ثقافة

الإقدام على قتل الإمام الحسين(ع) كان عمديا

لم تكن ثورة الحسين(ع) ثورةً نابعةً من ردّة فعل طائشة أو ساذجة، وأنى لها ذلك وقائدها رجلٌ لا يعرف للعبث سبيلاً وليس من قاموسه لحظة تلف.

 ذاك هو الحسين(ع) وما أدراك ما الحسين، الحسين الذي حيّر ذوي الألباب وكيف لا تحير وقد نطق فكره بما هو فوق مستواها، فها هو صوته يجلجل إلى يومنا هذا (وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(1)، وذاك هو الحسين(ع) الذي لا زالت سفينته إلى يومنا هذا وستبقى تجوب عباب البحر اللجي لتنتشل مَنْ أوشك على الغرق في تلاطمات أمواج هذه الحياة.

 وذاك هو الحسين(ع) الذي أقض بدمه الشريف الزكي مضاجع الظالمين وما زال ولا يزال ينذرهم إلى يومنا هذا، وإلى كل زمان ومكان وُجد فيه ظالم متسلط على رقاب الأمة.

 وذاك هو الحسين(ع) لساناً يتلو علينا آيات الصدق في كل عصر ومصر بدل ضلالات دنيا الزيف والأهواء.

 نعم ذاك هو الحسين(ع) الذي صنع نصراً في يوم عاشوراء ولا زالت ترددات ذلك النصر تملأ الخافقين.

 ذلك هو الحسين(ع) الذي وقف الأعداءُ فضلاً عن الأصدقاء أمامه وقفة التبجيل والعظمة.

 ذاك هو الحسين(ع) الذي بكى على أعدائه يوم عاشوراء لأنهم سيدخلون النار بسبب عنادهم ومكابرتهم ووقوفهم ضده(ع).

ذاك هو الحسين(ع) الذي حيّر ذوي الأفهام والعقول، ذلك هو الحسين المحراب والمسجد، الميدان والقتال، الرحمة والشفقة والحنان، العطاء والتهجد والعبادة، ذلك الحسين الكرم والجود، ذلك الحسين الانتقام من أعداء الله، وذلك الحسين نفسه المقشعرُّ بدنه في لحظات اللقاء مع خالقه ومالك وجوده، وذلك الحسين العرفان الصحيح وكل حياته عرفان.

 وذلك الحسين(ع) التواضع والانقياد والتذلل وذل الافتقار والفناء في الله الكبير المتعال، ذلك الحسين ليس مجرد رجل حمل السيف وقاتل وقُتِلَ، بل هو أعظم وأعظم من ذلك، الحسين(ع) هو ذلك الإخلاص بتمام معانيه ولا خير في حمل سيف وقتال عدو ليس فيه إخلاص.

وذلك هو الحسين(ع) الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا خير في امرئ لا يحسب لله وزناً في حركته.

 فكانت شخصية الحسين(ع) كل ذلك وأكثر منه، وكانت حركة الحسين(ع) ليست مفصولةً عما يحمله الحسين من قيم، فلا عجب أن تبقى هذه الثورة خالدةً رغم محاولات الجهلة والسذّج أن يمحوها أو أن يشوهوها والعجب كل العجب أن تنطلي فئة أقل ما يقال في حقها أنها لم تعرف الحسين(ع) ولو معرفةً سطحيّةً بسيطةً، وأرجو أن لا يكون أعظم من هذا، وهو أن تكون باعت دينها بدنيا غيرها، وهي الفئة التي أخذت تصطنع المعاذير للذين وقفوا محاربين للحسين(ع) وأصحابه، ولا أدري أخَفِيَ على هؤلاء ـ الذين يصفون الأعذار لقتلة الحسين(ع)ـ كلام نفس المقدمين على القتل وكيف أنهم كانوا يعلمون أن إقدامهم على قتال الحسين(ع) سيؤدي بهم إلى النار لا محالة؟ ومن خلال السطور الآتية أذكر بعض الكلمات التي قالها بعضٌ من قادة جيش يزيد ـ بل يزيد نفسه ـ مما يدلل على أنهم أقدموا على أبشع جريمة عرفها التاريخ البشري من خلال سفك دم ابن بنت رسول الله الأعظم(ص) سيد شباب أهل الجنة، ناهيك عن أن الحسين(ع) قد أغرقه القوم بالخطب والتذكير به وبمن هو لتثبيت الحجة أكثر فأكثر على أنصار وجيش يزيد <لعنه الله> وإن كان الحسين(ع) لم يخف عليهم. بل كانوا يعرفونه ويعرفون من جده ومن أبوه وأمه.

 وأشير هنا إلى بعض المواقف عن شخصيات شاركت في دم الإمام الحسين(ع) وألَّبَتْ على الوقوف ضده فضلاً عن أن بعضها شارك مباشرةً في القتال.

 من خلال مواقف كثيرة سواءً قبل يوم كربلاء أو في يوم كربلاء يتبين أن الأمة لم تكن تجهل الحسين(ع) حينما أقدمت على قتاله، ولكن الدنيا والنفس المتدنية الضعيفة والأهواء وغيرها من متعلقات الدنيا صنعت هذه النفوس التي ترى الحق حقاً فتجتنبه وترى الباطل باطلاً فتتبعه.

 1)معاوية بن أبي سفيان: وأبدأ الكلام في معاوية: فمما جاء في وصيته ليزيد لعنه الله (…واعلم يا بني أن أباه خير من أبيك وجده خير من جدك وأمه خير من أمك)(2).

فنرى في هذه الوصية يذكر معاوية مقام الإمام الحسين(ع) ولكنه في نفس الوقت نراه في كتابه لولاية العهد ليزيد الذي قرأه الضحّاك بأمرٍ من معاوية جاء فيه (هذا ما عهد معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى ابنه يزيد… وأمر بأن يسير بسيرة أهل العدل والإنصاف… وأن يحفظ هذا الحي من قريش خاصة… وأن يبعد قاتلي الأحبة وأن يقدم بني أمية وآل عبد شمس علي بن هاشم، وأن يقدم آل المظلوم على آل أبي تراب، فمن قُرِأ عليه هذا الكتاب وقبله حق قبوله وبادر إلى طاعة أميره يزيد بن معاوية فمرحباً به وأهلاً، ومن تأبى عليه وامتنع فضرب الرقاب أبداً حتى يرجع الحق إلى أهله، ثم طوى الكتاب)(3).

 ولا شك في أن الإمام الحسين(ع) لم يقبل مبايعة يزيد، وكان معاوية يعلم من خلال معرفته بالإمام الحسين(ع) أن الحسين لن يقبل أن يبايع يزيد كما أشار معاوية نفسه في وصيته ليزيد التي جاء فيها(… ولست أخشى عليك إلا من أربعة رجال، فإنهم لا يبايعونك وينازعونك في هذا الأمر…. والرابع الحسين بن علي(ص)، فإن الناس تدعوه حتى يخرج عليك…)(4).

 فيتبين مما مضى أن معاوية (لعنه الله) عند قوله (ومن تأبى عليه وامتنع فَضَرْبُ الرقاب) والحال أن معاوية يعلم بأن الحسين(ع) لن يبايع يزيداً، فيه إشارة جلية ودلالة واضحة لمحاربة الإمام الحسين(ع).

 ولذلك ـ وإن كان استطراداً في هذه النقطة ـ نرى أن الكثير من العلماء لم يرضَ بفعل معاوية في أصل توليته ليزيد لما كان يتمتع به يزيد من صفات ذميمة خبيثة: روى ابن الجوزي(5) بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: (أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة وهي:… واستخلافه ابنه يزيد وكان سكّيراً خمّيراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير،…). وقد ذكر علماء السير عن الحسن البصري أنه قال: قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: (…وتوليته يزيد على الناس، قال: وقد كان معاوية يقول: لو لا هواي في يزيد لأبصرت رشدي)(6)، ونرى هنا كيف كانت الخلافة أمراً يُتَلاَعَبُ به بين الصبيان وبين من ليسوا بأهله بشهادة نفس هؤلاء الذين يدعون أنهم أمراء هذه الأمّة.

 2) يزيد بن معاوية: بالنسبة لهذه الشخصية وعلاقتها بقتل الحسين(ع) فحدث ولا حرج، هذا مع علمه بمقام الحسين(ع) وقداسته، ويثبت لذلك أنه عندما جاؤوا برأس الحسين(ع) ففي الرواية: (وأخذ يزيد القصيب وجعل ينكث ثغر الحسين(ع) ويقول: يوم بيوم بدر)(7). وهذا الكلام ينم عن معرفة يزيد بالحسين(ع) ويعرف كيف أن أمير المؤمنين علي(ع) قد جدل أشياخ يزيد، وها هو يزيد اليوم يشفي غليله بقتل الحسين(ع).

 وإشارة معاوية ليزيد في وصيته وتذكيره بأن أباه ـ أي أبو الحسين(ع) ـ خيرٌ من أبيك و… الخ، استزادة لمن يريد المزيد في أن يزيد كان يعلم من يقاتل حينما أقدم على حرب وقتال الحسين(ع) وعلى كل حالٍ فالحسين(ع) لم يكن نكرة في زمانه بحيث يختلق المختلقون حججاً يريدون بها تبرئة هذا الطاغية أو يصفونه بأنه اجتهد فأخطأ وإلا لو لم يكن رقماً يحسب له حساب فما بال معاوية يذكره في كتابه لولاية العهد ليزيد (لعنه الله) وهناك موقف آخر يدل بوضوح على معرفة يزيد (لعنه الله) بمقام الحسين(ع) وأن ذلك لم يثنه عن قتاله فقد جاء في مقتل الحسين(ع) لأبي مخنف: فجعل يزيد ينكث ثنايا الحسين(ع) وهو يشرب الخمر ويقول:

   نفلّق هاماً من رجال أعزة                        

علينا وهم كانوا أعف وأصبر   وأكرم عند الله منا محلّة                        

وأفضل من كل الأمور وأفخر   عدونا وما العدوان إلا ضلالة                        

عليهم ومن يعدو على الحق يخسر   وإن تعدلوا فالعدل ألقاه آخراً                       

 إذا ضمنا يوم القيامة محشر   ولكننا فزنا بملك معجل                        

وإن كان في عقباه نار تستعر(8)     وأترك هنا التعليق على القارئ.

 3) عمر بن سعد: وهذا رجل آخر من قياديي جيش يزيد بن معاوية (لعنه الله)، هذا من الذين قادهم الطمع والجشع وأعمتهم الدنيا لدرجة أنه يقف معترفاً بمقام سيد الشهداء(ع) وأنه يمثل الجنة، وطريق يزيد ومعسكر يزيد يمثل النار لا محالة ثم ما يلبث إلا أن أخذ يشكك في وجود الجنة والنار ليقتل آخر جذوة موجودة في ضميره ثم يقدم على قتل الحسين(ع) لأجل ملك الري.

 وقد ذكرت له أبيات في ذلك وهي غير خافية على القارئ:

   فو الله ما أدري وإني لحائر                        

أفكر في أمري على خطرين   أأترك ملك الري والري منيتي                         

أم أرجع مأثوماً بقتل حسين   حسين ابن عمي والحوادث جمة                       

 لعمري ولي في الري قرة عين   وإن إله العرش يغفر زلتي                       

 ولو كنت فيها أظلم الثقلين   ألا إنما الدنيا بخير معجل                       

 وما عاقل باع الوجود بدين   فإن صدقوا فيما يقولون إنني                        

أتوب إلى الرحمن من سنتين   وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة                       

 وملك عقيم دائم الحجلين     وأجابه هاتف يقول: 

 ألا أيها النغل الذي خاب سعيه                       

 وراح من الدنيا بخسة عين   ستصلى جحيماً ليس يطفى لهيبها                       

 وسعيك من دون الرجال بشين   إذا أنت قاتلت الحسين بن فاطم                       

 وأنت تراه أشرف الثقلين   فلا تحسبن الري يا أخسر الورى                       

 تفوز به من بعد قتل حسين(9)     

فواضح من خلال الأبيات اعترافه بأن إقدامه على قتل الحسين(ع) نتيجته سخط الله والدخول في النار ولكن ولأنه فقد رشده وعميت بصيرته يختار نار جهنم على الجنة ورضا الله، والغريب في الأمر أنه قد تكرر منه الجلوس مع الحسين(ع) في كربلاء كما يذكر أبو مخنف في كتابه (مقتل الحسين –ع-): (ثم إن ابن سعد عبر الفرات وصار يخرج كل ليلة ويبسط بساطاً ويدعو الحسين(ع) ويتحدثان حتى يمضي من الليل شطره…) أقول: لا أدري كم هو قاسٍ هذا القلب الذي يستطيع أن يجمع بين الصداقة والقرابة والخيانة.

 وهل اكتفى عمر بن سعد بهذا؟ لا، بل وكما ينقل المؤرخون: (إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة)(10).

 وفي مقتل الخوارزمي قال: قال: ثم إن عمر بن سعد نادى، من ينتدب الحسين فيوطئه فرسه؟ فانتدب له عشرة نفر منهم: إسحاق الحضرمي ومنهم الأخنس بن مرثد الحضرمي القائل في ذلك:

   نحن رضضنا الظهر بعد الصدر                        

بكل يعبوب شديد الأسر   حتى عصينا الله رب الأمر                       

 بصنعنا مع الحسين الطهر    

فداسوا حسيناً بخيولهم حتى رضوا صدره وظهره، فسئل عن ذلك فقال: هذا أمر الأمير عبيد الله بن زياد(11).

 وهنا تبجح آخر من الذين أقدموا على قتل الحسين(ع) مع معرفتهم بأن ذلك معصية.

 الشمر (لعنه الله) يقتل الحسين (ع) عارفاً بحقه: جاء في مقتل الحسين(ع) المشتهر بـ(مقتل أبو مخنف): (ودخل عليه ـ أي على يزيد <لعنه الله> ـ شمر وهو يقول:  

املأ ركابي فضة أو ذهباً                         

إني قتلت السيد المهذبا   قتلت خير الناس أماً وأباً                        

وأكرم الناس جميعاً حسباً   سيد أهل الحرمين والورى                       

 ومن على الخلق معاً منتصباً   طعنته بالرمح حتى انقلبا                        

ضربته بالسيف ضرباً عجباً    

قال: فنظر إليه شزراً وقال له: إذا علمت أنه خير الناس أماً وأباً فلم قتلته؟ ملأ الله ركابك ناراً وحطباً. قال : أطلب منك الجائزة. فلكزه يزيد بذبال سيفه وقال له: لا جائزة لك عندي.

 فولى هارباً)(12). وذكر أبو مخنف أيضاً في كتابه (مقتل الحسين -ع-) بعد أن دارت محاورة بيد الحسين(ع) وشمر (لعنه الله) عندما كان الإمام على بوغاء كربلاء وكان الشمر يريد قتله يقول أبو مخنف: (فقال له ـ أي ليزيد ـ الإمام(ع) : صدق جدي رسول الله(ص).

فقال له الشمر: وما قال: جدك رسول الله؟ قال: سمعته يقول لأبي يا علي يقتل ولدك هذا أبرص أعور له بوز كبوز الكلب وشعر كشعر الخنزير. فقال له (لعنه الله): يشبهني جدك رسول الله(ص) بالكلاب؟! والله لأذبحنك من القفا جزاءً لما شبهني جدك، ثم أكبه على وجهه وجعل يحز أوداجه بالسيف وهو يقول:

   أقتلك اليوم ونفسي تعلم                        

علماً يقيناً ليس فيه مغرم   أن أباك خير من يكلم                        

بعد النبي المصطفى المعظم   أقتلك اليوم وسوف أندم                       

 وإن مثواي غداً جهنم   

 قال : وكلما قطع منه عضواً نادى الحسين(ع) وا محمداه وا علياه وا حسناه واجعفراه وا حمزتاه وا عقيلاه وا عباساه وا قتيلاه وا قلة ناصراه وا غربتاه. فاحتز رأسه وعلاَّه على قناة طويلة. فكبر العسكر ثلاث تكبيرات وتزلزت الأرض وأظلم الشرق والغرب وأخذت الناس الرجفة والصواعق وأمطرت السماء دماً عبيطاً…)(13).

المصادر والمراجع

  • (1) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (7/146) نقلاً عن كتاب الحسين(ع) سماته وسيرته.
  • (2) مقتل الحسين (ع) لأبي مخنف ص13 انتشارات الشريف الرضي ط 3.
  • (3) كتاب الفتوح لابن أعثم ج4/ 256 ـ 257.
  • (4) مقتل الحسين المشهور بـ <مقتل أبي مخنف> انتشارات الشريف الرضي (1420) هـ ص13.
  • (5) تاريخ أبي الغداء ج2 ص100.
  • (6) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص2996 ط2 نجفي.
  • (7) الفتوح لابن الأعثم ج5 ص339.
  • (8) مقتل الحسين (أبو مخنف) ص203 انتشارات الشريف الرضي.
  • (9) مقتل الحسين: انتشارات الشريف الرضي سنة 1420 ص78 ـ 80.
  • (10) البداية والنهاية ج2 ص189 وفي ط ص206 استشهاد الحسين (ع) ص105 ـ الفاضل الماهر الدكتور محمد جميل غازي ـ خرجه من كتاب الحافظ (ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) (إحقاق الحق ج33 ص694).
  • (11) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي ج2 ص44 نقلاً من كتاب مقتل أبي عبد الله الحسين(ع) من موروث أهل الخلاف (الشيخ زهير علي الحكيم ص609).
  • (12) مقتل الحسين(ع) (لأبي مخنف) ص203 انتشارات الشريف الرضي.
  • (13) مقتل الحسين(ع) لأبي مخنف ص146 انتشارات الشريف الرضي الطبعة 3.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى