ثقافة

هل سعى الأئمة الأطهار لإقامة الحكومة الإسلامية؟ (القسم الثاني)

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

 إتماماً للحلقة السابقة نشير إلى خُلاصة البحث وندخل في الحلقة الثانية، مستمدين العون من الله تبارك وتعالى.

 خلاصة البحث السابق: قلنا فيما سبق بأن الشريعة الإسلامية جاءت خاتمةً للشرائع السماوية، فهي الشريعة الكاملة والشاملة لجميع متطلبات الحياة إلى يوم القيامة، وأن أحكامها يجب تنفيذها لتتم فائدة البعثة النبوية الشريفة.

 وأن النبيَّ الأكرم (ص) أقام الحكومة الإسلامية العادلة في المدينة المنورة، وكذلك أمير المؤمنين(ع)، ولكنَّ السؤال كان: هل الأئمة الأطهار سعـوا لإقامة الحكومة الإسلامية؟ وأوضحنا بأنَّ الأئمة(ع) أيضاً سعـوا لذلك إلا أن الظروف لم تسمح لهم بذلك.

 في هذه الحلقة نورد بعض الشبهات حول سيرة الأئمة الأطهار (ع) وبعض التساؤلات حول عدم قيامهم للثورة والجهاد ضد الحكام والمستكبرين.

 ما يتعلقُ بسيرة أمير المؤمنينَ (ع): لو تأملنا ملياً في حياة الإمام علي(ع)، نجدها مليئةً بالمواقف السياسية الحكيمة، هذا ما ينقله لنا كتاب نهج البلاغة، وما يتعلق برسائله(ع) وحروبه.

 فالبعض من هذه المواقف تحتاج إلى دراسةٍ واعيةٍ وتحليلها تحليلاً دقيقاً، خصوصاً مع ملابسات الأوضاع السياسية والاجتماعية في تلك الفترة، والذي يريد أن يعطي حكماً أو يصدر رأياً لابد له من مراجعة هذه الحيثيات المحيطة بتلك الفترة، فلا يقف على النص التاريخي أو الروائي ويصدر حكماً على الإمام(ع).

 نضرب نموذجاً واحداً على هذه الدعوى لكي نثبت بأن مواقف أمير المؤمنين(ع) لم تكن مواقف الجاهل المتسرع في الحكم.

موقفه من الخوارج: فقد أوصى الإمام علي(ع) قبل وفاته ألاَّ يحاربوا الخوارج بعد موته، بل يشتغلوا بمحاربة معاوية وجيش أهل الشام فقال(ع):(لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه) (1).

 قد يستغرب المحلل لهذا النص، لماذا أوصى بعدم مقاتلة الخوارج وهم الفئة الضالة التي تعتبر أعدى أعداء الإسلام؟ حتى قُتِلَ أميرُ المؤمنين بسيف أحدهم، إلا أن الإمام(ع) يقدم الدليل بهذا الشأن فيقول (ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه) ويصرح السيد الرضي(ره) بأن مراد الإمام(ع) هم معاوية وأصحابه.

 فالواقع أن أمير المؤمنين(ع) وبحنكته أراد أن يجنب أصحابه فتح جبهتين للقتال، وأن يكرسوا قوتهم تجاه عدوٍّ واحدٍ كان يتمثل آنذاك بمعاوية وحزبه ورهطهم وأعوانهم من أهل الشام.

 وبعلمه(ع) أن أصحابه لا يمتلكون القدرة الكافية لمواجهة كلتا الجبهتين، وخصوصاً إذا لاحظنا أن الخوارج كانوا من الناقمين على حكومة معاوية، ولعلهم يقفون إلى جانب المؤمنين في قتالهم لأهل الشام، مما يقوي الصف المؤمن ضد العدو الأول (2) الخلاصة: إن السياسي لابد أن تكون مواقفه حكيمةً وواعيةً، ويختار الوقت المناسب للسلم أو الحرب.

 موقفه من الخلفاء: وقد يتساءل البعض عن السبب في عدم مطالبة الإمام علي(ع) بحقه في الخلافة.

 أليست الخلافة من حقه؟ أليس هو صاحبها الشرعي؟ لماذا التزم بيته ولم يطالب بحقه الشرعي؟ في مقام الإجابة على هذا السؤال نقول: لا يخفى على المتتبع لسيرة الأئمة الأطهار(ع)بشكلٍ عامٍّ يجد أن للأئمة(ع) دوراً عاماً يشتركون جميعاً فيه، وهو السعي إلى القيام بوجه الظالمين، وإزالة الظلم الموجود آنذاك، بالرغم من تفاوت الظروف السياسية و الاجتماعية التي يمرّون فيها، ومن ضمن أدوارهم(ع):

 1- المحافظة على الرسالة الإسلامية ورفع الشبه والأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية.

 2- الحفاظ على الأمة من الأخطار التي تهددها والضلالات و الانحرافات السلوكية والأخلاقية والعقائدية.

3- تبيين الأحكام الشرعية والتفسير وتعريف الأمة بفضل أهل البيت(ع) الذي حاول مناوؤهم طمسه.

فهذه الأدوار كلها مشتركة بين الأئمة(ع) جميعاً (3) بالإضافة إلى هذا الدور المشترك بينهم(ع)، هناك دورٌ خاصٌّ لكل إمامٍ في زمن حياته وإمامته تحدده طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها كل من الإمام والأمة، وقد تتشابه الأدوار الخاصة لبعضهم نتيجة تشابه تلك الظروف، كما هو الحال في ظرف الإمامين الباقر والصادق(ع)، وكذلك الإمامين الهادي والعسكري(ع)، وقد تتعارض الأدوار أيضاً كما في الإمامين الحسن والحسين(ع)، بل في حياة الإمام الواحد، كموقف أمير المؤمنين(ع) من الخلفاء وموقفه من معاوية (4)، فإنه اتخذ موقف المسالم مع الخلفاء ما داموا لم ينحرفوا بشكل ظاهر، بخلاف موقفه من طاغية الشام، فقد أعلن الحرب ضده.

 ومثالٌ آخر: موقف الإمام الحسين(ع) في زمن أخيه الحسن(ع)، وموقفه بعد وفاة أخيه الحسن المجتبى(ع).

 ومن الدور العام المشترك لأئمة أهل البيت(ع) أصل القيام بوجه الحاكم الظالم إذا توفرت العدّة اللازمة للقيام بكل أبعادها، لا في بُعد العدد وحسب، ويمكن استفادة هذه الحقيقة وهذا الهدف من خلال بعض النصوص التاريخية (5).

 بعد ذكر هذه المقدمة نرجع إلى السؤال المطروح فنقول: بأن أمير المؤمنين(ع) بعد السقيفة والمؤامرة التي قام بها بعض المسلمين، كان قد حرّض البدريين من المهاجرين والأنصار على القيام والثورة، فلم يدع أحداً منهم إلا أتاه في منزله، يذّكرهم حقه ويدعوهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون، فأمرهم أن يصبحوا بكرةً محلّقين رؤوسهم معهم السلاح ليبايعوا على الموت، فما وافاه في الصباح منهم إلا أربعة، ثم أتاهم أيضاً في الليلة الثانية فناشدهم فقالوا: نصبحك بكرة، فما أتاه غير أولئك الأربعة، وكانت النتيجة نفسها أيضاً في غداة اليوم التالي، فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته (6).

هذا نموذجٌ واحدٌ من سيرة الأئمة(ع)، وهناك نماذجُ كثيرةٌ في أمثال هذه القضية.

 الخلاصة : إن الأئمة كانوا يريدون الثورة وإرجاع حقهم الشرعي، ولكن الظروف لم تسمح لهم بذلك، سواءً على مستوى الأنصار أو مستوى وعي الأتباع، وما عليك إلا أن تقرأ التأريخ بدقة لترى معاناة الأئمة وصبرهم على الأمة التي جهلت حقهم(ع) (7).

 فمسألة الأنصار و عددهم الكافي، في بعض الأحيان هو يُحكِّم الموقف السياسي، فمسألة كفاية العدد ليست مقتصرةً على القيام بثورة أو غيرها، بل لكل إصلاحٍ وأمر بمعروف ونهي عن منكر لابد من توفر حد الكفاية في جبهة أهل الحق في قيامهم ضد جبهة أهل الباطل. ويُستفاد هذا الأصل (وهو حد الكفاية) من قصة سدير الصيرفي مع الإمام الصادق(ع) فيقول الراوي:(دخلت على أبي عبدالله(ع) فقلت له:والله ما يسعُـك القعود(عن الجهاد) فقال(ع):ولِمَ يا سدير؟ قلت:لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك، والله لو كان لأمير المؤمنين(ع) ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيمٌ ولا عديّ، فقال(ع):يا سدير، وكم عسى أن يكونوا؟ قلت:مائة ألف. قال:مائة ألف؟! قلت:نعم، ومائتي ألف.

 قال:مائتي ألف؟! قلت:ونصف الدنيا. فسكت عنّي. فسرنا حتى صرنا إلى أرضٍ حمراءَ ونظر إلى غلامٍ يرعى جداءً (8) فقال:يا سدير، لو كان لي شيعةٌ بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.

 يقول الراوي:فعددتها فإذا هي سبعة عشر) (9).

 وكما يُستفاد من رواية مأمون الرقّي في قصة الإمام الصادق(ع) مع سهل بن حسن الخراساني الذي اعتذر للإمام(ع) عن امتثال أمره في دخول التنّور المسجور، ودخله هارون المكي، فقال(ع) للخراساني:(كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقال:والله ولا واحداً.

 فقال(ع):لا والله ولا واحداً، أما إنَّا لا نخرج في زمانٍ لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت) (10)

 2- حول الإمام الحسن المجتبى (ع): الإشكال كذلك يرد على الإمام الحسن المجتبى(ع)، فلماذا لم يحرك ضد معاوية ويحاربه؟! أليس من حقه أن يطلب الخلافة وإمامة الأمة؟ الجواب: عندما استشهد الإمام علي(ع) واستلم الإمامة من بعده الإمام الحسن المجتبى(ع)، إذ كان أول ما فعله بعد أمير المؤمنين(ع) هو مواصلة التعبئة العامة لقتال معاوية في حربٍ مصيريةٍ، ولو لا الخيانات الكبرى والخذلان الخطير والوهن المتفشي في عسكره وما أشبه ذلك من أسباب أجبرته على ترك الحرب، لما آل الأمر إلى صلحٍ مع معاوية، وكان الإمام الحسن(ع) قد ابتلى الناس في عزمهم على الجهاد قبل المهادنة فما وجد فيهم إلا الخَور والضعف وحب السلامة والدنيا، حين صعد المنبر فخطبهم قائلاً: (ألا وإنَّ معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عزوجل بضُبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا، فناداه القوم من كل جانب:البقية، البقية، فلما أفردوه أمضى الصلح) (11).

 فيتضح جليّاً من هذه المواقف -وغيرها- أن الإمامين أمير المؤمنين والمجتبى(ع) كانا يسعيان لنيل حقهما الشرعي، ولكن الظروف والأجواء السياسية والاجتماعية كانت تقف أمام طلبهما.

3- حول الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع): هل سعى الإمام السجاد(ع) لإقامة الحكومة الإسلامية؟ وماذا نفسر ابتعاده عن الناس وانعزاله عن المجتمع في تلك الظروف؟ الجواب: إن حياة الإمام السجاد(ع) تحتاج إلى دراسةٍ معمّقةٍ ودقيقةٍ قلّما يتعرض لها الباحثون والمحققون، ولو اقتطفنا منها لطال بنا المقام، ولقد سلّط الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) على حياة الإمام السجاد(ع) وهي حقيقةٌ بالقراءة والمراجعة والتأمل الواعي في سطور كلماته (دام ظله)، وكذلك السيد الجلالي في كتابه(جهاد الإمام السجاد-ع-).

 نذكر روايةً يتبين لنا موقف الإمام السجاد(ع) من بني أمية والظالمين لحقهم.

 وهي رواية ذكرها الشيخ الحر العاملي في كتاب الوسائل بروايةٍ موثقةٍ عن الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبدالله(ع) قال:(لقي عباد البصري علي بن الحسين(ع) في طريق مكة، فقال له:يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، إن الله عزّ وجلّ يقول: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) الآية، فقال علي بن الحسين(ع):أتم الآية فقال( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ )الآية، فقال علي بن الحسين(ع):إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج) (12) يتضح صريحاً بأن الإمام زين العابدين(ع) لم يترك الجهاد لصعوبته ومشقته، بل لعدم وجود الناصر الذي يتصفون بصفات المجاهد الحقيقي.

 بعد ذكر هذه النماذج يتضح لنا موقف الأئمة(ع) اتجاه حكام الجور، وعرفنا بأن السبب في ترك الأئمة للجهاد والثورة ليس من الأئمة(ع)، بل من جهة الأمة وضعفها وتخاذلها.

 وبهذه النماذج نستطيع أن نردَّ على جميع الإشكالات التي قد يُوردها البعض من هنا وهناك، فإن مقتضى مصلحة المسلمين فوق كل شيء.

 وكذلك أزمان بعض الأئمة(ع) فقد توفرت المعرفة والوعي، إلا أن العدد لم يكن متوفراً، كما في زمن الأئمة الباقر والصادق والرضا(ع)، إلا أنهم افتقدوا باقي الشروط كالحزم واليقين والنصرة والطاعة المطلقة للإمام المعصوم(ع).

المصادر والهوامش

  • (1) نهج البلاغة / الخطبة61، ذكرها الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله) في نفحات الولاية ج3 ص5.
  • (2) مقتبس من نفحات الولاية ج3 ص5-6، ومن أراد المزيد فعليه المراجعة.
  • (3) من أراد المزيد حول هذه النقطة بإمكانه أن يرجع إلى كتاب السيد الشهيد الصدر(قده)/ الأئمة(ع) تعدد أدوار ووحدة هدف.
  • (4) كذلك موقف الأمير(ع) لما هجموا على الدار، وضربهم فاطمة بضعة المختار(ع).
  • (5) مع الركب الحسيني :1/213 بتصرف.
  • (6) سليم بن قيس :81، تاريخ اليعقوبي :2/84-85.
  • (7) من أراد المزيد في هذا البحث فليراجع محاضرات سماحة الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) حول سيرة الأئمة(ع)، وكذلك كتاب السيد الحسيني الجلالي ( جهاد الإمام السجاد -ع-)  وكذلك كتب السيد جعفر مرتضى العاملي ( الإمام الحسن-ع- والحياة السياسية) و ( الإمام الرضا-ع- والحياة السياسية) و( الإمام الجواد-ع- والحياة السياسية). (8) وهي أولاد المعزى جمع جدي.
  • (9) الكافي الشريف: 2/ 242- 243.
  • (10) مناقب آل أبي طالب:4/237.
  • (11) مع الركب الحسيني :1/215، نقلاً عن أسد الغابة:2/14.
  • (12) الوسائل ج15 باب 12ـ باب اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وإذنه، وتحريم الجهاد مع غير الإمام العادل- 19956. الرواية موثقة من جهة عثمان بن عيسى وسماعة، فهما واقفيان إلا أنهما موثقان. ورويت مثل هذه الرواية ولكن بسند مرسل، في نفس الباب، رقم الرواية 19959.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى