا الأمر لا يتم إلا بإحياء وتحقيق هذه المخطوطات.

هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك مخطوطات في شتّى العلوم نحتاج إليها؛ لكونها مصادر أساسية، فلا بد من تحقيقها بشكل علمي متقن، وجعلها في متناول أيدي أهل الاختصاص. هل التحقيق فنّ أو علم أم مجرّد مهنة وهواية؟  “تحقيق النصوص” علمٌ له قواعد ومناهج، وأصبح يُدرّس في الجامعات والمعاهد العلمية كمادّة علمية ومقرر دراسي.

 هناك سؤال يدور في مخيّلة الكثيرين سماحة الشيخ، وهو أنّ عمليّة التحقيق هل تتسم بالصعوبة أم يمكن لأيّ واحد منّا الولوج في هذا الميدان؟ وكم يحتاج المحقّق المدقّق للانتهاء من تحقيق المجلّد الواحد؟  لا يمكن اقتحام هذا الميدان لمن أراد الخوض في ممارسة تطبيق علم التحقيق إلا بعد أن يمتلك الأهليّة، فلا بدّ قبل الاشتغال بتحقيق المخطوطات من دارسة هذا العلم لدى أهل الاختصاص والتدرّب لديهم، ثم بعد ذلك يستقلُّ بتحقيق المخطوطات، والتدرّب لدى أهل الاختصاص لا بدّ منه حتى يكون عمله متقناً ووفق القواعد الصحيحة لعملية تحقيق النّصوص.

 أما المدّة الزمنيّة التي يحتاجها المحقق المدقق للانتهاء من تحقيق مجلّد واحد لأحد العلماء، فهي تختلف من مخطوطة إلى أخرى. أردنا من جنابكم بيان المراحل التي يمر بها المحقق حتى يخرج المخطوطة من بين الرفوف المظلمة إلى أعين القراء -ولو إجمالاً-؟  خطوات التحقيق نجملها على النّحو التالي:

 1- “توثيق عنوان الكتاب” ونسبته إلى المؤلف.

 2- حصر نسخ الكتاب المخطوطة في المكتبات، وذلك بالرجوع إلى فهارس المخطوطات، والاطلاع على طبعات الكتاب السابقة -إن كان الكتاب مطبوعاً-.

  3- “فرز المخطوطات” واختيار “نسخة الأصل” أو “الأم”.

4- “نسخ المخطوطة” ومقابلتها بالنّسخ المعتمدة، وإثبات فروق النّسخ في الحاشية.

 5- “ضبط النّص وتقطيعه”، وإثبات علامات الترقيم، وتشكيل ما يحتاج إلى تشكيل.

 6- “التعليق على النّص في الهامش”، وتوضيح ما يحتاج إليه القارئ، كإثبات تراجم الأعلام غير المشهورين المذكورين في النّص، أو توضيح كلمة غريبة وما إلى ذلك.

 7- “كتابة مقدّمة للنّص”، ويتضمّن التقديم في العادة حديثاً مكثفاً عن المؤلف وشيوخه وتلاميذه وكتبه، والحديث عن النّص ومصادره، وقيمة النّص في موضوعه، ثم يذكر المحقق منهجه في تحقيق النّص، ثم يذكر النّسخ التي اعتمدها في التحقيق.

 8- صنع فهارس فنية للنّص. هذه هي الخطوات بإيجاز شديد من تبعها يكون قد أدّى واجبه كمحقق نحو النّص المحقَّق. ما هي المؤهلات التي تعتقد بلزوم توافرها في المحقِّق؟ وهل يجب أن يكون الكتاب المحقَّق ضمن تخصصه؟  أن يكون متقناً لعلم تحقيق النصوص، وأن يكون متمكّناً من مادّة المخطوطة، فلا يمكن لغير الملم بالطب القديم -مثلاً- أن يحقق مخطوطةً في الطب، وهكذا باقي العلوم. من خلال تجربتكم؛ ما هي الإشكالات أو قل الشبهات التي يقع فيها البعض ممن وضع يده في التحقيق؟  التحقيق يحتاج إلى خبرة في الفهارس والمخطوطات والمصادر، فمجرّد صف المخطوطة لا يسمى تحقيقاً، من يتبع المنهج الصحيح والمقرر في تحقيق النّصوص يتفادى كلّ هذه الإشكالات. هناك عدّة إشكالات شائعة أهمها: العجلة والسرعة في التحقيق وطباعة الكتاب، عدم عرض العمل على شخص آخر للمراجعة، عدم الدقة في قراءة المخطوطة، عدم الاهتمام بالتقديم للنّص، عدم صنع الفهارس الفنية.

 هل يحقّ للمحقِّق أن يتصرّف في متن المخطوطة بأن يحذف رأياً أو يغيّر كلمة أو يقدم ويؤخر؟  لا يحقّ للمحقّق ذلك، بل يجب عليه إبقاء النّص كما كتبه مؤلفه، فإن كان رأي المحقِّق يُخالف النّص أو النّص يخالف المشهور فعلى المحقّق أن يُعلِّق على هذا الموضع في الحاشية، هذا هو مقتضى الأمانة، نعم هناك حالات خاصّة جداً للمحقِّق أن يتصرّف في المتن مع الإشارة في الحاشية إلى هذا التصرّف وسببه، كما لو كان هناك تقديم وتأخير في النّص -بسبب سهو المؤلف- يسبّب إرباكاً للقارئ، فللمحقق هنا تعديل هذا السهو مع التنبيه على ذلك في الهامش.

 سماحة الشيخ هناك الآن الكثير من الكتب المحقّقة ولكن يُلاحظ التعاليق المطوّلة فيها، فهل شرح الكتاب أو التعليق عليه من ضمن عمل المحقّقين؟  لا ليس من وظيفة المحقّق ذلك، بل عمل المحقّق هو “ضبط النّص”، وتخريج ما يحتاج إلى تخريج، كما هو متعارف لدى أهل هذا الفن.

 فالتعليق المطوّل يعتبر تأليفاً لا تحقيقاً، فهو بمثابة كتابة حاشية على متن معين، وهذا خارج عن عمل المحقق. مَن مِن علماء الطائفة قد تعرّض لمثل هذا العمل التحقيقي، وهل تعتقد أنّ مسيرة التحقيق تأخّرت كثيراً؟  منذ بداية ظهور الطباعة كان لعلمائنا دور بارز في نشر الكتب المصحّحة، فالشيخ فضل الله النّوري أشرف على طباعة بعض الكتب في طهران بالوسائل المتاحة آنذاك، وسيّد الطائفة السيد حسين البروجردي تولّى الإشراف على تصحيح ونشر بعض الكتب أيضاً.

 ومع ظهور الطباعة لاحقاً في النّجف الأشرف تصدّى عدد من علماء النّجف لنشر وتصحيح التراث، منهم المرحوم الشيخ محمد السماوي، والسيد محمد صادق بحر العلوم، والسيد حسن الخرسان، والسيد محمد مهدي الخرسان. لكنّ الملاحظ على هذه النشرات أنّها لا تعدوا كونها تصحيحاً، ولا ترقى إلى مستوى التحقيق طبق المنهج الفنّي الحديث.

 على سبيل المثال السيد محمد صادق بحر العلوم قام بتصحيح كتاب لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف ولم يعتمد على مخطوطات الكتاب بل اعتمد على الطبعة الحجرية وقام بضبط النّص من خلال الاستعانة بالمصادر، كما أنّه لم يقدّم للنّص بشكل وافٍ ولا صنع للكتاب فهارس فنية، طبعاً هذا الأمر له تبريراته وظروفه في ذلك الزمن، أما الآن فلا يُقبل هذا النّوع من التحقيق. ومن الواجب إعادة تحقيق هذه النشرات بتحقيق جديد وفق المنهج العلمي الصحيح لتحقيق النّصوص، وخيراً فعل الإخوة في مركز الإمام الصادق (ع)لتحقيق تراث علماء البحرين[1] بالعمل على إعادة تحقيق كتاب “لؤلؤة البحرين”.

أما قضيّة التأخّر في مسيرة التحقيق فله أسبابه، فقد مرّت ظروف عصيبة على الحوزة والعلماء في الفترات السابقة كان لها دور في هذا التأخير.

 نسمع تارة (بالأصل) أو (نسخة المؤلف) أو (نسخة فلان) فهل النّسخة الأفضل دائماً هي الأصل أم ماذا؟  المحقّق عليه أن يختار أحد المخطوطات المعتمدة لديه ويعتبرها “النّسخة الأصل” أو “الأم”، ويقابلها بباقي النّسخ، وعند وجود نُسخة بخطّ المؤلّف فبحسب قواعد تحقيق النّصوص يجب اعتبارها النّسخة الأصل أو الأم، تليها في المرتبة النّسخة المقروءة على المؤلف أو المنسوخة من على نسخة المؤلف، ثم الأقرب عهداً للمصنّف مع كون ناسخها متقناً وهكذا، وسبب هذا الترتيب واضحٌ حيث إنّ التحقيق هو إبراز النّص كما وضعه مؤلفه. لو سألناكم عن مخطوطات علماء البحرين كم يصل -تقريباً- عددها في مكتبات العالم؟ وهل تمثل ثقلاً علمياً؟  بالنسبة لتراث علماء البحرين فبحسب ما تمّ جرده إلى الآن يقرب من ألفي عنوان بين كتاب ورسالة موجودة في مكتبات العالم، وبعض هذه الرسائل والكتب لها ثقلها العلمي، وفريدة في بابها.

 ما رأيكم في إصدارات مجلة (لؤلؤة البحرين)، وهل لاقت رواجاً في ميدان تحقيق التراث؟  صدور مجلة “لؤلؤة البحرين” خطوة مهمّة لتعريف ونشر تراث علماء البحرين، وقد أثنى عددٌ من “كبار المحققين” على المجلّة، والمؤمّل أن تستمر بنفس المستوى والثقل الذي بدأت به.

 ما هو العمل الذي تقومون بتحقيقه الآن؟  حالياً على وشك الانتهاء من تحقيق “رسالة في تراجم علماء البحرين”، وهي عبارة عن رسالة تتضمّن تراجم علماء البحرين، كتبها أحد أحفاد الشهيد الأول، وهو الشيخ شرف الدين محمد مكي العاملي، الذي زار البحرين سنة 1159 هجـرية، والتقى بعلمائها وفضلائها، وأقام بها مدّة سنتين حيث تلمّذ فيها على بعض علمائها.

وقد بقيَت هذه الرسالة في عالم التراث المنسي مدّة ثلاثة قرون بالرغم من أهميتها. فهي -مع صغر حجمها- من الرسائل المهمّة لاشتمالها على مطالب جديدة لم تتم الإشارة إليها في الكتب المُصنّفة حول تراجم علماء البحرين.

 وستصدر قريباً إن شاء الله تعالى عن مركز الإمام الصادق (ع)لتحقيق تراث علماء البحرين.

 لا بأس شيخنا بأن تتحفنا بقصّة أو موقف مررتم به خلال عملكم واهتمامكم بالمخطوطات؟  كنت في أحد المكتبات مُكبّاً على مطالعةِ مخطوطةٍ لأحد علماء البحرين، وكان في جانبي باحث إيراني يطالع في مخطوطة أخرى، سألني عن المخطوطة التي أطالعها فذكرتُ له أنّها لأحد علماء البحرين، فبدأ يتحدّث عن البحرين، وقال: لو قارنا تراث علماء البحرين وعدد علمائها في العصور السابقة -مع  صغر مساحتها- ببقية مدن وبلاد الشيعة لوجدنا أنّ البحرين متفوقة ومتميّزة على سائر الحواضر العلمية، وقال جملة بالفارسية “سر زمين بحرين عالم خيز است”[2]، فكانت عبارات هذا الباحث حافزاً لنا للاهتمام بتراث علماء البحرين رضوان الله تعالى عليهم.

 في الختام هل لديكم نصيحة للمقبلين على هذا الفن؟  أنصح من يريد الاشتغال بتحقيق النصوص أن يلتحق -أولاً- بدورة “تحقيق النصوص” التي تقيمها المراكز العلمية، ثم يتدرّج في التحقيق تحت إشراف أحد الفضلاء في هذا الفن.

 فيبدأ بتحقيق رسالة مختصرة، ثم رسالة متوسطة، ثم ينتهي بتحقيق كتاب كامل مفصّل، ثم يستقلّ بالتحقيق.

 إلى هنا لا يسعنا في ختام هذا الحوار الشيّق إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لسماحة الشيخ اﻟﮕﻠﺪاري على بذله هذا الوقت الثمين.

آملين من الله العزيز أن يجعل التوفيق والسداد من نصيب الجهود التي تبذل في إخراج التراث الإسلامي الضخم والمكنوز بين الرفوف إلى عالم القراءة بشكل لائق ومناسب للمصنّفين الذين بذلوا الغالي والنّفيس في سبيل الحصول على ذلك الورق والحبر وقطعوا فيافي البلاد لاقتطاف المعارف المختلفة لا سيّما تلك المعارف المتّصلة بالحقائق الشرعية.

المصادر والهوامش

  • [1] أسس في قم المقدّسة عام 2014م، ويهدف إلى إبراز الهويّة الحضاريّة العلميّة للبحرين وتوجيه الرأي العام إلى أهميّة العناية بالتراث والتعريف بجهود المتخصصين العاملين على تحقيق التراث ودراسته وطبعه وغيرها من الأهداف، وله مشاريع منها إصدار مجلّة لؤلؤة البحرين وإعداد فهرس يضمّ تعريفاً بمخطوطات علماء البحرين وغيرها.
  • [2] وترجمتها بالعربية: (أرض البحرين غنيّة بالعلماء).
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى