ثقافة

ثورة عاشوراء الأخلاقية


المجتمعات البشرية بطبيعتها تحوي أصنافاً مختلفة من الناس، فلا تكاد ترى مجتمعاً صالحاً بجميع أفراده ومكوناته وكذا لا ترى مجتمعاً سيئاً بما يشتمله من مكونات، بل في الغالب ترى المجتمعات مختلطة فيما بينها، فهناك الصالح والطالح وهناك الذي لا يكترث لا بهذا ولا بذاك، وأما أن تجد مجتمعا فاضلاً وكاملاً فهذا من الشيء النادر.

فالمجتماعات -كالأشخاص- بحاجة إلى دراسة سيرة النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) المباركة، والأخذ منها بقدر ما تستطيع، فالله (عزَّ وجلَّ) أمرنا بالأخذ منه جميع الأمور ولم يقيّد الأخذ بقيد ما، فقال عز من قائل: {وَ مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1)، وطبقاً لهذا الأصل فإنّ جميع المؤمنين ملزمون باتباع التعاليم المحمدية، وإطاعة أوامر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) واجتناب ما نهى عنه، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها، وخصوصاً أنّ الله سبحانه هدّد في

نهاية الآية جميع المخالفين لتعاليمه بعذاب شديد القرآن الكريم كان قد حثَّ على التحلّي بالأخلاق الفاضلة وترك العادات السيئة، وهو قد وصف الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بقوله عزّ من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2). إذ إنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أسوة حسنة في سماته وصفاته وأخلاقه سواء كان على مستواه الشخصي (صلَّى الله عليه وآله) أم على المستوى الاجتماعي.

إشكال: كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس -بدون استثناء- بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بدون قيد وشرط؟

الجواب: لأننا نعتبر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) معصوماً، لذا كان هذا الحق له ولخلفائه المعصومين من بعده، والملفت للنظر أن الروايات العديدة قد أشارت إلى هذه المسألة أيضاً، وهي أنّ الله (سبحانه وتعالى) منح كل تلك الامتيازات للرسول (صلَّى الله عليه وآله) لأنّ الله (جلَّ وعلا) اختبره وامتحنه بشكل كامل ولما له من خُلق عظيم وسجايا حميدة، لذا فوّض له مثل هذا الحق(3).

إن قلت: الآية تتكلم عمّا آتى رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) المسلمين آنذاك من الفيء وذلك بدليل سياق الآية، فيكف عُمِّمت لجميع جوانب حياته (صلَّى الله عليه وآله) المباركة؟

الجواب: المورد لا يخصص الوارد، إذ إنّ هناك كثير من الآيات التي تذكر تطبيقاً واحداً ثم تذكر القاعدة العامة في ذيل الآية، وهذا ديدن العقلاء، وقد جرى القرآن مجراه، فنفهم أنّ الآية ليست منحصرة في هذا التطبيق وإنّما تشمله وتشمل غيره.

وعلى الرغم من الحثِّ الكبير على الاقتداء بسيرة النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلا أنّ المجتمعات من بعده (صلَّى الله عليه وآله) انحرفت عن سيرته العطرة وتدخلت الأهواء فيها، فكربلاء كانت عبارة عن مَجْمَع الأضداد، وكانت معياراً للتمييز بين أصناف البشر وأخلاقهم، ويكفي أنّها فضحت السرائر وكشفتها.

فقد يدّعي إنسان أنّه ملتزمٌ ويسير على وفق النهج الإسلامي إلا أنّه في الاختبار والامتحان الإلهي قد يفشل ويتضح معدنه الأصلي فتكون خاتمته سيئة، فمثلاً الذين انقلبوا على الإمام علي (عليه السلام) في النهروان كانوا من عبّاد الليل في صفين وكانوا روؤساء جيشه آنذاك إلا أنّ الدنيا غرّتهم، وكذلك الشمر بن ذي الجوشن كان تابعاً للإمام الحسن (عليه السلام) وفي جيشه عندما كان الامام (عليه السلام) محارباً لمعاوية (عليه لعائن الله) إلا أن الدنيا أظهرت معدنه الخبيث عندما ارتكب ما ارتكب في عاشوراء.

ثورة عاشوراء كانت ثورة عظمى حوت معاني عظيمة، فمحطة كربلاء لم تكن لمعاني الفضيلة فقط، بل حوت على المعاني العظيمة في الانحطاط والانحراف وحب الدنيا والمصالح الزائلة كما سيتضح من خلال البحث هذا.

إنَّ ثورة عاشوراء على الرغم مما حصل فيها من هتكٍ وقتلٍ وتشريدٍ لعترة النبي المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)، فإنّها حوت معاني لا يمكن احتوائها في أسطرٍ قليلة أو مقالاتٍ مقتضبة، بل إنّها معينٌ لا ينضب إذ كلّما نهلت منها أعطتك العِبر والدروس التي من شأنها أن تنظِّم حياتك وتوصلها إلى شاطئ الأمان والنّجاة في يوم المحشر.

كما ذكرنا أنّ المجمتعات عادة ما تكون مختلطة، ولكن يمكن تقسيمها الى أقسام رئيسية وهي:

أناس فضلاء، اتبعوا الوحي فكانوا في مصاف الملائكة وإن كان ظاهرهم ماديّاً.

أناس عاشوا الانحطاط، فكانوا في مصاف العجماوات بل إنّ البهائم أرقى منهم في بعض الأمور.

أناس لم يميلوا لأحد الطرفين أبداً، فكأنّهم في عالم مستقل لوحدهم.

كربلاء كبقية المجتمعات اشتلمت على هذه الأصناف المهمّة من الناس، ولا ريب في كون الفئة الناجية هي الفئة الأولى دون قسيمتيها، ولك حقٌّ في أن تسأل:

أنّه من الواضح كون الفئة الثانية هي فئة خاسرة لا محالة -إذ الفرض أنّهم خالفوا النهج السماوي- ولكن الكلام في كون الفئة الثالثة غير ناجية، فما هو الدليل على ذلك؟، إذ إنّها -وهو المفروض- لم تعاد الحق؟

نقول: على الرغم من أنّها لم تعاد الحقّ، إلا أنّ الضابطة ليست هي المعاداة أو عدمها، وإنّما المعيار والضابطة هي ما ذكره الإمام الحسين (عليه السلام) لبعض من لم يرد المشاركة في القتال: «انطلقا فلا تسمعا واعية ولا تريا لي سوادا فإنّه من سمع واعيتنا أو  رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقاً على الله عز وجل أن يكبه على منخريه في النار»(4)، ومن الواضح للمتأمل أنّ الإمام (عليه السلام) لم يقل أنّه من سمع واعيتنا وعادانا أو قاتلنا، بل قال: «من سمع واعيتنا ولم يجبنا»، وعدم الإجابة متحقق في الساكت الذي لم يحرّك ساكناً، فضلاً عن الذي شَهَرَ سيفه في وجه الإمام (عليه السلام).

وكلامي هنا ليس عن هذه الفئة (الساكتة) وإنّما عن الفئتين الأوليين، فكلُّ فئة فيها ميزات فاقت حدَّ التصور، ولم يكن في الحسبان أن يحصل ما حصل، وإنّ هذين القسمين يكشفان وبوضوح عن المظاهر الخلابة للبعض وكشفت المعدن الأصيل لمن ظاهرهم ليس كذلك، فنريد في هذا الموضوع عقد مقارنة بين أخلاق الفئتين لنتصور فضيلة فئة وانحطاط أخرى.

المحور الأول: بعض الألفاظ التي صدرت من الحسين (عليه السلام) وأصحابه(5)

القرآن – كما هو ظاهره- قد نهى عن التنابز بالألفاظ(6)، فهو لا يريد من الإنسان أن يحطَّ من مكانته الملائكية ويصل الى حضيض الحيوان، لذا تصيّد بعضُ المتصيّدين لبعض الألفاظ التي صدرت من الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه في ثورة عاشوراء، وتوهموا أنّ الإمام (عليه السلام) فضلاً عن اتباعه قد صدرت منهم بعض الألفاظ التي لا تليق.

التوهّم الأول:

جاء في سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه حينما استُدعي من قبل الوليد الوالي الأموي وهدَّده مروان بالقتل، قال له الإمام الحسين: «يا بن الزرقاء……»، والزرقاء هي العاهرة أو البغي، كيف يمكن للإمام الحسين (عليه السلام) وهو أنبل النّاس خلقاً وأعفُّهم لساناً ان يتلفَّظ على أحدٍ بذلك؟

الجواب:

الزرقاء ليس بمعنى العاهر البغي في اللغة ولا عند العرف، والمقصود من الزرقاء في النصِّ المذكور هي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه، نعم في قوله (عليه السلام) لمروان يا بن الزرقاء-لو صحَّ الخبر- تعريضٌ بواقع الحال الذي كانت عليه جدة مروان، فإنَّها كانت من ذوات الرايات التي يُستدلُّ بها على ثبوت البغاء كما ذكر ذلك ابنُ الأثير في كتابه الكامل في التاريخ(7) وأفاد كذلك: أنَّ بني الحكم وبني مروان كانوا يُذمُّون بها.

 وقال البلاذري في أنساب الأشراف أنَّ اسم الزرقاء: «مارية بنت موهب كندية، وهي الزرقاء التي يُعيَّرون بها، فيُقال بنو الزرقاء، وكان موهب قينا»(8).

والملاحَظ أنَّ من كانوا يُعيَّرون بأمهاتهم -في الروايات المنقولة عن أهل البيت والمأثورة عن الصالحين من الصحابة والتابعين– كانوا على درجةٍ عالية من الفسوق والتكبُّر والغطرسة، وكانوا ممن أسرفوا في دماء المسلمين فمثل هؤلاء لم يرعوا لدين الله تعالى ولا لعباده حرمة إلا وانتهكوها، لذلك لم تكن لهم حرمة تقتضي التستُّر على سوءاتهم، على أنَّ مثل هؤلاء الطغاة المتجبِّرين لا تُرغِم أُنوفهم إلا مثل هذه الألقاب المصغِّرة لشأنهم المنتفش على غير أهلية، والمذكِّرة لهم بواقعهم المخزي.

التوهّم الثاني: هل قال حبيب للحصين يا حمار؟

الجواب: أولا: اختلفت النصوص التأريخية فيما ردَّ به حبيب بن مظاهر (رحمه الله) على الحُصين ففي مثير الأحزان لابن نما الحلّي أنه قال: «لا يُقبل من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنصارهم وتُقبل منك وأنت شارب الخمر»(9).

وفي البحار للمجلسي نقلاً عن مقتل محمد بن أبي طالب أنّ حبيب (رحمه الله) قال للحصين: «لا تُقبل الصلاة زعمت من ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وتُقبل منك يا ختَّار»(10)، والختَّار هو الغدار.

وفي لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين أنَّه قال له: «يا خمَّار»(11) وفي أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين أيضاً أنّه قال له: «يا خمَّار أو يا حمار»(12).

نعم في تاريخ الطبري والكامل في التاريخ لابن الأثير ذكرا أنَّه قال له: «يا حمار»(13).

فلم يُعلم نظراً لاختلاف النصوص ما الذي قاله حبيبٌ للحُصين، وهل أنَّه وصفه بالحمار أو الختَّار أو الخمَّار، وكيف كان فهو مستحق لهذه الأوصاف وأشد منها. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(14).

ثانياً: لا ضير على حبيب لو وصف هذا الفاسق بالحمار فقد شبَّه القرآن الكريم اليهود بالحمار في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}(15)، وشبّه القرآن بلعم بن باعورا بالكلب. قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}(16).

المحور الثاني: المقارنة بين أفعال الطائفتين.

الفعال هي التي تكشف سرائر وما يضمره الإنسان لغيره، وبه يصحّ ثوابه أو عقابه وحتى ملامته إذا كان الفعل خاطئاً في نظر العقلاء، وحيث إنّ الشرع هو سيّد العقلاء، فما خالف العرف الشرعي فهو حتماً مخالف لما جُبِلت عليه الفطرة الإنسانية، وهنا نستعرض بعض النماذج التي تكشف عن طينة الطائفتين، فهناك طائفة للإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وهناك طائفة ليزيد (عليه لعائن الله) وجيشه.

الشاهد الأول: الغضب والثورة لله.

طائفة الإمام الحسين (عليه السلام): عندما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته في المباركة كان شعاره الذي دوّى في الأوساط والذي نصَّ عليه: «إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خيرالحاكمين»(17).

الطائفة الأخرى: كان الهمُّ والشاغل لهم هو بقاء سلطتهم، فلم يعيروا لأبناء الرسول وذريته أيَّ اعتبار وأهمية، إذ إنّ بقاء الحكم في يدهم وبقاء السلطة تحت قبضتهم كان شغلهم الشاغل.

تعليق: للأسف هناك في زماننا الحالي من يدافع عن الطائفة الثانية بتعبيرات ركيكة واهيه، من قبيل: أن الحسين خرج عن حدّه فقُتِل بسيف جده، متغافلين عن أحاديث النبي (صلَّى الله عليه وآله) في حقه وحقّ أخيه (عليهما السلام)، متناسين لأهداف خروجه ولمقولاته وأحاديثه ونداءاته.

الشاهد الثاني: المحافظة على حرمة المعالم الإسلامية(18).

طائفة الإمام الحسين (عليه السلام): عندما وصل الخبر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وطرق مسامعه ما نوى يزيد على فعله، قال الإمام الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنيفة: «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت»(19).

الطائفة الأخرى: يذكر المؤرخون لسيرة الإمام (عليه السلام) ونهضته المباركة أنَّ يزيد (عليه لعائن الله) قد كتب إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها، فخرج الإمام (عليه السلام) منها ولاذّ بحرم الله الذي هو أمن الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلة ولو وُجِد متعلّقا بأستار الكعبة.

التعليق: لا يختلف أحدٌ من المسلمين في كون الحرم المكي من الأماكن التي مَن دخلها كان آمنا سواء كان بشراً أو حيواناً أو حتى جماداً، ولهذا المكان حرمته الخاصة التي لا يجوز لأحد انتهاكها، ولكن لو لاحظنا تصرّف الفئتين السابقتين، أيّهما كان فعله موافقاً لمقتضى القاعدة السابقة؟

كان تصرُّف الإمام (عليه السلام) محافظاً على حرمة هذا المَعْلَم الإسلامي، بينما تصرُّف الفئة الأخرى مخالفٌ لمعتقدات الإسلام ولحرمة هذا الـمَعْلَم، وهذا ليس بغريب على يزيد وأطباعه المنافية للإسلام، فقد نقل التاريخ أنّ يزيد الذي استولى على الحكم لمدة ثلاث سنوات، في كل سنة لم تخلو من انتهاك لأحد الرموز الإسلامية، ففي أول سنة قتل سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وفي السنة الثانية انتهك حرمة المدينة وأباحها لجنده لمدة ثلاثة في حادثة معروفة باسم (وقعة الحرّة) وفي السنة الأخيرة رمى الكعبة الشريفة بالمنجنيق.

الشاهد الثالث: شرب الماء.

طائفة الإمام الحسين (عليه السلام): عندما التقى الإمام (عليه السلام) بالحر بن يزيد الرياحي في الطريق للكوفة، وكان الحرّ ومن معه عُطاشى، أمر الإمام (عليه السلام) أتباعه بأن يسقوا الحرَّ ومن معه بل وحتى الخيل، فقال الإمام (عليه السلام): «اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفا».

الطائفة الأخرى: عندما اشتدّ الجوع والعطش بالحسين وأصحابه وأهل بيته، لم تكترث هذه الطائفة بعطش الإمام (عليه السلام) ومن معه، بل منعوا حتى الرضّع من الماء، فكلُّ مَن كان ينتمي لمعسكر الإمام (عليه السلام) كان محروماً من الماء.

التعليق: لا ريب في أنّ الماء هو أساس الحياة، ولولاه لما استمرت هذه المعيشة للمخلوقات، ومنع الكائنات الحيّة منه إعدامٌ لها، وتصرّف الإمام (عليه السلام) لا ينافي هذه الحقيقة بل هو مصداق لها، ولا عجب في تصرُّف الإمام هذا، لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فعل هذا الفعل سابقا، إذ ذكر ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الإمامة والسياسة) أنَّ (معاوية) لما غلب على ماء الفرات لم يسمح لجيش عليّ (عليه السلام) بالشرب من الفرات، وبعد أن اقتحم مالك الأشتر الشريعة وأرجع جيش (معاوية) عن الماء، بعث إلى عليّ قائلاً له: هلم يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء. فلما غلب أهل العراق على الماء لم يمنع عليّ بن أبي طالب الماء عن أعدائه، وهذا من خلق السماء، ولذا قال (معاوية): إنَّ علياً لا يستحل منك ما استحللت منه، وإنَّ الذي جاء له غير الماء(20).

 ومما يضحك الثكلى أنّ الأمير (عليه السلام) قام بهذا الفعل مع معاوية بن سفيان الذي منع الأمير (عليه السلام) عندما استولى معاوية على الماء في الحرب المعروفة بينهما باسم -صفين-. وتعود نفس الكرّة بين ابنيهما، فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يمنع جند يزيد بل حتى الخيل قد سقاها لهم، ولكن يزيد سار على نهج أبيه في منع ذرية النبي (صلَّى الله عليه وآله) من لذيذ الماء.

الشاهد الرابع: صلة الرحم

طائفة الإمام الحسين (عليه السلام): عندما جاء الشمر (عليه لعائن الله) بكتاب أمان إلى العباس وإخوته(21)، ذلك لأن الشمر كان يقرب إلى العباس وإخوته عن طريق أمّه، أمر الإمام الحسين (عليه السلام) العباس بأن يتحدّث معه وإن كان عاصياً، ذلك لأنّ لصلة الرحم عُلقة لا بدّ من أن تُصان.

الطائفة الأخرى: كان عمر بن سعد قريبا للإمام الحسين (عليه السلام) ولكنه لم يراع حرمة هذه القرابة، بل إنّه فضّل الوعد الذي وعدوه به وهو ملك الريّ على أن يحفظ سلالة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلى أن يحفظ صلة القرابة التي تربطه مع الإمام (عليه السلام).

تعليق: على الرغم من التوصية العظيمة من الإسلام بحفظ القرابات وصلات الرحم وأنّها من الأمور التي تثير حميّة الإنسان إذا تعرض متعرّضٌ لرَحِمه، ولكن نرى النماذج الساقطة التي رخص الرحم في عقليتها وعرفها بسبب المال والمناصب، فلكنهم خسروا الدنيا والآخرة، فهم لم ينالوا ما وعدهم الطغاة في ذاك الزمان ولم يفوزوا في الآخرة ذلك لأنّهم قتلوا سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

الخاتمة: وبعد هذا الاستعراض السريع لبعض المقولات والأحداث التي واكبت مسيرة الحسين (عليه السلام) ولما جرى في واقعة الطف الأليمة، تُرى أيُّ الفريقين كانت تصرفاته وأقواله موافقة للكبرويات التي نصّ عليها القرآن الكريم، والتي حثّ على التمسك بها، تُرى هل يحق لأيِّ عاقلٍ أن يترك السيرة التي هي وليدة الإسلام وروحه السمحة ويختار السيرة التي هي مناهضة لتعاليم الإسلام وأهدافه.

وما جرى في الطف ليس مختصاً بذاك الزمان فقط، فزماننا الحالي كذلك، علينا أن ندقق في الفِرَق التي تنشأ هل هي موافقة لتعاليم الإسلام لكي اتبعها واختارها قدوة لي، أم أنّها مخالفة لروح الإسلام فأعاديها كما الإسلام يعاديها، فكل عاقل يوم القيامة محاسب على مقدار ما وهبه الله من عقل، فمن يختار طريق الحسين (عليه السلام) ينجو ومن يختار طريق غيره ممن عادى الحسين سيخبو كما ضاع وتاه السابقون.

المصادر والمراجع

  • (1) الحشر: آية 7.
  • (2) القلم: آية 4.
  • (3) الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في تفسير نور الثقلين ج5: ص 279-283.
  • (4) البحار ج 27: ص 204 عن ثواب الاعمال.
  • (5) الموقع الإكتروني لحوزة الهدى للدراسات الاسلامية.
  • (6) الحجرات: آية 11.
  • (7) الكامل في التاريخ – ابن الأثير – ج 4 ص 194.
  • (8) أنساب الأشراف – أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري) – ج 6 ص 257.
  • (9) مثير الأحزان – ابن نما الحلي – ص 49.
  • (10) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 45 ص 21.
  • (11) لواعج الأشجان – السيد محسن الأمين – ص 156.
  • (12) أعيان الشيعة – السيد محسن الأمين – ج 4 ص 555.
  • (13) تاريخ الطبري – الطبري – ج 4 ص 334، الكامل في التاريخ – ابن الأثير – ج 4 ص 70.
  • (14) الاعراف: 179.
  • (15) الجمعة:5.
  • (16) الأعراف:176.
  • (17) بحار الأنوار ج: 44 ص: 330.
  • (18) مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة ج2:ص 88 وما بعدها.
  • (19) اللهوف في قتلى الطفوف: ص 39.
  • (20) الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء ابن قتيبة الدينوري ج1 ص125 وما بعدها.
  • (21) الكامل لابن الأثير 558:2.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى