ثقافة

المنتظرون لصاحب الأمر (عج) من منظور قرآني

إنّ التدبر في آيات القرآن الكريم من الأمور التي تجعلنا نتبحر في المعاني المكنوزة فيه، ففي ذلك الكتاب دستور عام للبشرية سنَّـهُ الباري(عزّ وجلّ) لينظم حياتهم، ولكي يكونوا على بصيرة في خطواتهم، فالقرآن حوى بين دفتيه دروساً ساميةً تجعل الإنسان ذلك المخلوق الذي يتسامى في أخلاقه على سُلَّم القُرب الإلهي.

ففي حياتنا المعتادة نسمع بين الحين والآخر بعض ما يطرحه الإخوة من تساؤلات حول القرآن الكريم، فربما يكون أبرز إشكال مطروح هو هل أن القرآن الكريم استنفذ كنوزه خلال 1400 سنة؟ وهل أن القرآن الكريم لم يعد مواكباً للتطور الحاصل في العالم الآن؟ فهل سيبقى القرآن الكريم كما كان سابقاً دستوراً عاماً للبشرية جمعاء، أم أنه قد غدى قديماً فلا يحق لنا التعويل عليه؟! ففي هذا الموضوع سوف نقف حول أحد أهم المواضيع التي ترتبط بزمن الغيبة الكبرى –الذي نعيشه– وهو أهم سمات المنتظرين والممهدين لثورة الإمام المنتظر(أرواحنا فداه)، وذلك عبر منظورٍ قرآني، فمن يعتبرُ نفسه من المنتظرين له(عج)، يجب أن تشتمل حياته على سمات خاصة ومواصفات راقية لا يوازيه في الخلق شبيه، فالقرآن يحكي بجلاء عن أبرز ما يحتويه فكر تلك الفئة التي تنتظر صاحب الغيبتين(عج) وتناصره وتؤازره.

 فبعد أن طرق هذه الباب كبار المحققين، وألّف فيه من أساطين العلماء القدماء منهم والمتأخرين، سنة وشيعة، وأصبحت قضية الإمام المهدي(عج) قضية إسلامية عالمية، بالرغم من ضغط وتركيز كل الحكومات المتعاقبة على تشويه نظرية الإمامة بشكل عام، وإمامة المهدي بشكل خاص، وهذا التشويه لم يؤثر على جوهر الاعتقاد، ولم تُزعزعْ ثقةَ المنتمين إلى مدرسة أهل البيت(ع)، أو تقللْ من الحماس والترقب عند الأجيال المؤمنة بذلك الوعد الإلهي الذي بشّر به النبي الأكرم(ص).

 فبعد أن برهن الواقع العملي على وصول البشرية إلى حالة من العجز والفشل في تحقيق العدالة والاستقرار للعالم، وسقطت شعارات عشَّاق المادية بعدما أصيبت تجربتها بالكساد، وسقط القناع وانكشف الوجه الحقيقي لها، وبانَ الفشل الذريع لأهدافها المرسومة؛ لأنها نظرت للكون بعين واحدة، وساقت حشْداً من أدلة المعرفة المادية، مبرهنة على وهمها، متكلفة في زعمها، وعاشت فترة قصيرة على مائدة الصراع، وسببت انجرار البعض إلى الجدل الخاوي، فهذه بعض افرازات الأفكار المادية.

وبعدما أصيبت بالتراجع والإفلاس، ولم تعد قادرة على إعطاء التفسير المقنع لهزيمتها وانكسارها، مما جعلها تنحدر في نهايتها المحتومة، ومن هنا تركت المجال مفتوحاً أمام زميلتها الرأسمالية، حيث أبدت الأخيرة استعدادها لتحمل مسؤولية قيادة العالم، ولم تخفِ رغبتها الجامحة وطموحها اللامحدود، واحتمت بحماية ما يسمى بشرعية القانون الدولي، وهي تظن أنها تسيطر به على العالم.

 ومن ثم راحت تهمش القرار السياسي، وتعطي الأولوية للقرار العسكري، وبرهنت على ذلك بحسم النزاعات الساخنة في العالم بالتدخل العسكري، وجربت قوتها أكثر من مرة في الشعوب الضعيفة، وسعت إلى فرض العولمة على العالم، ومنحت نفسها التفرد بالقرار، وتحول ذلك إلى عقيدة في تفكير المحافظين تحت إطار ما يسمى بمجلس الأمن الدولي، ومنظمة حقوق الإنسان، وإذا ما تعارضت القرارت مع رغبتها، أو مسّت مصلحتها، شهرت سلاح الفيتو، وقلبت المعادلة لصالحها، ولكنها لم تخفِ هاجس خوفها من المُصلِح العربي، الأمر الذي يحكي الهلع والخوف والتوجس، حتى راجت فكرة رجوع المسيح.

 إن مسألة الإمام المهدي(عج) طوت مراحل التاريخ، وهي تشق طريقها بثبات، متحدية كل العقبات، وتنفض غبار الشبهات، وما ذاك إلا لأنها هدف للرسالة المحمدية، فالنبي(ص) كان مأموراً بتبليغ الأمة الإسلامية يوم هبط الأمين جبرئيل(ع) بصريح الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ}(1) بعد أن أوقف الحجيج، وبلَّغهم ولاية علي(ع) في حديث مستفيض.

 وقد جاء في بعض خطاباته(ص): (معاشر الناس: النور من الله(عزّ وجلّ) فـيَّ مسلوك، ثم في علي، ثم في النسل منه إلى القائم المهدي(عج) الذي يأخذ بحق الله وبكل حق هو لنا، لأن الله جلّ وعز قد جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائبين والآثمين والظالمين من جميع العالمين.

 معاشر الناس إني نبي وعلي وصي، ألا إنّ خاتم الأئمة منا القائم المهدي، ألا إنه الظاهر على الدين، ألا إنه المنتقم من الظالمين، ألا إنه فاتح الحصون وهادمها، ألا إنه قاتل كل قبيلة من أهل الشرك، ألا إنه مدرك بكل ثأر لأولياء الله(عزّ وجلّ)، ألا إنه لناصر لدين الله، ألا إنه الغراف في بحر عميق، ألا إنه يسمي كل ذي فضلٍ بفضله، وكل ذي جهلٍ بجهله، ألا إنه خيرة الله ومختاره، ألا إنه الوراث لكل علم والمحيط به، ألا إنه المخبر عن ربه(عزّ وجلّ) والمنبه بأمر إيمانه، ألا إنه الرشيد السديد، ألا إنه الحجة ولا حجة بعده، ولا حق إلا معه، ولا نور إلا عنده، ألا إنه المفوض إليه، ألا إنه الباقي حجة ولا حجة بعده،، ألا إنه لا غالب له، ولا منصور عليه، ألا إنه ولي الله في أرضه، وحكمه في خلقه، وأمينه في سره وعلانيته)(2)، وفي هذا المجال ورد نص ذكره الحمويني في (فرائد السمطين)، وذلك عندما تعرض لسبب نزول هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(3).

يقول: كبّر الرسول(ص) وقال: (تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية علي بعدي) فقام أبو بكر وعمر، فقالا: يا رسول الله هذه الآية خاصة في علي؟ فقال: بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة.

 قالا: يا رسول الله بيّنهم لنا.

 فقال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي، وولي كل مؤمن بعدي، ثم ابني الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي حوضي)(4).

 إن فكرة الإمام المهدي(ع) فكرة إسلامية باعتراف كل المذاهب، باستثناء من شذّ –ممن لا يعتد بقوله–، وقد حفلت المكتبة الإسلامية بمخطوطات ومطبوعات تدافع بجزم عن فكرة الإمام المهدي(ع)، بَيْدَ أنها تأثرت بالأدوار التي مرت بها فكرة الإمام المهدي؛ حيث أنها واجهت حملة من التدليس والتحريف، ما كلّف الباحثين جهد المتابعة، لصقل الفكرة وصياغتها بقالبها الإسلامي، كما في النصوص المتعاضدة الصريحة الصحيحة، التي حاصرت الإتجاهات الظالمة التي حاولت باستمرار تفريغ الفكرة عن محتواها الإسلامي، لتبعد الأجيال الإسلامية عن الاهتمام والتعلق بها.

 إن الشيعة تناولوا فكرة الإمام المهدي(عج) بالبحث والتحقيق، وشغلت حيزاً كبيراً في علم الكلام، ولم يتركوا ثغرة في هذه الفكرة، كما واصلوا الضغط في المناظرات، وجرّوا الخصم إلى ساحة الجدل العلمي، مما دعى الأخير إلى تحريم العمل بالفسلفة وعلم الكلام، وعمدوا إلى سد الفراغ بالشتم والتكفير، وأبدعوا في نسبة الشبهات إلى الشيعة، وعندما اشتغلوا بهذا الفن، وقعوا في محذور أشد، وهو تسطيح الوعي عند الأجيال الإسلامية، لأن غياب نظرية الإمامة يحتاج إلى طرح بديل عنها.

إنّ العلماء ركزوا اهتمامهم، وكرّسوا جهدهم، وأنفقوا الكثير من وقتهم في سبيل صقل هذه الفكرة، وسرد الأدلة العقلية والنقلية على أهمية الإمامة، وارتباط أعمال المكلف بها، حيث ذكر المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر(حفظه الله) في كتاب (عقائد الإمامية)، وقال: «وعلى الأقل أنّ الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه، يتوقف على الاعتقاد بها إيجاباً أو سلباً، فإذا لم تكن أصلا من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونها أصلاً، فإنه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة، أي من جهة أنّ فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعاً من الله تعالى واجب عقلاً، وليست كلها معلومة من طريقة قطعية، فلابد من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه، إما الإمام وعلى طريقة الإمامية، أو غيره على طريقة غيرهم».

«وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الإمام (ع) بعد الرسول (ص)».

 «وعليه لا يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة، منصور من الله تعالى، سواءً أبى البشر أم لم يأبوا، وسواءً ناصروه أم لم يناصروه، أطاعوه أم لم يطيعوه، وسواء كان حاضراً أم غائباً عن أعين الناس، إذ كما يصح أن يغيب النبي (ص) كغيبته في الغار والشعب، صحّ أن يغيب الإمام، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها».

 بعض الآيات التي تحكي سمات مَن ينتظر الإمام المهدي(عج)

1- {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(5).

 فقد جاء في تفسير هذه الآية: حكومة المستضعفين العالمية: إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترة خاصة أو معينة، ولا تختص ببني إسرائيل فحسب، بل توضح قانوناً كلياً لجميع العصور والقرون ولجيمع الأمم والأقوام، فهي بشارةٌ في صدد انتصار الحق على الباطل، والإيمان على الكفر.

 وهي بشارةٌ لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

 فزوال حكومة بني إسرائيل وحكومة الفراعنة، ما هي إلا نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية بفناء هكذا أنواع من الحكومات، وحكومة نبي الإسلام(ص) وأصحابه بعد ظهور الإسلام، خير مثال على حكومة العدل، حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين، الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم، ويرزحون تحت تأثير الضغوط (الظالمة) لأئمة الكفر والشرك.

وكانت العاقبة أنّ الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزل أولئك من أسرّةِ الحكم والقدرة، وأرغم أنوفهم بالتراب.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة –الكرة الأرضية– على يد “المهدي” أرواحنا له الفداء. هذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشر –بجلاء– بظهور مثل هذه الحكومة، ونقرأ عن أهل البيت في تفسير هذه الآية، أنها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.

 فقد ورد في نهج البلاغة عن الإمام علي(ع) قوله: (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ})(6).

 ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) قوله: (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وشيعته بمنزلة فرعون وأشياعه)(7).

 ومن الطبيعي أنّ حكومة المهدي(ع) العالمية في آخر الأمر، لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية، فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ أن يكون النظر حليفها بإذن الله.

 أسلوب المستكبرين على مدى التاريخ: لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لإذلالهم، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت، فحيث لم يستطيعوا قتل “الرجال” يلجؤون إلى قتل “الرجولة”، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدرات والفحشاء والمنكر والإنحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم وحكومتهم.

 ولكن أنبياء الله، وخاصة نبي الإسلام(ص) كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوّة النائمة، ويشحنون قدرات الشباب الهائلة، ويحرروهم من أسر الذلة، وكانوا يعلمون حتى النساء دروساً من الشجاعة والشهامة، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين(8).

 2- {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(9).

 الذين وعدهم الله باستخلاف الأرض: إن نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد، والأمن الكامل والعبادة الخالية من أيّ نوع من الشرك، وذلك حين ظهور المهدي(عج) وهو من سلالة الأنبياء(ع) وحفيد النبي الأكرم(ص) وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرسول(ص): (لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(10).

 ومما يجدر ذكره هنا قول العلامة الطبرسي في تفسير هذه الآية: «روي عن أهل بيت رسول الله(ص) حول هذه الآية: أنها في المهدي من آل محمد»(11).

 الهدف النهائي عبادة خالصة: إن مفهوم عبارة {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} من الناحية الأدبية سواء كانت جملة حالية أو مستقبلية، هو أن الهدف النهائي إعداد حكومة عادلة راسخة الأسس، ينتشر فيها الحق والأمن والاطمئنان، وتكون ذات تحصينات أُسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرتهُ آية قرآنية اُخرى تذكر الغاية من الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(12).

 عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم، عبادة لا يحتاج الله إليها، وإنما يحتاج إليها البشر لطّي مراحل تكاملها الإنساني.

 وعلى هذا فإنّ الفكر الإسلامي ليس كالأفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة، بل تكون للحياة المادية قيمة في الإسلام إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سامٍ، فالاهتمام بكون العبادة خاليةً من شوائب الشرك نافيةً للأهواء الزائفة، يعني أنه لا يمكن تحقق هذه العبادة الصافية إلا بتشكيل حكومة عادلة.

 3- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(13).

 القرآن  وظهور المهدي(عج): إن الآية مورد البحث عينها وبالألفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، كما وردت في أواخر سورة الفتح باختلاف يسير.

 والآية تخبر عن حدث مُهم كبير، استَدْعت أهميتُه هذه أن تتكرر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعابُ الإسلام للعالم بأسره.

 وبالرغم من أن بعض المفسرين فسر الانتصار –في الآية محل البحث– انتصاراً في منطقة معينة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلاً في عصر النبي(ص) أو ما بعده من العصور للإسلام والمسملين، إلا أنه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها ولا شرط، فلا دليل على تحديد المعنى، فمفهوم الآية انتصار الإسلام كليّاً –ومن جميع الجهات– على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أنّ الإسلام سيُهمين على الكرة الأرضية عامة وسينتصر على جميع العالم.

 ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقق في الوقت الحاضر، لكننا ندري أنّ هذا وعد من قبل الله حتمي وأنه سيتحقق تدريجياً، فسرعة انتشار الإسلام وتقدمه في العالم، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة، ونفوذه السريع في أفريقيا وأمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإسلام، كل ذلك يشير إلى أن الإسلام أخذ باستيعاب العالم.

 إلا أنه طبقاً للروايات المختلفة الورادة في المصادر الإسلامية، فإن هذا الأمر إنما يتحقق عند ظهور المهدي(ع) فيجعل الإسلام عالمياً.

 ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره لهذه الآية عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: (إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي، فلا يبقى أحدٌ إلا أقرّ بمحمد(ص)) كما ورد في التفسير ذاته عن النبي(ص) أنه قال: (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام)(14).

 كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإمام الصادق(ع) في تفسير هذه الآية -في كتابه إكمال الدين– أنه قال: (والله ما نزل تأويلها بعدُ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم)(15).

 مفهوم الانتظار: الانتظار: يطلق عادةً على من يكون في حالة غير مريحة ويسعى لإيجاد وضع أحسن.

 فمثلاً المريض ينتظر الشفاء من سقمه، أو الأب ينتظر عودة ولده من سفره، فهما –أي المريض والأب– مشفقان، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.

 بناءً على ذلك فإن مسألة انتظار حكومة الحق والعدل، أي حكومة المهدي(عج) وظهور المُصلِح العالمي، مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي، وعنصر إثبات، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن.

 وإذا قُدّر لهذين العنصرين أن يحلا في روح الإنسان فإنهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما: أ- ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها، هذا من جهة.

 ب- بناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الإستعدادت الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية، من جهة أخرى.

 ولو أمعنّا النظر لوجدنا أنّ هذين النوعين من الأعمال هما سبب اليقظة والوعي والبناء الذاتي.

 ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الروايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لِمَ وصفت الروايات المنتظرين بحق بأنهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه(عج) أو أنهم تحت لوائه، أو أنهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه، أو كالمستشهد بين يديه، أو كالمتشحط بدمه.

 تُرى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟ الانتظار يعني الاستعداد الكامل: إذا كنتُ ظالماً مجرماً، فكيف يتسنى لي أن أنتظر مَن سيفهُ مُتعطشٌ لدماء الظالمين؟ وإذا كنتُ ملوّثاً غير نقي فكيف أنتظر ثورةً يحرق لهبُها الملوّثين؟! والقائد الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت، لأن كيفية الانتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن في انتظاره.

 فهذه الثورة –التي ننتظرها– ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما، بل هي عامة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، في ثورة سياسية، ثقافية، اقتصادية، أخلاقية.

إذن فالانتظار يقتضي من الإنسان أن يكون على أهبة الاستعداد لنصرة إمامه(عج)، فليس من السهل أن يكون ذلك الشخص ممن ينتخبه الإمام(عج) بل لا يكون ذلك إلا بعد أن يمر الإنسان عبر مراحل لكي ينال ذلك الشرف، وهو أن يكون جندياً في ركب الإمام(عج).

 لذا نستفيد عدة حِكَم من تلك الآيات السابقة من أبرزها: الحكمة الأولى- بناء الشخصية الفردية: إنّ بناء الشخصية –قبل كل شيء– بحاجة إلى عناصر معدَّة ذات قيم إنسانية، ليتمكن الفرد من أن يتحمل العبء الثقيل لإصلاح العالم، وهذا الأمر بحاجة –أولاً– إلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي، لتطبيق ذلك المنهج العظيم.

 فالتحجر، وضيق النظر والحسد، والاختلافات الصبيانية، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.

 والمسألة المهمّة –هنا– أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج، بل لابدَّ أن يقف في الصف الآخر، أي صف الثائرين المصلحين، فالإيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول، لا يسمح له أبداً أن يكون في صف “المثبطين” المتقاعسين، بل يكون في صف المخلصين المصلحين، ويكون عمله خالصاً وروحه أكثر نقاءً، وأن يكون شهماً عارفاً معرفةً كافية بالأمور.

 أليس مثل هذا الانتظار كافياً لأن أُطهِّر نفسي وفكري، وأغسل جسمي وروحي من التلوث؟! فإذا كنتُ متقاعساً معوجّاً فكيف يمكنني أن أنتظر نظاماً لا مكان فيه للفاسدين؟ فالجيش الذي ينتظر جهاداً تحررياً لابدَّ له أن يكون في حالة من الاستعداد الكامل، وأن يُهيئ السلاح الجدير بالمعركة، وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده، ويقوي روحيّاتهم، ويُسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة، فإنَّ جيشاً ليس فيه مثل هذه الاستعدادات لا يكون جيشاً (منتظِراً)، وإذا ادعى الانتظار فهو “كاذب”! إن انتظار المصلح (العالمي)، معناه الاستعداد الكامل فكرياً، وأخلاقياً، مادياً ومعنوياً، الاستعداد لإصلاح العالم كله، فتصوروا أنّ مثل هذا الاستعداد كم يكون بنَّاءً! فبناء الشخصية لمثل هذه الهدف يستلزم الارتباط بأشد المناهج الأخلاقية، والفكرية والاجتماعية أصالة وعمقاً، فهذا هو الانتظار الواقعي! تُرى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول: إن مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلاً؟ الحكمة الثانية- التعاون الاجتماعي: إنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء “شخصياتهم”، عليهم أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدّوا في إصلاح ذواتهم لأن المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فردياً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية، وأن يكون العمل جماعياً تاماً، وأن تتسقَ المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية التي هم في انتظارها.

 ففي ساحة معركة واسعة يقاتل أولئك المنتظرون جنباً إلى جنب، لا يمكن لأحد منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشدّ أزرهم وأن يسدّ الثغرة ويصلح نقطة الضعف إن وُجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها، لأنه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعّالة متسقة متناسقة! فبناءً على ذلك فالمنتظرون بحق عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإضافة إلى إصلاح حالهم.

فهذا أثرٌ آخر بنَّاء يوِّرثه الانتظار لقيام مصلح عالمي، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها، المنتظرون بحق.

الحكمة الثالثة- المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد: إنَّ الأثر المهم الآخر للانتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوث بها أبداً.

 أي أنه: حينما يعمُّ الفسادُ المجتمعَ، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: في طريق مسدود “لليأس من الإصلاحات التي يتوخّاها”.

 وربما يتصور “المنتظرون” أنه لا مجال للإصلاح، وأن السعي والجد من أجل البقاء على “النقاء” والطهارة وعدم التلوث، كل ذلك لا طائل و لا جدوى منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرُّ الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفاسد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذٍ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة، وأنهم سيُفتَضَحون إن أصروا على مواصلة طريقهم، وينكشفون لأنهم ليسوا على شاكلة الجماعة.

 والشيء الوحيد الذي يُنعشُ فيهم الأمل، ويدعوهم إلى المقاومة والتجلد وعدم الذوبان والانحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي، فهم في هذه الحال –فقط– لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضاً.

 وحين نجد –في التعاليم الإسلامية– أنّ اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر، لأن العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئاً ينقذه ويخصله من عذاب الله، فلا يفكر بإصلاح الخلل، أو –يكفّ عن الذنب على الأقل– لأنه يقول في نفسه: أنا الغريقُ فهل أخشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنم، وقد أشتريتها، فما عسى أن أفعل؟ إلا أنه حين تنفتح له نافذة الأمل، فإنه سيرجو عفوَ ربِّه، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه إلى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح.

 ومن هنا يمكننا أن نعتبر أن الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد.

 والنتيجة أنّ معنى انتظار ظهور المُصلِح، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر، والانتظار يكون له أثر نفسي كبير، فيضمن للنفوس القوة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد، فهم ليسوا أربط جأشاً فحسب، بل هم يسعون أكثر للوصول إلى الهدف المنشود، وتنْشَدُّ هِمتُهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه، فشوقهم لتطبيق مفهوم المُصلِح جعلهم يتفانون في إخلاصهم وفي تهذيب أنفسهم ومجتمعاتهم من رذائل الدهر، فلولا الأجل الذي جعله المولى(عزّ وجلّ) عليهم لما بقت أرواحهم في أبدانهم ساعة شوقاً لمولاهم.

 بينما يكون الأثر السلبي للانتظار فيما لو مسخ مفهومه، أو حُرّف عن واقعه، كما حرَّفه المخالفون والأعداء، ومسخه الموافقون، غير أنه لو أُخِذَ بمفهومه الواقعي لكان عاملاً تربوياً مهماً بنّاءً محركاً باعثاً على الأمل والرجاء.

 فبناءً على ذلك فإنَّ تحقق هذه الثورة الإصلاحية بدون إيمانٍ مُستحكمٍ يقضي على كل أنواع الضعف والتحلل، وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإصلاح العالم، فإن هذا التحقق مستعبدٌ جداً.

 والطالبون لهذا التحقق عليهم أن يزدادوا إيماناً ومعرفة، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإصلاح ذاتهم، وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق، لا مَن رَكَنَ إلى الظلم والجور، وليس المنتظرُ لتلك الحكومة الأشخاصَ ضعافَ الهمةِ والجبناءُ..

 هذا هو أثر انتظار قيام المهدي(عج) في المجتمع الإسلامي حيث أنه يصوغ فكر الإنسان وحياته ويجلعها مهيَّئةً لتلك الدولة.

المصادر والمراجع

  • (1) المائدة 67.
  • (2) معجم أحاديث الإمام المهدي(عج): الشيخ علي الكوراني العاملي، ج5 ص 135.
  • (3) المائدة 3.
  • (4) تفسير الثقلين: الشيخ الحويزي ج2ص 192، التحصين: السيد ابن طاووس الحسني ص 633، بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج31 ص 411.
  • (5) القصص 5.
  • (6) نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 209.
  • (7) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
  • (8) تفسير الأمثل الجزء 7 ص 530.
  • (9) النور الآية 55.
  • (10) منتخب الأثر ص 247.
  • (11) تفسير مجمع البيان ج7 ص 152.
  • (12) الذاريات ص 56.
  • (13) التوبة آية 33.
  • (14) تفسير مجمع البيان ج5 ص 45.
  • (15) تفسير نور الثقلين ج2ص 112.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى