ثقافة

قبل وبعد البعثة (من الخطبة الغرّاء لفاطمة الزهراء عليها السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم، لا ريب أن دراسة مراحل تبليغ رسالة الإسلام للنبي المصطفى (عليه السلام) من الأمور الشديدة الأهمية لما لها من الآثار الكبيرة على حال المسلمين اليوم، وبالخصوص دراسة المفاصل المهمة فيها، والتي تبين مدى الجهد والعناء الكبيرين الذي بذلته أعظم شخصية على وجه الأرض ألا وهي شخصية النبي الأمي (صلّى الله عليه وآله)، إلى جانب ما تمثله هذه الشخصية من الأنموذج والقدوة على شتى مجالات الحياة التي منها الدعوة إلى توحيد الله تعالى إذ هو واجب على كل مسلم.

ومن تلك المراحل، مرحلة ما قبل البعثة، ومرحلة ما بعد البعثة، حيث إنهما تمثلان مرحلتان من حياة هذا الدين الحنيف وتأسيسه وانشاره في أنحاء المعمورة ممثلاً النور والهدى للإنسانية كل الإنسانية، بالإضافة إلى إرساء قواعد الدولة الإسلامية الكبرى.

 ونحن في هذا البحث المتواضع، سنلقي نظرة عابرة على المرحلتين، وذلك بتحليل ما جاء في الخطبة المباركة لسيدة نساء العالمين (عليها السلام) بما يخص المرحلتين، حيث إن تلك الخطبة الغراء التي صدعت بها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في مسجد رسول الله (عليه السلام) كانت في أحلك الظروف التي مرّت على الإسلام وعلى حماة الإسلام وهم أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 ونحن في هذه السطور لا يسعنا أن نتكلم عن عظمة الزهراء (عليها السلام) وخطبتها الغراء والتي عبر عنها العلامة المحقق الإربلي (رحمه الله) أنها “من محاسن الخطب وبدايعها، عليها مسحة من نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة”(1)، كما قال شيخ الإسلام العلامة المجلسي (رحمه الله) بأنها “تحير من العجبِ منها والإعجاب بها أحلامُ الفصحاء والبلغاء”(2).

 كما نكتفي هنا بما ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بما يخص بيان مقام الزهراء “عليها صلوات المصلين”: «نحن حجة الله على الخلائق، وأمنّا فاطمة حجة الله علينا»(3).

 توصيف إلى المحاور الرئيسية لخطبة الزهراء (عليها السلام) تناولت الخطبة الغراء للصديقة الزهراء (عليها السلام) عدة مواضيع جاءت بشكل لا يسع أي أحد إلا أ، يشهد ببلاغتها وعظمتها، كما لا يسع أي مسلم إلا أن يصب الدمع الغزير على ما ألم ببنت خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله)وما جرى على بيت الرسالة، وما أصاب الإسلام بعد رحيله (صلّى الله عليه وآله). وهذه هي أهم النقاط التي وردت فيها:

 1- الحمد والثناء لله تعالى.

2- بعثة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)ومسير الرسالة. (محل البحث)

 3- خطابها مع المهاجرين والأنصار.

 4- القرآن وأهل البيت (عليهم السلام).

 5- بيان أسرار أحكام الله.

 6- مطالبة الحق المغصوب.

 7- بيان السيرة المحمدية.

 8- أمير المؤمنين (عليه السلام) وإبلاغ الرسالة.

 9- ما أظهره الرناس بعد استشهاد صاحب الرسالة (صلّى الله عليه وآله).

 10- مسألة الإرث، وحديثها مع الأنصار.

 11- خذلان الناس وبعدهم عن الحق. وإليك المحاور الرئيسة فيما يتعلق به بحثنا من خطبتها (عليها السلام):

 أولا: حال الأمة قبل بعثة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) جاء في خطبتها (عليها السلام): «ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه».

 البعث والإرسال سنّة إلهية: في هذه الكلمات المباركة بينّت الصديقة (عليها السلام) سنّة إلهية عصيّة على التوقف والتغيير، حيث إن بعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله) كانت امتداداً واستمراراً إلى هذه السنة الإلهية، وبيانها أن لله سنناً لا تتخلف، وأن البعث والإرسال من تلك السنن.

أما الأول: أي دوام السنة فمستفاد من قوله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}؛ لإنها أحسن ما يمكن أن يكون، إذ لو كانت هناك سنّة أحسن منها ولم يسنها الله سبحانه لكان ذلك إما لجهل أو عجز أو بخل والتالي بأسره ممتنع فالمقدم مثله. والتعبير (فلن تجد..) لخصوصية المقام الذي يدل فيه عدم الوجدان على عدم الوجود.

 وأما الثاني: وهو كون البعث سنّة إلهية لا تخلف فيها، فلدلالة قوله سبحانه {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(4) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(5) إذ المستفاد من “كُنَّا” هو الدوام وعدم التخلف، وهذا غير التعبير بالفعل الماضي أو المضارع المحض، وهكذا قوله تعالى {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(6)(7)، لذا عبرت السيدة الزهراء سلام الله عليها بإتمام الأمر في أن يبتعث الله رسله وفقاً للسنن الحتمية، وذلك كله على وفق لطف الله ورحمته الواسعة بعباده، إضافة إلى ما يختص بالرسالة الإسلامية بكونها الرسالة الخاتمة لكل الأديان.

تقول الصديقة الطاهرة (عليها السلام): «فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها». الواقع العقائدي: في هذه الفقرة من الخطبة تطرقت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) إلى واقع الأمم قبل البعثة المحمدية، وذلك من جهة إنكارها لله تعالى مع انتشار الضلال بينهم، فكل أمة تعبد إله، وكل قبيلة تختار معبودا لها، فكان من سمات تلك المجتمعات الشرك في العبادة، فبعضهم يعبد الأصنام التي يصنعها بيده، وبعضهم يعبد النجوم، وبعضهم يعكف على عبادة النيران، إلى جانب ذلك كانت اليهودية والنصرانية الممسوختين لهما المساحة في اعتقاد بعض الأقوام، وبإختصار كان”الشرك” هو العنوان الذي يمكن أن تجمع الأقوام عليه. والسيدة الزهراء (عليها السلام) تشير بكلماتها إلى هذا الواقع السيء في تلك الأزمنة حيث أصبحت الخرافات هي السائدة، والمصالح الشخصية هي الأولى، كما أن كل فرقة ترى أن معبودها هو الأصح، فكلاً يمتدح ألهه بشعر ونثر، وتقوم على أثر ذلك الحروب والنزاعات.

 وقول الصديقة «منكرة لله مع عرفانها» إنما هو لأنه “كان العرب في بادئ أمرهم موحدين ثم شابوا نزعتهم التوحيدية بالشرك لبعض الأسباب والدليل على هذا الأمر وجود أُثر من دين إبراهيم بين الناس، وبعضها سنن بقيت ماثلة، كما نقل الطبرسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن دين العرب قبل الإسلام كان أفضل من دين المجوس بسبب بعض السنن الإبراهيمية كالختان والتكفين والدفن وعدم نكاح المحارم وحج البيت وسنن أخرى غيرها… وباتساع رقعة الانحرافات بين الناس أتى على دين إبراهيم شيئا فشيئاً”(8).

 فهذه الأمم تعبد الأصنام وتعبد النجوم وبعضها يقدس أصنام الكعبة، إلا أنه كان في اعتقادهم أن هذه الأصنام هي التي تقربهم إلى الله تعالى، فكانت محاججتهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهذه الحجة {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُون}(9)، “فهذه الآية تبين منطق عبدة الأصنام، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ اللّه سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس، فهو منزّه عن أن يكون مورداً للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: مِن الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم، فنتخذهم أربابا من دون اللّه ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند اللّه ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقدّيسوا البشر.ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، ولأنّهم كانوا يزعمون أن لا فرق بين التماثيل وأولئك المقدسين وأنّ لهما نوعا من التوحّد، لذا عمدوا إلى عبادة الأصنام واتخاذ آلهة لهم.

 وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم، هم أولئك الذين خلقهم اللّه وقربهم إلى نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم، وكانوا يعتبرون البارئ (عزّ وجلّ) هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهته”(10) كما يضاف إلى ذلك كله، انتشار إنكار المعاد والدار الأخرة، فكان له الأثر الكبير في فساد تلك الأمم وطغيانها.

 كل ذلك الواقع السيء أشارت إليه الزهراء سلام الله عليها بقولها «عكّفاً على نيرانها» إذ أن وصفهم بهذه الكلمات يوحي بالجهل والضلال المستشري بين الناس، إذ يقضون ليلهم وأيامهم على عبادة النار وما شابه من دون الله.

 ثم تقول (عليها السلام): «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ).

 (شفا حفرة: جانبها المشرف عليها، المُذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء، النُهرة: الفرصة، قبسة العجلان: الشعلة من النار يأخذها الرجل العاجل، الطرق: الماء اللذي خوضته الإبل وبوَّلت فيه، تقتاتون: تجعلون قوتكم القِذ: قطعة جلد غير مذبوغ ويحتمل اللحم المجفف في الشمس).

 الواقع الاقتصادي والسياسي للأمة: وحاصل ما أرادته هذه الفقرات المذكورة “وصفهم بخباثة المشرب وخشونة المأكل، لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم لفقرهم، وقلة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي”(11)، فكانوا في حالة من الانحطاط المعيشي وخير شاهد على ذلك ما ينقله ابن كثير من قول المغيرة بن شعبة إلى يزدجر ملك الفرس: “وأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان من أسوأ منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والحيات ونرى ذلك طعاما، أما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا…”(12)، وهذا ما لا يمكن فصله عن واقعهم السياسي، باعتبار أن الاقتصاد إنما يأتي في الظروف المناسبة والمستقرة لا في الحروب والتسليب.

 وأما ما يخص الواقع السياسي فالواقع يمكن وصفه بالقانون الحيواني في الغاب، إذ أن لغة القوي على الضعيف هي السائدة، فيبقى الخوف هو الوصف المنتشر، والذلة والمسكنة إلى الآخرين هو السبيل إلى الحياة، حتى لا يمكن أن نصفها بالفوضى الأمنية لأنها أقل من أن تبين مدى الفوضى العارمة التي كانت سائدة آنذاك، إذ كانت تقوم على النهب والسلب مما في أيدي الناس، والتعدي بلا أي مخوِّل وسبب سوى الجشع والطمع، إضافة إلى الحروب الطوال التي كان بعضهم يتشدق ويتغنى بها، بل كانوا يتفاخرون بقتلاهم حينها. “إذاً كانوا يعيشون الفوضوية واللانظام، وحالة من اللاأمنية والفزع والهلع، وبتعبير الزهراء (عليها السلام) أنهم كانوا (قبسة العجلان) يمكن أن يختطفهم العاجل بسرعة كما يقتس القبس من النار بسرعة.

 كانوا موطئ الأقدام يسهل وطؤه والجور عليه.. وإن كانت المنطقة صحراوية يصعب الوصول إليها والتحرك فيها، لكن مع ذلك كانوا خائفين، لأنهم لم تكن لهم دولة أو جيش أو نظام أو قوة سياسية فمن هنا كانوا يعيشون في حالة من الهلع”(13).

ومفردات هذه المقطوعة من الخطبة تبين ذلك بأسلوب قل نظيره، إذ وصفتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بوصف دقيق، يشير إلى حال الأمة آنذاك، إذ المتأمل في اختيار الكلمات والأوصاف يعرف حقيقة الأوضاع، فما معنى أن يبقى الإنسان مهددا في كل آن من الوقت ينتظر اعتداءً يقع عليه! وما معنى أن يعيش الإنسان على شرب قاذورات الحيوانات! نعم تتضح بهذا مدى رقي الإسلام ورفعته وسموه وطهارته.

ثانيا: حال الأمة بعد بعثة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) قول الصديقة (عليها السلام): «فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ». (بُهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور، الغمم: جمع غمَّة وهي الشيء الملتبس المستور).

 نور محمد (صلّى الله عليه وآله) وكشف الظلمات: لما كانت الظلمة هي ظلمة شبهات الجهل والضلالة الثابتة فيهم المحيطة عليهم، كان النور هو نور المعرفة والهداية الذي أتى به النبي (صلّى الله عليه وآله) بإظهار أحكام الشريعة القويمة، ودعوة الناس إلى الطريقة المستقيمة، فأزال عنهم تلك الظلمة، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}(14).

 فالصديقة الطاهرة  (عليها السلام)تؤكد على هذا المعنى، لأنه كان الناس حقيقة وخصوصاً في الجزيرة العربية في حالة بعيدة كل البعد عن معنى الحياة كيف لا وقد انتشرت بينهم مفردات بعيدة كل البعد عن الإنسان السوي من العادات السيئة في الجاهلية من القمار المعروف بالميسر المفسدة إلى المجتع، وهذه عادة سكان المدن في الجزيرة كمكة، والطائف، وصنعاء، وهجر، ويثرب، ودومة الجندل وغيرها، وقد حرمه الإسلام بآية سورة المائدة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(15) وشرب الخمر والاجتماع عليها والمباهاة بتعتيقها وغلاء ثمنها، وانتشار  نكاح الاستبضاع وهو أن تحيض امرأة الرجل منهم فتطهر فيطلب لها أشراف الرجال وخيارهم نسباً وأدباً ليطؤوها من أجل أن تنجب ولداً يرث صفات الكمال التي يحملها أولئك الواطئون لها، إلى جانب وأد البنات وهي أن يدفن الرجل ابنته بعد ولادتها حية في التراب خوف العار، فجاء الإسلام المحمدي ليوقف هذا السلوك الشاذ فقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}(16).

 كما كان قتل الأولاد مطلقاً ذكوراً أو إناثاً عند وجود فقر أو مجاعة، أو لمجرد توقع فقر شديد عندما تلوح في الأفق آثاره لوجود مَحْل وقحط بانقطاع المطر أو قِلّته.

 فحرم الإسلام هذه العادة السيئة القبيحة بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا}(17).

 والعصبية القبلية التي كانت الداعي الأكبر في شنِّ الغارات والحروب على بعضهم بعضاً للسلب والنهب. قولها (عليها السلام): «.. وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ».

 هداية الناس ودعوتهم إلى الحق: من الأمور التي لا شك فيها كما اتضح أن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أزاح الجهل والعماية وبيَّن الدين القويم بجميع أحكامه وتشريعاه على جميع المستويات، فعلى صعيد الجانب العبادي ضمن إلى هذه الأمة منهاجاً للعبودية السوية المتمثلة في عبادة الله لا شريك له، وعلى المستوى الاجتماعي عالجت رسالة الإسلام كل الأمراض التي كانت حينها كما بيَّنا سابقاً، فشرَّع أحكام الزواج والطلاق والرضاعة وحرم كل العادات التي لا تتوافق مع الطبيعة الإنسانية التي لا يعلم بها إلا المشرّع الوحيد وهو الله تعالى جلّت عظمته، أما على المستوى الاقتصادي فقد أسس الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الدولة الإسلامية بحيث تقوم على نظام اقتصادي يضمن إلى الناس حقوقهم بعيد عن الربا والنهب ويقضي على الفقر والمسكنة وذلك عبر تشريع الزكاة والصدقات… الخ.

 فبهذا اتضح أن النبي (صلّى الله عليه وآله) هداهم إلى الطريقة الحسنى في هذه الحياة الدنيا، كما أسس لهم معالم الوصول إلى الله تعالى، وذلك بدعوتهم إلى الصراط المستقيم،   فصحيح أنه أخرجهم من الظلمات ونشر نور الإسلام وتشريعاته بينهم، وأشاع العدل في جوانبهم فدخلت الأمم في دين الله أفواجا، واتسعت رقعة الأمة الإسلامية.

 إلا أن ذلك لا يكفي إلا بالوصول إلى الصراط المستقيم المتمثل في معرفة الله وذلك لا يتأتى إلا في معرفة هذا الطريق الموصول إلى الله تعالى، وقد بيَّنه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حينما قال: في تفسير {اهدنا الصراط المستقيم} -من سورة الحمد- يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتّك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك(18).

ولكن من هو الصراط؟ وهذا أيضا أفصح عنه صادق آل محمد “عليه الصلاة والسلام” حيث ورد عنه «الصّراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام)»(19) وهذه في واقع الأمر المرتبة العالية من الهداية، حيث إن الإسلام هو الدرجة الأولى ويرقى المسلم أعلى هذه الدرجة بمعرفة الإمام وحُجة الله على العالمين، ولعلنا نستسقي هذا المعنى من الدعاء الوارد في زمان الغيبة «اَللّهُمَّ عَرِّفْني نَفْسَك فَإنّك إنْ لَمْ تُعَرِّفْني نَفْسَك لَمْ أعْرِفْ رَسُولَك اَللّهُمَّ عَرِّفْني رَسُولَك فَإنَّك إنْ لَمْ تُعَرِّفْني رَسُولَك لَمْ أعْرِفْ حُجَّتَك اَللّهُمَّ عَرِّفْني حُجَّتَك  فَإنَّكَ إنْ لَمْ تُعَرِّفْني حُجَّتَك  ضَلَلْتُ عَنْ ديني»، إذا فالهداية إنما تكتمل… والإيمان إنما يتم نوره… ومعرفة الله إنما تتحقق بمعرفة الإمام وموالاته ومحبته، وإلا تحققت النتيجة العكسية وهي الضلال عن الدين القويم.

  ثم تقول (عليها السلام): «فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ».

(النذارة: الإنذار والتخويف، مدرجة المشركين: طريقتهم ومسلكهم، الثَبَج: الكاهل ووسط الشيء، الكَظَم: الفم أو الحلق أو مخرج النفس، نكَته على هامه: أي ألقاه على رأسه).

 تبليغ الرسالة المحمدية: تعرضت الصديقة الزهراء (عليها السلام) في هذه الفقرة إلى الصفات والسمات التي تحلت بها تلك المرحلة والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في صدد تبليغ رسالته السامية، والتي تبين في الحقيقة مدى الصلابة على الموقف، والخشية من الله وحده، كما تدلل على مدى الحكمة في التدرج بالدعوة إلى أن وصل إلى ضرب أعناق المفسدين، والتخلص من عناصر الضعف في الدولة، وذلك بعد المرحلة السرية والدعوة بالكلمة الطيبة وبث دواعي الهداية على الناس، ولو أردنا أن ندرج بعض تلك السمات التي كانت -في الحقيقة- نتيجة لمعاناة سنين صبر عليها الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع قلةٍ من المسلمين حينها، فمن سمات تلك المرحلة: الجهر والإعلان بالرسالة الإسلامية المحقة على أكثر الأمم والأقوام، بالإضافة إلى الإنذار الشديد لكل المعاندين. وهذا كله إنما هو في خط الوحي الإلهي، حيث قال الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}.

 أ‌- الإعراض عن منهاج المشركين وطريقتهم، سائراً على شريعة الله وهداه وهذا ما تشير إليه الآية السابقة أيضاً {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(20).

 فكان صلوات الله عليه لا يبالي من المشركين ولا يحسب حساباً لكثرتهم، والكلمات التي استخدمتها الصديقة (عليها السلام) إنما تبين مدى الأسلوب الذي كان ينفع مع هؤلاء حيث تبين الآيات القرآنية مدى تعنتهم أمام الحق وانغماسهم في الباطل.

ب‌- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…}(21). وقيل: الحكمة هي البراهين القاطعة وهي للخواص، والموعظة الحسنة هي الخطابات المقنعة والعبر النافعة وهي للعوام(22).

 ت‌- سيادة الزعامة الإسلامية. فقد أزيلت جميع طقوس الجاهلية وخرافاتها، وقام الرسول (صلّى الله عليه وآله) مكسّراً أصنامهم، ضارباً أعناق المفسدين، متخلِّصاً من خلايا الفساد التي تعمل على استرجاع مصالحها، حتى أعلنوا هزيمتهم ونهايتهم.

 ثم تقول (عليها السلام): «حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ».

(تفري: أنشق، أسفر: انكشف وأضاء، المحض: الخالص، شقاشق: جمع شقشقة وهي شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج، الوشيظ: الأتباع والخدم، فهتم: تلفظتم، البِيض: جمع أبيض، الخماص: جمع خميص وهو الجائع).

 النتائج الكبرى للبعثة النبوية: سيدة النساء (عليها السلام) في هذه الفقرة إنما تكمل الفكرة السابقة وتتناول أبرز سمات تلك المرحلة، إلا أنه من الملاحظ أن هذه الكلمات تشير إلى النتائج الكبرى للبعثة النبوية حينها، حيث إن هذه النتائج مرحلية وإلا فنحن إلى حدِّ الآن نعيش في ظِلال هذه البعثة وآثارها المباركة.

وهذه النتائج لا تنفصل أبداً عما كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يواجهه من المشركين، من انتشار الدعوات والشبهات الشيطانية، إذ بدأت باستهزاء وسخرية المشركين، واستمرت بادعاء السحر والجنون.

 إضافة إلى ممارسات المنافقين التي نخرت في صفوف المسلمين، وتعديات المعتدين المرتدين. فكانت بعثة الرسالة الإسلامية قاصمةً لظهر الشرك والنفاق، مخرسةً لألسنة الشياطين.

 كما أشارت (عليها السلام) إلى السند والعون في إرساء كلمة الإخلاص بقولها: «البِيض الخماص»، والمراد من البيض الخماص إما أهل البيت (عليهم السلام) ويؤيده ما في كشف الغمة: «في نفر من البِيض الخماص(23) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم، وإما هو من قبيل وصف الرجل بالأغر، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل ولعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل، أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان -رضي الله عنه- وغيره، ويقال لأهل فارس: بيض، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذا الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام: حمر، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر.

ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، وبالبيض الخماص الكمل منهم (24).

 الخاتمة أما ما يخص مرحلة ما بعد الرحيل الأليم للشخصية العظمى أبي القاسم محمد (صلّى الله عليه وآله)، فهي مرحلة نستطيع أن نعبر عنها بالفترة السوداء والانتكاسة الكبرى لهذه الأمة، وذلك بأيدي قوم عرفوا وجحدوا بالرسالة، وما أصعبها من مرحلة على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وما أقساها على سيدة نساء العالمين.

 ونحن لا زلنا نعيش آثار ونتائج تلك المرحلة من التشرذم والعودة إلى الجاهلية الأولى، منتظرين أن تجري السنّة الإلهية في تعجيل فرج مولانا صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ليؤسس دولة العدل الإلهي.

المصادر والهوامش

  • (1) كشف الغمة: ج1،ص473 و479.
  • (2) البحار: ج8 ط الكمباني ص114.
  • (3) تفسير أطيب البيان: المجلد 13ص235، الأسرار الفاطمية ص17.
  • (4) سورة القصص:45.
  • (5) سورة الدخان: 4-5.
  • (6) سورة الدخان: 3.
  • (7) الوحي والنبوة لآية الله جوادي آملي، قم اسراء 1387،ص45.
  • (8) سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلّى الله عليه وآله)، جامع المحامد كلها، رسول جعفريان، الطبعة الثالثة شباط 2007م، ص266.
  • (9) سورة الزمر:3.
  • (10) تفسير الأمثل: ج15، ص11.
  • (11) شرح خطبة الزهراء لثلاثة من الأعلام/ إعداد السيد باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ ط2009، ص315.
  • (12) البداية والنهاية7/49 حوادث سنة 14هـ.
  • (13) تأريخ ما قبل البعثة النبوية المشرفة لسماحة الشيخ الدكتور المالكي(حفظه الله) ص62.
  • (14) سورة الأنعام: 122، شرح خطبة الزهراء لثلاثة من الأعلام/ إعداد السيد باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ ط2009، ص152.
  • (15) المائدة: 90.
  • (16) التكوير:9.
  • (17) سورة الإسراء:31.
  • (18) معاني الأخبار، وتفسير الإمام الحسن العسكري نقلاً عن الصافي.
  • (19) تفسير نور الثقلين ج1، ص20.
  • (20) سورة الحجر: 94.
  • (21) سورة النحل: 125.
  • (22) شرح خطبة الزهراء لثلاثة من الأعلام/ إعداد السيد باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ ط2009، ص183.
  • (23) هم أهل البيت (عليهم السلام).
  • (24) فاطمة الزهراء بضعة قلب المصطفى للشيخ أحمد الرحكاني الهمداني، ط4 (نسخة كمبيوتريه).
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى