كتب السياسة والتاريخ

كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية

ملخص الكتاب

كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية هو كتاب للفيلسوف الفرنسي روجي جارودي يتحدث فيه عن مجموعة من الأساطير حسب الكاتب بُنيت عليها السياسة الإسرائيلية. الكتاب في مجمله يُنكر الهولوكوست ويرى فقط أنه “أسطورة ” يتبناها الشق الصهيوني في إسرائيل من أجل تبرير احتلالهم لفلسطين مدعوماً باللوبي اليهودي في كل منفرنسا  و الولايات المتحدة وكندا ودول أخرى.

يعرض الكتاب بحثاً تاريخياً، وذلك بعرض شهادات متناقضة لأشخاص كانوا يعملون في المعتقلات الألمانية أثناء محاكمات النازيين (محكمة نورنبيرغ على سبيل المثال) وبحث علمي لمهندس كيميائي أمريكي لويشتر(كان لويشتر مستشاراً للولايات ميسوري وكاليفورنيا وكارولاينا الشمالية قبل أن تلغي هذه الولايات حكم الإعدام) أُرسل لفحص غرف الغاز، ليخلص إلى نتيجة أن هذه الغرف المفحوصة لا يمكن أن تكون قد استعملت غرفاً للإعدام بالغاز لعدم توفرها على التقنية المناسبة لذلك، بل أنه لم يجد أي أثر لحمض سيانوريك مشتق من غاز زايكلون بي الذي يقال أنه كان يُستعمل كوسيلة للإعدام في الغرف

يعد كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” من أكثر الكتب التي أثارت جدلا في القرن العشرين، وحورب مؤلفه الفرنسي روجيه غارودي بشكل علني وفاضح، لأنه تجرأ على إحدى المحرمات التي رسّختها الصهيونية العالمية دون أن تسمح لأحد بمناقشتها أو فتح ملفاتها، ولا يتعلق الأمر بالهولوكوست فقط، بل تعداه إلى الأكاذيب الإسرائيلية التي سبقت قيام دولة إسرائيل بمئات السنين، مثل مقولة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، وغيرها من المقولات التوراتية التي تثبت الأبحاث يوما بعد يوم أنها “خرافات” لا أصل لها إلا في رؤوس كتّابها.

قام محمد هشام بترجمة الكتاب، وقدم له الصحفي اللامع محمد حسنين هيكل، وقد اعتمدت في هذه القراءة على الطبعة الخامسة من الكتاب والصادرة عن دار الشروق في القاهرة عام 2002، ويقع الكتاب في 344 صفحة من القطع المتوسط.
وقد قام غارودي بتوثيق كل جملة من الجمل التي استند إليها باليوم والتاريخ والمكان والشخصيات، إلا أنني تجاوزت إيراد المصادر التي اعتمدها غارودي، والتي يمكن الرجوع إليها بسهولة من خلال كتابه.
ورغم قصر المقدمة التي يكتبها محمد حسنين هيكل، إلا أنه يورد فيها ما يجعل الحديث عن محرقة راح ضحيتها ستة ملايين يهودي، بحاجة إلى الكثير من المراجعات النقدية: “أورد إحصاء عصبة الأمم عن عدد اليهود في العالم سنة 1938، وهو آخر تقرير سنوي لهذه المنظمة قبل الحرب العالمية الثانية، ثم الإحصاء الذي قامت به الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم بعد الحرب، سنة 1947، فأظهرت الإحصاءات أن العدد بقي كما هو قبل الحرب [11 مليونا]”. وهذا يثبت بما لا يدع مجال للشك، من الناحية المبدأية، أن عدد مَن فقدوا من اليهود سواء بالقتل أو بالموت الطبيعي بسبب الأمراض التي انتشرت آنذاك في معسكرات الاعتقال، أو بسبب السخرة التي أخضع الألمان اليهود لها، لا يزيد عن العدد الذي مفروض أن يزيد فيه 11 مليون إنسان خلال تسع سنوات، وهو بالتأكيد أقل كثيرا من ستة ملايين.
لكن غارودي يبدأ كتابه بالحديث عن أساطير التوراة، وعن التعاليم التي وردت فيها، على الأخص في سفر “يوشع”، والتي قضى فيها على سكان عدد من المدن الفلسطينية وأبادهم عن آخرهم بأمر من الرب “رب الجنود”، ويوضح غارودي أن هذا السلوك ظل مستمرا في الأدبيات اليهودية، إلى أن تبنته الصهيونية كنهج سياسي وعسكري ما زال قائما إلى اليوم.

يتطرق بعدها إلى مسألة الهولوكوست، والمبالغة في عدد الضحايا، لكن، لماذا تمت المبالغة في أعداد الضحايا؟ ولماذا تم التعتيم على الجريمة الحقيقية التي قام بها هتلر ضد الإنسانية جمعاء، لتتحول إلى جريمة ضد اليهود وحدهم؟ يقول غارودي:
“كان من الضروري المبالغة في أعداد الضحايا، كما كان من الضروري أن تصبح الإنسانية جمعاء شريكة فيما يسمى “أكبر عملية إبادة في التاريخ”، وأن تنسى تماما ضحايا الإبادة الآخرين، ومنهم مثلاً 60 مليوناً من الهنود الحمر في أمريكا، و100 مليون من الزنوج في أفريقيا، [قتل عشرة زنوج مقابل كل أسير بيع كعبد]، وأن ننسى كذلك هيروشيما وناجازاكي، والقتلى خلال الحرب العالمية الثانية البالغ عددهم نحو 50 مليوناً، من بينهم 17 مليوناً من السلافيين”. وهذا يبين بوضوح أن المسألة لم تكن صدفةً، فكثير ما يسعد مجرم ما، بجريمة أكبر من جريمته لأنه يشعر بأن جريمته مقبولة حين تتم مقارنتها بجريمة أكبر، لكن هذا حسب رأي غارودي كان مخططاً لأبعد من مجرد الحديث عن مذبحة، “إن الإنجاز الأكبر الذي حققته الصهيونية ما هو إلا تجريد اليهود من يهوديتهم”.

ويتطرق غارودي إلى الدعم الذي تتلقاه إسرائيل مادياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً من الولايات المتحدة الأمريكية، ما يغطي على عنصريتها وجرائمها التي ترتكبها: “في 10 نوفمبر 1975، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتفرقة العنصرية، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على الأمم المتحدة، وتمكنت في 16 ديسمبر 1991 من دفع الأمم المتحدة إلى إصدار قرار بإلغاء القرار العادل الصادر عام 1975”. وبالطبع فإن هذا السلوك الأمريكي ما زال هو ذاته باتجاه إسرائيل، حتى أن أمريكا تتخذ أحياناً قرارات تفيد إسرائيل مع أنها تضر بمصالح الولايات المتحدة ذاتها، “قوى الضغط الإسرائيلية الصهيونية قد نجحت في دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف لا تتفق تماماً مع المصالح الأمريكية وإن كانت عظيمة الفائدة للسياسة الإسرائيلية”. بل تعدى الأمر إلى سكوت الولايات المتحدة عن عمليات خطيرة قامت بها إسرائيل ضد الجيش الأمريكي نفسه، “في 8 يونيو 1967، قامت القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية بقصف الباخرة الأمريكية “ليبرتي” المزودة بأجهزة استطلاع متقدمة، وذلك لمنعها من كشف الخطط الإسرائيلية لغزو الجولان، وقد ظلت الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق الباخرة لمدة ست ساعات، بينما استمر قصفها لمدة 70 دقيقة، ما أسفر عن مصرح 34 بحاراً، وإصابة 171 آخرين، وتذرعت الحكومة الإسرائيلية بأن ما حدث كان مجرد “خطأ”، لكن الضابط إنيس، وهو أحد شهود العيان الذين كانوا على متن المدمرة الأمريكية، أماط اللثام عن حقيقة الحادث عام 1980، وأثبت أنه كان متعمداً، وقد تعرض كتابه إلى حصار خانق”.
“إسرائيل حصلت خلال 18 سنة على معونات تقدر بنحو سبعة مليارات دولار، أي ما يزيد عن إجمالي الدخل القومي للدول العربية المجاورة مجتمعة، مصر وسوريا ولبنان والأردن، والذي بلغ ستة مليارات دولار عام 1965”.
أما عن التعاون بين النازية والحركة الصهيونية، فيفرد لها غارودي فصلاً كاملاً، مدعوماً بالوثائق والتواريخ والشهادات، “ظل وجود المنظمة الصهيونية ليهود ألمانيا قانونياً حتى عام 1938، أي بعد خمس سنوات من وصول هتلر إلى سدة الحكم، كما استمر صدور صحيفة بوديش روندشو الناطقة بلسان الصهاينة الألمان حتى عام 1938”. ما يدلل على أن فكرة إبادة اليهود كعرق لم تكن مطروقة من الأساس، ويدلل على ذلك بشكل قاطع، “اعتراف “لاكير”، عام 1981 بأنه: لم يتم حتى الآن العثور على أمر مكتوب صادر عن هتلر بإبادة الجماعات اليهودية في أوروبا، والأرجح أنه لم يصدر أي أمر من هذا النوع”.
التعاون بين المنظمات الصهيونية والنازية، أثبتته العديد من الأبحاث الجادة، ويعود السبب في هذا التعاون حسب الكتاب إلى أن الأهمية القصوى للمنظمات الصهيونية كانت إقامة دولة إسرائيل، وليس إنقاذ اليهود من معسكرات الاعتقال، “من منطلق الأهداف الصهيونية، كان إنقاذ رؤوس الأموال اليهودية من ألمانيا النازية، بما يتيح تحقيق المشروع الصهيوني، أمراً أكثر أهمية من إنقاذ أرواح اليهود البؤساء، أو غير القادرين على العمل أو القتال، والذين يمثلون عبئاً ثقيلاً”. وقد وصل التعاون إلى درجة غير مسبوقة، حيث قام بعض قادة المنظمات الصهيونية بتسليم عدد كبير من اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية مقابل ترحيل بعض اليهود إلى فلسطين، “عند التخطيط لترحيل يهود المجر، أجرى نائب رئيس المنظمة الصهيونية “رودولف كاستنر” مفاوضات مع “أيخمان” بأن ينقل إلى فلسطين 1648 يهودياً من “النافعين” لبناء دولة إسرائيل مستقبلاً [من الرأسماليين والفنيين والعسكريين وما إلى ذلك]، وفي المقابل يقوم كاستنر بإقناع 460 ألفاً من يهود المجر بأن ترحيلهم سيكون إلى مناطق أخرى وليس إلى معسكر أوشفتس”. إلى هذا الحد وصلت البراغماتية الصهيونية في التعامل مع مسألة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل وتعدى الأمر ذلك إلى تفجير باخرة بريطانية رست في ميناء حيفا، وقد كان هدف بريطانيا أن تنقل اليهود الذين على متنها إلى أمكنة آمنة، “في عام 1940، كان القادة الصهاينة في منظمة الهاجاناة بزعامة بن غوريون، يرغبون في إثارة الشعور بالسخط على الإنجليز الذين كانوا قد قرروا إنقاذ اليهود الذين يتهددهم الخطر في ظل الحكم الهتلري، وذلك بنقلهم إلى جزيرة موريشيوس، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، لم تتورع القوات الصهيونية من تفجير الباخرة التي تحملهم في ميناء حيفا، يوم 25 ديسمبر 1940، ما أسفر عن مصرع 252 يهودياً، بالإضافة إلى أفراد طاقم الباخرة الإنجليز”. فمن يفعل ذلك، هل سيتورع عن اختلاق الأكاذيب من أجل أن يقيم دولة غير مستحقة يقيم فيها شعب آخر؟

“وصلت سياسة التعاون بين الصهيونية والنازية إلى ذروتها عام 1941، عندما أقدمت أكثر الجماعات تطرفاً في الحركة الصهيونية، وهي جماعة “ليحي” [المحاربون من أجل إسرائيل]، التي كان يتزعمها “إبراهام شتيرن”، ثم تولت القيادة بعد موته لجنة ثلاثية من أعضائها “إسحق شامير”، على ارتكاب جريمة لا تغتفر من الناحية الأخلاقية، ألا وهي الدعوة إلى التحالف مع هتلر ومع ألمانيا النازية في مواجهة بريطانيا العظمى”. وهذه الدعوة لقيت تجاوباً من القيادات الصهيونية، لأن ذلك كان خدمة لمصالحها في الأساس، فخارج مصالح الخطة الصهيونية لم تكن تلك القيادات ترى شيئاً أو تتورع عن القيام بأي عمل يخدم هذا التوجه. “ففي مقال في صحيفة حوتام الأسبوعية الصادرة في تل أبيب بتاريخ 19 أغسطس 1983، كشف النقابي المعروف وعضو كيبوتس يافا “ألعيزر هاليفي” النقاب عن وجود وثيقة، تحمل توقيع إسحق شامير، [وكان اسمه آنذاك يزرنيتسكي] وأبراهام شتيرن، سُلمت إلى السفارة الألمانية في أنقرة، بينما كانت الحرب مستعرة في أوروبا، وكانت قوات الماريشال “رومل” قد وصلت إلى الأراضي المصرية، جاء فيها ما يلي: “نحن نتطابق معكم في المفاهيم، فلماذا لا نتعاون معاً؟”.

هذا التعاون، حدث رغم أن بريطانيا العظمى هي التي تعهدت لليهود بإقامة وطنهم القومي، عبر وعد بلفور الشهير بالطبع، إلا أن هذا لم يمنع الصهاينة من العمل ضدها، إما داخل فلسطين كما حدث في تفجير فندق الملك داود على سبيل المثال، أو عقد صفقات تجارية بينهم وبين النازيين تضر بمصالح الحلفاء، “قبضت قوات الحلفاء على “نفتالي لوبنتشيك” مبعوث شتيرن وشامير، في يونيو 1941، أثناء وجوده في مكتب الاستخبارات السرية النازية في دمشق، وفي أعقاب ذلك، واصل أعضاء آخرون في الجماعة إجراء اتصالات مع النازيين، حتى ألقت السلطات البريطانية القبضٍ على إسحق شامير نفسه في ديسمبر 1941، وذلك بتهمة الإرهاب والتعاون مع العدو النازي”. ورغم ذلك، لم يمنع هذا التاريخ “الإرهابي” من انتخاب إسحق شامير بعدها بسنوات رئيساً للوزراء، رغم معرفة الناخب الإسرائيلي التامة بتاريخ شامير الإرهابي، وهذا يشبه بالضبط انتخاب هتلر في ألمانيا، وكان الناخب الألماني يعرف توجهات هتلر جيداً، حيث كان قد أصدر كتابه “كفاحي” الذي يشرح فيه مبادئه عام 1925، بينما تم انتخابه عام 1933.

ويسوق غارودي المزيد من الدلائل، حيث يورد جزءاً من ملاحظات هملر الشخصية، وكان هملر هو الرجل الثاني في نظام الحكم النازي بعد هتلر، “تقول ملاحظة شخصية سجلها هملر في 10 ديسمبر 1942 ما يلي: “سألت الفوهرر عن رأيه في إطلاق سراح اليهود مقابل الحصول على فدية، فأعطاني الصلاحيات الكاملة للموافقة على عمليات من هذا النوع”. فباعتبار أن معظم اليهود في معسكرات الاعتقال كانوا فقراء، فمن كان سيدفع الفدية؟ الواضح من سياق الأمور أن المنظمات الصهيونية كانت تدفع الفدية فقط للناس الذين تراهم قادرين على القتال أو العمل من أجل “إيريتس إسرائيل”. “في أبريل 1944 اقترح “أيخمان” على المندوب الصهيوني “براند” مقايضة مليون يهودي بعشرة آلاف شاحنة، على ألا تستخدم هذه الشاحنات إلا على الجبهة الروسية”.

يأتي باب كامل في كتاب غارودي ليتحدث عن المذبحة التي ارتكبتها النازية، ويحاول تفنيد الرقم الذي ادعته الصهيونية، ليس من خلال تبرير الأعمال النازية، ولكن من خلال استجلاء الحقيقة، فمقتل فرد واحد ظلماً هو انتهاك للإنسانية كلها، لكن هذا لا يعني المبالغة أيضاً في عدد القتلى، وتجاهل القتلى من أعراق أخرى، بل تجاهل اليهود أنفسهم، أولئك الذين انخرطوا في حركات مقاومة ضد النازية سواء في فرنسا أو روسيا أو أي من البلاد التي خضعت للسيطرة الألمانية.

“في نوفمبر 1990، رأت اللجنة الدولية بمعسكر أوشفتس تغيير اللوحة التذكارية الموضوعة على مدخل المعسكر، والتي كتب عليها “أربعة ملايين قتيل”، ووضع لوحة أخرى محلها كتب عليها “أكثر من مليون قتيل”، لكن رئيس اللجنة الدكتور “موريس جولدشتاين” اعترض على هذا الاقتراح”. وهذا بالطبع يدلل على مقصودية طرح الرقم المبالغ فيه، فما زال رقم ستة ملايين يتردد في الإعلام في العالم عبر الأبواق الصهيونية رغم أنه “أصبح من المتفق عليه في الوقت الراهن فيما بين المتخصصين أن عدد الضحايا لا يقل عن 900 ألف، ولا يزيد عن مليون و200 ألف”. لكن كل من حاول أن يشكك في الأحداث ولو كان تشكيكه مبنياً على طرح علمي فقد تعرض لأقسى أنواع الإنكار، “الملاحظ أن كتابات المؤرخين والباحثين الذين شككوا في مقولات الإبادة أو انتقدوها لم تقابل بأي تفنيد نقدي أو تمحيص علمي أو نقاش موضوعي، وكان مصيرها هو الصمت والتجاهل في أحسن الأحوال، والقمع والاضطهاد في السيئ منها”. ولم يستثن من ذلك الكتاب الذي بين أيدينا، “استماتت الصحف الفرنسية في الهجوم على كتابي هذا دون أن تتيح لي أي من هذه الصحف فرصة الرد على ما يثار ضدي، حيث كان الاستثناء الوحيد هو صحيفة لوفيجارو التي وافقت على نشر ردي بعد أن حذفت منه أجزاء كبيرة”.

وينتقل غارودي للحديث عن المحاكمات التي جرت بعد الحرب، فكل تلك المحاكمات، قامت بمحاكمة النازيين فقط، وبناء على شهادات بمعظمها عاطفية، دون التحقق من محتوى الشهادات عملياً، “جاء في حيثيات حكم المحكمة التي جرت في مدينة فرانكفورت بعد الحرب، والتي حاكمت المسؤولين عن أوشفتس، وذلك عام 1965: “لقد افتقرت المحكمة إلى معظم وسائل المعلومات التي تتوافر عادة في أي محاكمة جنائية عادية، حتى يتسنى تكوين صورة وافية دقيقة عن الوقائع مثلما حدثت لحظة الجريمة، إذ كان ينقصها معاينة جثث الضحايا، والاطلاع على تقارير التشريح، والنتائج التي خلص إليها الخبراء بخصوص أسباب الوفاة، كما كان ينقصها التعرف على الآثار التي خلفها الجناة، وأدوات الجريمة، وما إلى ذلك، وفضلا عن هذا، لم يتيسر التحقق من صحة الشهادات إلا فيما ندر”. هذا حدث في محكمة نورمبرغ وفرانكفورت وغيرهما، وما زالت الكثير من الحقائق مغيبة، ولم يتم الاستدلال عليها بشكل قطعي، ففيما يخص المقولات التي تحدثت عن أفران الغاز، “بعد الاطلاع على جميع المصادر الوثائقية ومعاينة جميع المواقع في أوشفتس، وبيركناو، وماجدنيك، فإن الباحث “فريد لوشتر” يرى أن ثمة أدلة قاطعة على أنه لم توجد على الإطلاق في أي من هذه الأماكن أي غرف للإعدام بالغاز”. والمبنى الوحيد الذي كان يفترض أن يكون مجهزاً للإعدام بالغاز، كان مبنى افتراضياً ولم يتم الانتهاء من بنائه حتى بعد أن انتهت الحرب، بمعنى أنه لم يتم استخدامه، كما لم يعثر على أي دليل يثبت استخدام النازيين لغازات سامة، لا في جثث الضحايا، ولا في الأمكنة التي قيل إنها استخدمت لذلك.

أما فيما يخص عدد اليهود الذين قضوا في الحرب، سواء من قتلوا من قبل الألمان، أو ماتوا على جبهات الحرب، أو من مرض التيفوس المنتشر في المعسكرات، أو من الموت الطبيعي، فإن وثيقة هامة واحدة يمكن أن تطعن في العدد الذي يدعيه الصهاينة، “يشير الكتاب السنوي اليهودي الأمريكي رقم 5702 الذي يتناول الفترة من 22 سبتمبر أيلول 1941، حتى 11 سبتمبر أيلول 1942، ص 666 إلى أن عدد اليهود في بلدان أوروبا الخاضعة للسيطرة الألمانية، في أعقاب التوسع النازي الكبير وامتداده إلى روسيا، كان يبلغ في عام 1941 [ثلاثة ملايين ومئة وعشرة آلاف وسبع مئة واثنين وعشرين “3110722”]، بما في ذلك اليهود الذين تبقوا في ألمانيا، فكيف يباد منهم إذن ستة ملايين”؟ وأظن هذا التساؤل لا يحتاج إلى إجابة، فهو يحمل إجابته في داخله. ولكن هذا الرقم كان ضرورياً بالنسبة للمشروع الصهيوني من جهة، وللدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى، “كان من الضروري أن تصبح خرافة إبادة اليهود هي الشغل الشاغل للعالم كله، فالحديث عنها باعتبارها “أكبر عملية إبادة جماعية في التاريخ” يعني بالنسبة للاستعماريين الغربيين نسيان الجرائم التي اقترفوها مثل إبادة الهنود الحمر في أمريكا واستعباد سكان أفريقيا، كما كان يعني إخفاء عمليات القمع الوحشية التي ارتكبها ستالين”. وبالتالي خضعت الرواية للترحيب من قبل المنتصرين وقد تجاهلت ما حدث في دريسدن، حين قتلت القوات الروسية 200 ألف، وتجاهلت قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، عدا عن التجاهل التاريخي لمئات الملايين من السود والهنود الحمر في أفريقيا وأمريكا، حيث قتلوا بدم بارد.

أما فيما يتعلق بآن فرانك، تلك الطفلة اليهودية التي توفيت في معسكرات الاعتقال النازية، والتي كتبت كتاباً أبكى العالم بأجمعه وترجم إلى جميع اللغات الحية، فقد اثبت الدراسات أيضاً كذب وتلفيق هذا الكتاب المنسوب إلى فتاة في السادسة عشرة من عمرها [1929-1945]، “أجري فحص في معمل الشرطة الجنائية الألمانية في فيسبادن، لمخطوطات آن فرانك، وأثبت الفحص أن قسما من مذكرات آن فرانك قد كتبت بالقلم الجاف، ويذكر أن هذا النوع من الأقلام لم يطرح في الأسواق إلا عام 1951، بينما توفيت آن فرانك عام 1945”. هذا التلاعب يثبت أن الحركة الصهيونية لم تتوقف عن اختراع الأكاذيب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل ما زالت تمارسها إلى اليوم، وهذه الممارسة أصبحت أكثر وضوحاً بعد انتشار الإعلام الإلكتروني، وبعد أن أصبح من الصعب إخفاء ما يحدث.

يتطرق غارودي في فصل ما قبل الخاتمة إلى أكذوبة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، “في عام 1882 كان تعداد سكان فلسطين 500 ألف نسمة، منهم 25 ألف يهودي فقط”. وهؤلاء هم يهود فلسطين، أي اليهود الذين ولدوا في فلسطين، وعاشوا فيها كأي فرد من أفرادها قبل أن تنشأ الفكرة الصهيونية التي قامت باستغلالهم، لكن التاريخ لا يسير دائماً وفق هوى أحد، فيتحقق المثل القائل “شهد شاهد من أهلها”، “في عام 1892، كتب آحاد هاعام “أحد العامة” وهو اسم الشهرة للكاتب آشر جينزبرغ، أحد رواد الصهيونية الأوائل، عن انطباعاته بعد زيارته إلى فلسطين قائلاً: “اعتدنا في الخارج أن ننظر إلى أرتس يسرائيل باعتبارها أرضاً شبه مقفرة، مجرد صحراء لا نبت فيها، وبالتالي فبوسع كل من يرغب في امتلاك أرض أن يأتي هنا ليجد ضالته، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فعلى امتداد البلاد لا تكاد توجد أرض مقفرة، والأماكن الوحيدة غير المزروعة هي عبارة عن مناطق رملية وجبلية لا تنبت فيها سوى أشجار الفاكهة، بل ولا يتأتى ذلك إلا بعد جهد جهيد وعمل شاق من أجل استصلاح تلك الأرض وفلاحتها”. وإذا كانت هذه شهادة أحد رواد الصهيونية الأوائل، فإن الحركة الصهيونية لم تستطع نفيها، لكنها قامت بتجاهلها من تاريخ الكتابات الخاص بالصهاينة الرواد، لأنها تسير عكس المنهج الذي وضعته الحركة للسيطرة على فلسطين، وبالتالي فهي تضرب فكرتهم في صميمها.

ومن ضمن الدعاية الصهيونية التي اعتمدت على فكرة اللاسامية، وهي اختراع صهيوني بامتياز، حرضت إسرائيل العالم في كثير من المواقف ضد أشخاص وهميين يقومون بنبش المقابر اليهودية، والتي أثبتت التحيقيقات فيما بعد أن لا أساس لها، لكنهم في الوقت ذاته لا يترددون في هدم مقابر غير اليهود وإقامة مشاريع مكانها، وفي طرفة يوردها غارودي يقول: “في صباح “يوم الديمقراطية” في الجامعة العبرية في القدس، طرح بعض الطلاب اليهود سؤالاً وجيهاً: “لماذا لا تحتجون وأنتم تعلمون أن شارع “إرجون” وفندق “هيلتون” في تل أبيب، أقيما مكان مقابر إسلامية تم هدمها؟”.

في خاتمة الكتاب يلخص غارودي فكرته عن الدعاية الصهيونية، “الدعاية الصهيونية هي التي تشوه مغزى الجريمة النازية في حق الإنسانية بأسرها، تحولها من جريمة ضد البشر أجمعين، إلى مذبحة لم يذهب ضحيتها سوى اليهود وحدهم”. وهذا يجعل من تجاهل بقية الضحايا في العالم بمثابة جريمة أخرى تضاف إلى الجرائم التي ارتكبت في حق البشرية، “لا يزال البعض مصراً على التسليم بصحة “الشهادات” التي تحدثت عن وجود “غرف غاز” في معسكرات الاعتقال في شرقي أوروبا، بالرغم من أنه ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الغرف لم توجد مطلقاً في الأراضي الألمانية، وهو الأمر الذي يكذب أقوال “شهود العيان” العديدين الذين أكدوا من قبل وجودها هناك”.

هذه القراءة لا تغني بالطبع عن قراءة كتاب روجيه غارودي، ليس فقط لأنها لم تتمكن من الإلمام بما جاء في الكتاب، ولكن لأن التفاصيل الواردة هناك، والمدعمة بالوثائق والتواريخ والشهادات، تجعل من الوقائع التي يوردها غارودي حقائق غير قابلة للدحض، خصوصاً أن الكثير من هذه الشهادات والوثائق لم توضع من قبل الألمان، أو من قبل أي معسكر معادٍ، بل إنها أتت وبشكل صريح من قضاة وصحفيين ومحامين ومحاربين كانوا في نفس الجبهة التي تحارب النازية، لكن مرور الوقت يجعل كشف الحقائق أسهل وأكثر أمناً من كشفها لحظة حدوثها، وهذا بالضبط ما حدث بعد مئات الأعوام من أكذوبة الوعد الإلهي، وبعد عشرات الأعوام من أكذوبة الضحية الوحيدة في العالم، فأن تكون ضحية فهذا يجعلني أتعاطف معك، لكن أن تحولني إلى ضحية بسبب كونك ضحية فهذا أمر آخر، وأمر آخر كذلك أن تنكر أن هناك خمسين مليوناً قتلوا أثناء الحرب العالمية الثانية أكثر من 80 في المئة منهم مدنيون، بما في ذلك مدنيون ألمان.

هوية الكتاب

تحميل الكتاب PDF

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى