ثقافة

فتنة السامري المعاصرة

إنّ المتتبِّع سيرةَ أصحاب الفتن في الأقوام السابقة، كما ذكرت ذلك بعض الآيات والروايات، سيرى أنّ تلك الأفكار لا زالت متواجدة في زماننا الحاضر، إذ إنّ القرآن لا يروي لنا تلك القصص من باب التسلّي، وإنّما يذكرها من أجل العِـظة والعِبرة، إذ إنّ القرآن وكذا الروايات تضع لنا في كثير من الأحيان الكبريات عبر تطبيق إحدى القصص أو المرويات، وهذا الأمر سيّال وكثير في القرآن الكريم.

كلامنا في هذا البحث حول الفتنة التي أحدثها السامري في زمن نبي الله موسى (ع)، ولكن ليست الغاية هي ذِكر القصة؛ لأنّ الآيات النازلة فيه قد تناولت القصة وكذا الروايات التي تحكي تلك القصة قد تطرّقت له، وإنّما كلامي حول أنّ الفكر السامري لا زال مُنطبِقاً حتى في زماننا الحالي.

 أولاً: ما هي الفتنة؟ المراد بالفتنة -هنا- التمحيص والاختبار ليظهر الإسرائيليون على حقيقتهم، يقال: فتنتُ الذهبَ بالنار إذا اختبرته، ووجه الاختبار هنا أنّ اللّه نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل بلسان هارون، وأمرهم الشيطان بعبادته بلسان السامري، فعصوا الرحمن وأطاعوا الشيطان، وظهروا بذلك على حقيقتهم من ضعف الإيمان، والاستعداد التامّ للكفر والجحود، تماماً كما يجترح المجرم المحرمات حين يجد السبيل إليها، ويفتضح على رؤوس الأشهاد([1]). ثانياً: نماذج من الفتن التي ذكرها القرآن وذكرتها الروايات: ما ذكر في القرآن: حكى القرآن لنا نماذج متعددة من الفتن التي وقعت للأقوام السابقة، فمن تلك الأقوام مَـن اتّعظ من تلك الدروس والعِبر ومنهم مَن لم يتّعظ ولم يستلهم الدروس والعِبر من تلك الحوادث الماضية.

 وفي هذا القسم سأتطرق إلى نموذجين من نماذج الفتن في تلك الأعاصير والأزمنة والتي ذكرها القرآن لكي تكون دروساً لنا نحن المتأخرون عن تلك الأزمنة.

 1-  فتنة قابيل مع أخيه هابيل: لا ريب أنّ تلك الحادثة هي الحادثة الأصعب، وذلك لغرابتها على المجتمع آنذاك، ووجه غرابتها هو كونها الأولى التي تحدث على وجه الأرض، إذ لا حادثة قتلٍ بين البشر حصلت قبلها.

 قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقينَ}([2]). فذُكِر في بعض الكتب التفسيرية مقدمة لهذه الآية وهذه المقدمة مهمة وهي: “أنّه قد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدمo وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل، هو غريزة الحسد التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذّرهم اللّه في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدي أحياناً إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ اللّه أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ}…”([3]). والسبب في هذه الحادثة هو الحسد -كما تفسره بعض الروايات- إذ يذكر صاحب الميزان ما نصّه: “الآيات تنبئ عن قصة ابني آدم، وتبيّن أنّ الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالماً فيُصبح من الخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعاً”.

 وحيث إنّ نقل القرآن لهذه الحادثة ليست من باب التسلّي، وإنّما هي من باب العِـظة والفائدة وأنّ الخطاب في الآيات السابقة لها كان موجّها إلى بني إسرائيل، فيكمل صاحب الميزان كلامه: “وهي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل واستنكافهم عن الإيمان برسول الله’ فإنّ إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسداً وبغياً، وهذا شأن الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا مخلص عنها أبداً، فليعتبروا بالقصة ولا يلحّوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح”([4]). وكلام صاحب الميزان صريحٌ وواضحٌ أنّ ما قام به قابيل مع أخيه يحاكيه منهج ومسلك بني إسرائيل مع أنبياء الله الذين أرسلهم الله لهدايتهم.

 وكذلك يذكر الطبرسي في هذه الآية ما يؤيّد هذه الفكرة بقوله: “ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها، أنّ الله تعالى أراد أن يبيّن أنّ حال اليهود في نقض العهد وارتكاب الفواحش كارتكاب ابن آدم في قتله أخاه وما عاد عليه من الوبال بتعدّيه، فأمر نبيه’ أن يتلو عليهم أخبارهما تسلية لنبيه’ فيما ناله من جهلهم وتكذيبهم وتبكيتاً لليهود”([5]). وأيضاً يذكر صاحب تفسير الأمثل: “ولا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثالاً من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جُـبِلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند اللّه، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنّسوا بالانحراف وجُـبِلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

 وكم هو العدد الكبير من أولئك الأبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون-في النهاية- فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب -المذكور في الآية القرآنية الأخيرة- فتحثّهم وتدفعهم إلى إخفاء جرائمهم، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران([6]). 2-  فتنة قارون: إنّ موسىo واجه في طول حياته ثلاث قوى استكبارية طاغوتية:

 1- »فرعون« الذي كان مظهراً للقوّة والقدرة في الحكومة.

 2- »قارون« الذي كان مظهراً للثروة والمال!

 3- »السامري« الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة. وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسى (ع) هي مواجهته لفرعون وحكومته، إلّا أنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضاً، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير! والكلام فعلاً في هذه النقطة حول مواجهة موسى (ع) للقوّة الثانية وهي القوّة المالية المتمثلة في قارون.

 قال تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحينَ}([7]). المعروف أنّ أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون وواحد منها »جنون عرض الثروة وإظهارها« فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، وحين يعبرون على مركب غال وثير و يمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والأتربة لينتشر على وجوههم، ويحقّرونهم بذلك، فحينئذ يشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم.

 بالرغم من أنّ عرض الثروة هذا غالباً ما يكون سبباً للبلاء عليهم، لأنّه يربّي الأحقاد في الصدور ويعبّئ الحساسيّات، وكثيراً ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان، أو يزيل ثروته مع الريح([8])! قارونٌ في كل زمان: يذكر صاحب الأمثل، بأنّ هذه القصة ليست ماضياً وانتهى وإنّما هي حالٌ متجدِّد، فقال: “قصّة قارون -هذا الثريّ المغرور- التي ذكرها القرآن في سبع آيات بيّنات -بأسلوب جذّاب- تكشف الحجب عن حقائق كثيرة في حياة الناس! هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة، وهي أنّ غرور الثروة ونشوتها قد ينجرّ بهما الإنسان -أحياناً- إلى أنواع الجنون، جنون إظهار الثروة وعرضها، ولفت أنظار الآخرين، إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

 كما أنّ هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب، قد تكون سبباً لأن يجرّ الإنسان أحياناً إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسّها، كالإساءة إلى النّبي’ ومناهضة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

 إنّ الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين، ويستجيب لمن يريد له الخير.

 وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعاً، وفي اعتقادهم أنّ ثروتهم التي وقعت في أيديهم، وربّما تقع عن طريق الغصب أحياناً، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأنّ جميع الناس جهلة كما يظنون، وأنّهم -وحدهم- العلماء فحسب.

 ويبلغ بهم الأمر حداً أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق، وكأنّهم مستقلّون، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها! ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين، وكيف ينتهون، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعاً قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحياناً تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل آخر، أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبداً وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

 أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقاً لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية، والطوابع، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار! أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم-وأحيانا في جيرانهم- من لا عهد له بالشبع، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم! كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أنّ أناساً محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم، وربّما يرقدون في المستشفى، ويئنّون ولا من مصرخ لهم، ولا من علاج لمرضهم.

 جميع هذه البحوث تنطبق أحياناً على بعض الأفراد في مجتمع ما، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة، كما نلاحظ في العصر الحاضر.

 لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه -في أرقى صورها- باستثمار الدول الفقيرة العزلاء، بحيث إنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل، ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

 وما نقوله من أنّ بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولاً فقيرة، بل هي دول مُنيت بسرقة خيراتها وأُغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض، لكن هؤلاء المُغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء. فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يداً بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فُـعِل بقارون، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

 فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين”([9]). ما ذكر في الروايات: ونكتفي في هذا القسم بمصداق واحد، وهو مورد ابتلاء حتى في زماننا الحالي وهو: فتنة ادعاء السفارة عن الإمام الحجةx: وصلت إلينا السنة النبوية الطاهرة محفوظة في الصدور ومقيّدة في السطور.

 وقد تصدّى لها رجال لا يُحصى عددهم إلا الله ، فوقفوا حياتهم لجمع أحاديث الرسول’ وأهل بيته^، وحفظها وروايتها وتحقيقها وتمحيصها بكل أمانة وديانة وإخلاص، وبلّغوها إلينا بالأسانيد التي وصلت إليهم بها.

 كما أنّهم وضعوا لنا قواعدَ لمعرفة صحيحها من سقيمها، وهي أدقّ قواعد عرفتها البشرية لتحقيق الأخبار والتمييز بين الصحيح والخطأ، كما أنّهم ترجموا الآلاف بل مئات الآلاف من رواة الحديث ونقلته وبيّنوا درجتهم من حيث العدالة والضعف -جزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء-، وكان من بين الأحاديث التي وصلت إلينا عن طريق هؤلاء الجهابذة المؤمنين أحاديث تبشّر بخلافة أمير صالح يخرج الدجال في عصره وينزل عيسى بن مريم (ع) لقتل الدجال فيصلي وراءه.

 والأحاديث والآثار الواردة في المهدي المنتظر كثيرة جداً.

 فتنة السفارة: يكفي في إثبات المدّعى عبر نظرة سريعة في بعض الكتب الروائية([10]) التي ذكرت تلك الأحداث ومن هم الذين ادعوا السفارة للإمام -روحي فداه-، فمن باب المثال ما ذكره العلامة المجلسي في بحاره: “أول من ادعى السفارة عن الإمام المعروف بالشريعي أخبرنا جماعة، عن أبي محمد التلعكبري، عن أبي علي محمد بن همام قال: كان الشريعي يكنّى بأبي محمد. قال هارون: وأظنّ اسمه كان الحسن، وكان من أصحاب أبي الحسن علي بن محمد ثم الحسن بن علي بعده^، وهو أول من ادعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلا له، وكذب على الله وعلى حججه^ ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنه الشيعة، وتبرأت منه وخرج توقيع الإمام بلعنه والبراءة منه.

 قال هارون: ثم ظهر منه القول بالكفر والإلحاد قال: وكل هؤلاء المدعين إنّما يكون كذبهم أولاً على الإمام وأنّهم وكلاؤه، فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم، ثم يترقى الأمر بهم إلى قول الحلاجية كما اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه عليهم جميعاً لعائن الله تترى”([11]). ثالثاً: من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ في حديث ورد في كتاب (الاحتجاج) أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) لمّا فتح البصرة أحاط الناس به -وكان من بينهم >الحسن البصري<- وقد جلبوا معهم ألواحاً يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين علي (ع)، فقال له أمير المؤمنين (ع) بأعلى صوته: >ما تصنع؟< قال: أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين (ع): >أما إنّ لكلّ قوم سامرياً، و هذا سامري هذه الأمة! إلّا أنّه لا يقول: لا مساس، ولكنّه يقول: لا قتال<([12]). ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلاً منافقاً، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقاً.

 من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (ع) لم يكن مقبولاً بأيّ وجه، ولذلك فإنّ موسى (ع) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله.

 الأول: {قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ}([13])، أي: يجب عليك الابتعاد عن الناس وعدم الاتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الاقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني.

 وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة منزوياً بعيداً عنهم! قال بعض المفسّرين: “إنّ جملة (لا مِساسَ) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى (ع) التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحداً”([14]). فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضّالة، ويجمعهم حوله، ويجب أن يحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتّصل به أيّ شخص، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه، لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.

 وقال بعض المفسّرين: “إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه وخطئه، فابتلاه اللّه بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّاً لا يمكن لأحد أن يمسّه، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض، أو أنّ السامري قد ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كلّ إنسان، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)”([15]). العقاب الثّاني: إنّ موسىo قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ}([16]). العقاب الثالث: {وَانْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}([17]).

رابعاً: سامريةٌ معاصرة: السامري في زمن نبي الله موسى (ع) قد تميّز بسمات وصفات لم تكن منحصرة فيه، بل هي في زماننا الحالي قد تواجدت وإن لبست الثوب الحديث الجديد، وإلا فالأمر للملاحِظ والمدقِق واحد. سمات السامري:

 1-  العلم: لم يكن السامري من الفئة الجاهلة، بل كان عالماً مطّلعاً قد فاق بعضَ أصحاب موسى (ع) في جوانب، منها كان دقيق الملاحظة وشديد الدراية بأنّ آثار موضع الرسول تكون فيها حياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}([18]) فهذا المقطع كاشف عن علمه بأن الموضع الذي يطؤه الرسول يكون حيّاً.

2.حب الظهور والمنصب: السامري لم يكن يهدف من فعله سوى استدراج الناس لاتباعه وترك موسى وهارون، فحبّ المنصب قد جعله يفكّر في إغواء أتباع موسى، ومما ساهم في ذلك حصول البداء في تأخّر موسى، إذ إنّ موسى وعدهم بالمغيب عنهم ثلاثين يوماً ولكن عندما حصل البداء بزيادتها إلى أربعين يوماً، هذا الأمر جعل السامري يبدع في إغوائه للناس.

 3- المصير النهائي: إذا خلا الإنسان من الورع من الله وخلا فكره من حبّ الله، وأصبحت الدنيا أكبر همّه، ستراه يلجأ إلى من يلبّي رغابته، فإذا طرده رسول الله موسى (ع) من جماعته ستراه يبحث عن جماعةٍ تؤمن به وبأفكاره الضالة، وإذا وجد معيناً له على نشر أهدافه سيكون في قرارة نفسه هو المنتصر.

 ولكنّ مصيره إلى زوال وإلى انتصار الحق.

 الواقع الخارجي: فكر السامري لم يكن فكراً وانقضى بل هو فكرٌ شائع في أوساط الناس في زماننا الحالي، ويكفي في ذلك لو نظرنا إلى السمات التي ذكرناها في السامري، ونظرنا إلى الواقع الخارجي سنرى انطباق ذلك الفكر على بعض الشخصيات الحديثة.

 ويمكن الاستئناس بما ذكره العلامة المجلسي عندما تطرّق إلى سيرة أحد مدّعي السفارة وهو ابن أبي العزاقر، فقال: “محمد بن علي الشلمغاني لم يكن رجلاً من السوقة أو رجلاً من العاديين، إنّما كان عالماً من علماء الطائفة، كان وجهاً من وجوه المذهب، وكان قد صدرت عنه تصريحات ضالة وانحرافات، فوقف منه الإمام ونوابه موقفاً صارماً، وكان كثير التأليف، كانت كتبه تملأ المكتبات الإسلامية، فكانت مشكلة للشيعة في ذلك الزمن، رجل يملك هكذا قدسية وهكذا علمية وهكذا فضيلة ينحرف بهذا الشكل، يصعب على كثير من الأذهان أن يتقبل هذه الفكرة، فلهذا سألوا الحسين بن روح النوبختي عن هذا الموضوع أنّه يسأل الإمام .

 فخرج التوقيع بتحريم قراءة كتبه وأنّها كتب ضلال، حينئذٍ سألوه: ما نصنع وبيوتنا مليئة من كتبه؟ يعني ما من بيت إلا وفيه كتاب من كتب ابن أبي عزاقر. قال: أقول لكم كما قال الإمام العسكري (ع) في بني فضال -وبنو فضال بيت من البيوت العلمية الشيعية، ولكن هؤلاء ابتلوا بأنّهم صاروا واقفية من الشيعة المنحرفين- >خذوا بما رووا وذروا ما رأوا<.

 رواياتنا الموجودة في كتبهم خذوها، لا سيما وأنّها كانت أيام استقامتهم، وأما آراؤهم فلا تأخذوا بها، خذوا بما رووا وذروا ما رأوا، فكان في الواقع أزمة واجهتها الطائفة”([19]). وكذلك الرواية التي ذكرناها سابقاً عن الأمير (ع) والمقطع الشاهد فيها هو >أما إنّ لكلّ قوم سامرياً، وهذا سامري هذه الأمّة! إلّا أنّه لا يقول: لا مساس، ولكنّه يقول: لا قتال<.

 فنفهم من خلال هذه الرواية أنّ من يتصف بصفات السامري، يجب علينا أن نطبق عليه ما قاله الإمام العسكري (ع) أي نترك ما تفرّد به ونأخذ بالمرويات ويجب علينا أن نقاطعه ولا نقرأ له كتباً ولا بياناً ولا نشاهد له أمراً، وما ذكره الأمير (ع) بأنّ فكر السامري فكرٌ سيّال مستشرٍ إلى الأزمنة المتأخرة.

 يجب الثبات أمام الحوادث الصعبة من الطبيعي أن توجد في مقابل كلّ ثورة حركة مضادّة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة، وليس سبب ذلك معقّداً ولا غامضاً؛ لأنّ انتصار ثورةٍ ما لا يعني فناء كلّ العناصر الفاسدة من الفترة السابقة دفعة واحدة، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، ومع اختلاف ظروف ومقدار وكيفيّة هؤلاء، فإنّهم يقومون بأعمال تناهض الثورة سرّاً أو علانية.

 وفي حركة موسى بن عمرانo الثورية نحو توحيد واستقلال وحرية بني إسرائيل، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعيّة المضادّة، فقد كان عالماً -كبقيّة قادة الحركات الرجعيّة- بنقاط ضعف قومه جيداً، وكان يعلم أنّه قادر على أن يستغلّ هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب -التي هي آلهة عبيد الدنيا، وتجلب اهتمام عوام الناس- عجلاً على هيئة خاصة، وجعله في مسير حركة الريح -أو بالاستعانة بأيّة وسيلة أخرى- ليخرج منه صوت، وذلك بانتهاز فرصة مناسبة -وهي غيبة موسى لعدّة أيّام- ونظراً إلى أنّ بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام، طلبوا من موسى صنماً… والخلاصة أنّه استغلّ كلّ نقاط الضعف النفسي، والفرص المكانية والزمانية المناسبة، وبدأ خطّته المضادّة للتوحيد.

 وقد نظّم هذه المواد بمهارة فائقة بحيث حرّف في مدّة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خطّ التوحيد إلى طريق الشرك. وبالرغم من أنّ هذه الخطّة قد أُحبطت بمجرّد رجوع موسى وقوّة إيمانه ومنطقه بنور الوحي، ولكن إذا لم يرجع موسى فماذا كان سيحدث؟ إنّهم إمّا كانوا سيقتلون أخاه هارون حتماً، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد.

 أجل، إنّ كلّ ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة، فيجب الحذر دائماً، ومراقبة تحرّكات الشرك الرجعية، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها ومهدها.

 وكذلك يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ كثيراً من الثورات الحقيقيّة تعتمد في البداية -ولأسباب مختلفة- على فرد أو أفراد معينين، بحيث إنّهم إذا فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدّد الثورة من جديد، ولذلك يجب السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن، وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزّهم العواصف المضادّة للثورة، بل يقفون كالجبل الأصمّ أمام كلّ حركة رجعيّة متخلّفة.

 وبتعبير آخر، فإنّ واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين والمعايير منهم إلى المجتمع، ولا شكّ في أنّ هذا الأمر المهمّ يحتاج إلى مضي زمان، إلّا أنّه يجب السعي لاختصار هذا الزمن إلى أقلّ ما يمكن([20]). إنّ طريقة موسى (ع) في مقابلة انحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل، يمكن أن تكون مثالاً يقتدى به في كلّ زمان ومكان في مجال مكافحة الانحرافات الصعبة المعقّدة.

 فلو أنّ موسى (ع) كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الاستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح، فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة أمور: أمام أخيه، والسامري، وعبدة العجل.

 ثمّ توجّه إلى المسبّب الأصلي لهذه المؤامرة -أي السامري- فحكمه بحكم كان أشدّ من القتل، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس ملوّث يجب أن يبتعد عنه الجميع، ثمّ تهديده بعقاب اللّه الأليم.

 ثمّ جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل، ووضّح لهم بأنّ ذنبكم كبير لا توبة منه إلّا أن تُشهر السيوف ويَقتل بعضكم بعضاً ليتطهّر هذا المجتمع من الدماء الفاسدة، وبهذه الطريقة يعدم جماعة من المذنبين بأيديهم، ليتوارى هذا الفكر الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء.([21])

النتيجة: فالأشخاص الذين يحملون الفكر السامري، تراهم ليسوا من الطبقة الجاهلة، بل قد يكونون من أرقى الطوائف علماً واطلاعاً ومعرفةً، وتراهم منبوذين في المجتمعات المطّلعة على ألاعيبهم وخططهم، لذا يلجؤون إلى مجتمعٍ يقبل فكرهم الضال ويأويهم ويحتضنهم، ودائماً ما يبثون الأفكار المسمومة والمشبوهة وذلك استغلالاً لضعف الناس علمياً وعدم تحصينهم ثقافياً بما يستطيعون به مجابهة هذا الفكر الأسود، وللأسف هناك من تنطوي عليه أفكارهم المنحرفة وذلك بحجة الانفتاح والتنقيح والتمحيص، ضاربين بعرض الحائط الأسس العامة ومتناسين وجود هارون موسىp فيما بينهم.

المصادر والمراجع

  • [1]) تفسير الكاشف، ج5، ص 235.
  • ([2]) سورة المائدة، آية 27.
  • ([3]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص680.
  • ([4]) تفسير الميزان، ج5، ص298.
  • ([5]) مجمع البيان في تفسير القرآن، ج3، ص283.
  • ([6]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص 676.
  • ([7]) سورة القصص: 76.
  • ([8]) الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج12، ص297.
  • ([9]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج12، ص 302.
  • ([10]) الغيبة للشيخ الطوسي، ص397. بحار الانوار، ج51، ص367. كمال الدين، ص485.
  • ([11]) بحار الأنوار، ج51، ص367.
  • ([12]) نور الثقلين، ج3، ص392.
  • ([13]) سورة طه: 97.
  • ([14]) في ظلال القرآن، ج5، ص 494.
  • ([15]) تفسير القرطبي، ج6، ص4281.
  • ([16]) سورة طه: 97.
  • ([17]) المصدر السابق.
  • ([18]) سورة طه: 96.
  • ([19]) الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة، الشيخ فاضل المالكي، ص47.
  • ([20]) تفسير الأمثل، ج10، ص59.
  • ([21]) الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج10، ص70.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى