ثقافة

توحيد الولاء

غايتنا من هذا الحديث أن نثبت أن الولاء في الإسلام لله تعالى وحده، وليس لغير الله ولاية على الناس، وليس على الناس ولاء لغير الله، وإنّما الأمر في الولاء والولاية لله تعالى كلّه.

وما يكون من الولاء والولاية المشروعين بين الناس في الاتجاهين العمودي والأُفقي فينحدر من الولاء لله تعالى، وكل ولاء وولاية لا ينتهي إلى الولاء لله والولاية له فهو باطل ولغو في الإسلام.

وهذا أصل مهم من أصول التفكير والعقيدة في الإسلام…

فلا يسمح الإسلام بوجود محور آخر من دون هذا المحور أو معه ويعتبر أي محور آخر للولاية ـ من دون الله ـ من الشرك بالله العظيم.

ذلك أن الولاء في الإسلام من مقولة (التوحيد)، وعندما تتعدّد محاور الارتباط في حياة الإنسان ينتفي الولاء رأساً.

فليس كل ارتباط في حياة الإنسان من الولاء الحق، وانّما الولاء الحق هو الارتباط النابع من القلب الحاكم على كل صلات الإنسان وعلاقاته .

ومعنى ذلك أن (الولاء) لابد أن يتحكّم في كلّ علاقات الإنسان وتعلقاته، فيلغي منها ما يعارضه وما لا ينسجم معه، ويضيف إليها ما تتطلبه من صلات وعلاقات وحب.

ولن يتّسع قلب واحد لأكثر من ارتباط واحد من هذا القبيل، فلا يمكن أن تقوم حكومتان مطلقتان في قلب واحد… إن الحاكمية إِمّا أن تكون. أو لا تكون فإذا كانت فهي واحدة دائماً، والولاء من السلطان المطلق، غير المحدود، الذي لا يتسع القلب الواحد إلاّ لواحد منه و{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}[1].

فالولاء، إذن، يتكوّن من عنصرين سالب وموجب، ويتقدم السلب على الإيجاب; ولذلك يرفض الإسلام التعدّد في الولاء ويلغي أي ولاء آخر عدا الولاء لله تعالى.

وما يصح وما يجب في الإسلام من الولاء لغير الله فليس ولاءً قائماً بالذات في قبال الولاء لله وفي عرضه، وانّما يأتي في امتداد الولاء لله تعالى وفي طولـه… وفي هذه الحالة فقط ـ عندما يأذن الله بالولاء، ويسمح به أو يوجبه ـ يصحّ الولاء أو يجب .

وما عدا ذلك من الولاء فهو ولاء من دون الله، وكل ولاء من دون الله فهو باطل ولغو.

فالولاء إما أن يكون في امتداد ولاء الله تعالى وبإذنه وأمره، كما قال تعالى لإبراهيم “ع”{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}.

وامّا أن يكون في عرض ولاء الله ومن دون إذن الله وفي مقابل ولاء الله تعالى. فهو من الولاء الباطل الذي يلغيه الإسلام رأساً، ومن غير تردّد.

ومن هذا الشرح نستنتج أن الولاء في الإسلام واحد، وهو الولاء لله… وكل ولاء مشروع فهو في امتداد هذا الولاء وأيّ ولاء لا يقع في امتداد هذا الولاء فهو من الولاء المرفوض الباطل.

والقرآن الكريم صريح في تقرير هذه الحقيقة. وإليك طائفة من آيات الله المباركات من كتابه الحكيم في إيضاح هذه الحقيقة:

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[2].

فالآية الكريمة تقرّر أن مُلك السماوات والأرض كلَّه لله، ولا يملك غير الله تعالى شيئاً من السماوات والأرض… وانطلاقاً من هذه الحقيقة فلابد أن تكون له تعالى الولاية المطلقة على الإنسان، وليس للإنسان أن يتّخذ غير الله وليّاً، وله سبحانه الولاية المطلقة والسلطان المطلق على كل شؤون الإنسان، ما يتعلّق منه بجوارحه أو جوانحه، وليس لأحد من دون الله تعالى سلطان وولاية على الإنسان إلاّ أن يكون بإذن وأمر الله، وفي امتداد ولاية الله .والآية الكريمة تفيد حصر الولاية في الله تعالى من ناحيتين:

ألف ـ من حيثُ إن ملك السماوات والأرض لله تعالى وحده، فلابدّ أن تكون الولاية لله تعالى وحده على الإنسان، دون سائر مخلوقاته.

ب ـ ومن ناحية الدلالة اللّفظية أيضاً، فإن (ما وإلاّ) من أدوات ووسائل الحصر في اللغة العربية[3].

ويحل (غير) محل (إلاّ)، فيجوز الحصر بـ (ما و غير)[4]، كما تقول: (ما جاءني أحدٌ غير محمّد).

وكلمة (دون) في الآية الكريمة: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} بمعنى (غير)[5].

فعليه، فإن صياغة الآية الكريمة صياغة حاصرة تحصر الولاية في الله من ناحية (المعنى) ومن ناحية (اللّفظ).

والحصر يأتي بمعنى السلب والإيجاب والنفي والإثبات معاً، فينفي الولاية عن غير الله ويثبتها لله تعالى.

وبهذا المضمون وردت آيات عديدة في كتاب الله، يقول تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[6].

ويقول تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}[7].

ويقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[8].

ويقول تعالى في سورة الكهف عن الفترة التي لبث فيها أصحاب الكهف في الكهف: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[9].

ويقول تعالى: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[10].

وفي سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}[11].

وتربط الآية الكريمة بشكل واضح بين سلطان الله على السماوات والأرض وولايته التكوينية الشاملة على الكون… وبين ولاية الله التشريعية على الإنسان، وانحصار الولاية فيه تعالى دون غيره ممّن يتّخذهم الناس أولياء من دون الله.

وفي سورة الشورى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[12].

وهذه الآيات المباركات واضحات في انّها تنفي أيَّةَ ولاية ـ من دون الله ـ في حياة الإنسان.

وكل ولاية لا تكون امتداداً لولاية الله على عباده ولا تكون بإذنه وأمره تعالى فهي ولاية من دون الله… وهو باطل ومرفوض في الإسلام.

ووردت في كتاب الله آيات أُخرى كثيرة بهذا المضمون.

ففي سورة الأنعام: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[13].

وفي سورة الشورى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}[14].

وفي سورة سبأ : {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم}[15].

وفي سورة الأعراف: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}[16].

وفي سورة الكهف: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}[17].

… وآيات أُخرى مباركات في كتاب الله كلّها يؤكّد انحصار الولاية في الله تعالى… ونفي أيِّ ولاية أُخرى من دون الله.

وعليه فإنّ ولايةَ الرسول “ص” والذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون… قد تمّت بإذن الله وأمره، فهو امتداد لولاية الله وفرع منها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[18].

وهذه الآية الكريمة تحصر الولاية بشكل دقيق في الله ومن يأمر الله بولايته من أنبيائه وأوليائه.

الشرك في الولاءان الكثير من آيات القرآن الواردة في الشرك تتعلّق بأمر (الشرك في الولاء)، وليس في أمر الخلق. ويتعلّق بالشرك في (الولاية التشريعية) وليس بالشرك في الولاية التكوينية.

فإن أكثر المشركين لا يشركون بالله في الخلق، والتدبير، والرزق، والأحياء، والإماتة، ولا يرون لله تعالى شركاً في ذلك، وإنّما يشركون بالله في أمر (الولاية التشريعية) على الإنسان، ويشركون بالله في الولاء بمعنى الطاعة والعبادة والحبِّ.

ومن قراءة كتاب الله تتبيّن هذه الحقيقة بشكل واضح.

يقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[19].

إن هؤلاء الشركاء في عقيدة المشركين لم يكونوا شركاء في الخلق والأحياء والإماتة وانّما { شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}… فالشرك الذي ينفيه القرآن الكريم هنا شرك في الولاء وليس شركاً في الخلق والتدبير.

والآيات التي تنفي الشرك في الطاعة والعبادة (أي الشرك في الولاء) أكثر من الآيات التي تنفي الشرك في الخلق والتدبير والأحياء والإماتة (أي الشرك في الولاية التكوينية لله)… ممّا يدلّ أن ظاهرة الشرك التي يحاربها الإسلام كانت تكمن في (الولاية التشريعية) أكثر من (الولاية التكوينية)، وان أكثر انحراف المشركين كان في أمر الولاء لله تعالى بالطاعة، والعبادة، والحبِّ، وليس في أمر الخلق، والتدبير، والرزق، والإحياء، والإماتة.

ولذلك فإنّ دعوة الأنبياء^ كانت تتوجّه غالباً إلى هذه النقطة العقائدية والمصيرية بالذات… أي الدعوة إلى توحيد الولاء لله تعالى بالعبودية والعبادة والطاعة ورفض الولاء للطاغوت في شيء من ذلك.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ }[20].

ولقد كان الكثير من المشركين يؤمنون بوحدة الخالق، وبأن الله وحده هو خالق الكون، إلاّ أنّهم مع ذلك يشركون غير الله مع الله تعالى في الولاية، ويعطون من ولائهم لغير الله ما يعطون لله أو أكثر ممّا يعطون لله تعالى.

ولقد كان الإيمان بوحدة الخالق، وبأن هذا الكون من خلق الله موضع قبول واعتراف من قبل المشركين، ولم يكن خلافهم في التوحيد إلاّ في مسألة الولاء.

ولنقرأ هذه الآيات من سورة النمل المباركة:

{…آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟*

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا؟

أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ*

أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا؟

أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ*

أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ؟

أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ؟*

أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟

أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ؟

تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ*

أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ

أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ؟

قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[21].

ونحن حينما نقرأ هذه الآيات المباركات من سورة النمل نرى أن هؤلاء المشركين الذين يخاطبهم القرآن لم يكونوا ينكرون أن الله هو وحده الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً وأنبت به حدائق ذات بهجة، وجعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً… وإنّما كان شركهم في مسألة الألوهية والطاعة والولاء فقط.

فإن الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ) في عدّة مقاطع تناسب أن يكون المخاطب معترفاً بأن الخلق والتدبير في الكون لله إلاّ انّه يشرك غير الله مع الله في الالوهية والعبادة والطاعة والولاء.

وفي سورة الروم نقرأ هذه الآية المباركة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ؟}[22].

وواضح أن المشركين المخاطَبين بهذه الآية لم يكونوا يؤمنون بأن شركائهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون. وإن جوابهم على الاستفهام كان جواباً سلبياً، وإلاّ فلا تصحّ محاجّتهم بها، وفي هذه الحالة فإن الشرك يكون في الولاء فقط.

وفي سورة العنكبوت يحكي القرآن الكريم الاعتراف بوحدة الخالق عن لسانهم مباشرة:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟} [23].

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا؟

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[24].

وفي سورة الزمر:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ؟

قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[25].

والقرآن الكريم ـ كما ذكرنا من قبل ـ يربط بين الولاية التكوينية والسلطان التكويني لله على الكون وبين ولايته التشريعية في حياة الإنسان. فمن يكون له السلطان التكويني على هذا الكون يكون له الولاء والسلطان من الأمر والنهي ويكون له الحكم في حياة الإنسان.

وأكثر خطأ الإنسان وضلاله في الشرك في الولاء يكمن في التفكيك بين هذين الأمرين، واستمع إليه تعالى كيف يربط مسألة الدين والولاء بالولاية التكوينية:

{وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ

إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ*

وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا

أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ*

وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ*

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[26].

تأمّل في هذه الصلة العميقة بين هاتين الجملتين (وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ثم إذا مسَّ الإنسان ضرّ لجأ إلى الله الواحد القهّار، وإذا كشف الله عنه الضرّ كثرت الآلهة والولاءات في حياته.

إن فرعون كان يدّعي الألوهية والربوبية في قومهُ، واتخذه قومه إلهاً لهم، يعبدونه ويطيعونه، ويظهرون له الولاء من دون الله.

ولم نعهد فيما نقرأ من كتاب الله أن فرعون كان يدّعي انّه شارك الله ـ تعالى ـ في خلق السماء والأرض، أو أن قومه كانوا يؤمنون بأنّه شارك الله تبارك في خلق السماوات والأرض.

إن أكثر ما كان يدّعيه فرعون أن له ملك مصر والأنهار التي تجري فيها.

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ

قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}….

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[27].

لقد كان فرعون يدّعي الألوهية في الملأ من قومه:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[28]

وكان يدّعي الربوبية:

{فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}[29].

إن فرعون كان يطلب من قومه أن يتخذوه إلهاً من دون الله ويتخذونه لهم ربّاً من دون الله يعبدونه ويطيعونه ويخضعون له ويعلنون له الولاء، … ولم يكن يدّعي ما وراء ذلك شيئاً.

وهذه الدعاوى التي كان يدّعيها فرعون تتلخّص في كلمة واحدة هي (الولاء).

ويتلخّص ممّا تقدّم أن التوحيد والشرك في الولاء من أهم مصاديق ومعاني التوحيد والشرك في الإسلام: … وإن الولاء يخص الله تعالى فقط، وليس لغير الله ولاء على الإنسان، إلاّ أن يأمر به الله أو يأذن به .

وكما لله الولاية والسلطان المطلق على هذا الكون، فإنّ لـه الولاية التشريعية والسلطان على الأمر والنهي في حياة الإنسان.

وله حق الولاء على الإنسان.

وعلى الإنسان أن يوحِّد الله تعالى في الولاء في كل من الطاعة والعبادة والحبِّ ويوالي من يأمر الله تعالى بولائه.

وسوف نقف عند هذه المفردات الثلاث للولاء إن شاء الله وقفات قصيرةً..

1 ـ التوحيد في الطاعة.

2 ـ التوحيد في العبادة.

3 ـ التوحيد في الحبِّ.

1ـ توحيد الطاعة

إن توحيد الطاعة لله تعالى والتحرّر من كل سلطان وقوامة في الحياة إلاّ سلطان الله وحاكميته على حياة الإنسان هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام.

فإن الإسلام في أخصر عبارة ممكنة هو التحرّر من كل سلطان وحاكمية على وجه الأرض وتسليم الأمر كلِّهِ لله تعالى.

والجاهلية على اختلاف مشاربها تشترك في قاسم مشترك هو الإذن بأن يستعبد الناس بعضهم بعضاً، أو تستعبدهم أهواؤهم وشهواتهم.

والعبودية عبودية مهما اختلفت الأسماء والعناوين، فإن اختلاف الأسماء والعناوين لا يغيّر من واقع الأشياء وجوهرها.

إن تمكين الحزب الواحد على المجتمع نوع آخر من الاسترقاق والعبودية، وان تحكيم الديكتاتورية الفردية أو الفئوية على الناس نوع آخر من عبودية الإنسان للطاغوت، وإن تحكيم الأهواء والشهوات على حياة الإنسان، والذي يجري اليوم باسم الحرية في المجتمعات الغربية الجاهلية والمجتمعات التي ربطت عجلتها بعجلة الغرب نوع آخر من العبودية والرق… ولكنه عبودية الهوى. {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[30].

إن الإسلام يَعُدُّ تحكيمَ الطاغوت وتحكيم الهوى من العبودية لغير الله، ويَعُدُّ كلَّ ذلك من الجاهلية التي لا تلتقي بالإسلام، والتي يرفضها الإسلام.

والإسلام فقط هو التسليم لله من دون قيد أو شرط، والانقياد الكامل

لأحكام الله.

وهذا هو معنى (لا إله إلاّ الله).

إن كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) تنفي كل ألوهية وقوامة وسلطان وحاكمية في حياة الإنسان، وتحرِّر الإنسان من كل ذلك وبشكل مطلق، ثم تعبّد الإنسان بعد ذلك لله بشكل مطلق أيضاً. (سلب مطلق وإيجاب مطلق). وإن كلمة التوحيد: (تحرير وتعبيد)، تحرير من كل سلطان غير سلطان الله وتعبيد لسلطان الله وحاكميته.

وان الإسلام يعلّق الإيمان على هذه الحقيقة، فلن يكون الإنسان مؤمناً حقّاً ما لم يحكّم حدود الله وأحكامه على حياته بشكل مطلق، ويلتزم بهذا التحكيم في سرِّ نفسه وعقيدته.

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[31].

ومن لا يحكِّم حكم الله تعالى في حياته، ولا يستسلم لحكم الله فليس بمؤمن حقّاً، والقرآن صريح في تبيان هذه الحقيقة:

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[32].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون}[33].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون}[34].

والإيمان يساوي الطاعة والانقياد والتسليم لله، وليس للمؤمن إزاء أحكام الله خيار إلاّ الانقياد والتسليم.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[35].

فكل طاعة لغير الله مردودة ما لم تكن بإذن الله أو بأمره، وليس لإنسان على إنسان سلطان أو قوامة ما لم يأمر الله تعالى بذلك أو يأذن به.

فإن الحاكمية والقيمومة على حياة الإنسان تأتي نتيجة طبيعية للملك والخلق والتدبير، وإذ ليس في السماوات والأرض مالك وخالق ومدبِّر غير الله، فلن يكون لغير الله ولاية وقيمومة وحاكمية على حياة الإنسان.

يقول تعالى: {وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ}[36].

فلمّا كانت السماوات والأرض لله فلا محالة يكون الدين له ـ وحده ـ واصباً ومتصلاً… ولن يكون لغيره تعالى دين وطاعة على الناس.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[37].

ويقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[38].

والآية الكريمة واضحة الدلالة في حصر الطاعة والولاية والحاكمية في حياة الإنسان لله ونفي أية قيمومة وولاية لغير الله في حياة الإنسان.

رفض الطاغوت

وكما أن انحصار الانقياد لله والتسليم له هو الأصل في الإيمان كذلك

رفض الطاغوت والكفر به أساس في الإيمان، ولا يتم الإيمان إلاّ به، وقد أمرنا أن نكفر به.

يقول تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}[39].

فإن الطاعة ورفض الطاعة وجهان لقضية واحدة، ولن تكتمل الطاعة لله إلاّ برفض الطاغوت والكفر به واجتنابه.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[40].

ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}[41].

ويفسِّر الإمام الباقر “ع” الطاغوت فيقول: (إيّاكم والولائج فإن كل وليجة دوننا فهي طاغوت)[42].

وكأنّما يُشير الإمام بذلك إلى قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً }[43].

فكل وليجة يعتمدها الإنسان من دون الله ورسوله وبغير إذن الله وأمره، وبغير هدى الله: طاغوت يجب أن نحذر منه ونتجنبه، وطاعة الطاغوت عبادة له.

روي عن الإمام الصادق “ع” (من أطاع جبّاراً فقد عبده)[44].

فلا يمحض الإنسان الولاء لله تعالى ـ إذن ـ إلاّ إذا كفر بالطاغوت ورفضه، وأخلص الطاعة لله تعالى وحده، ومن يأمر الله بطاعته.

2ـ توحيد العبادة

العبادة هي الخضوع والتضرُّع والتذلُّل والتصاغُر بين يدي الله تعالى. يُقال (طريق مُعَبّد)، أي طريقٌ وطأته وذلّلته الأقدام.

والعبادة هي الغاية من خلق الإنسان، يقول تعالى: (وما خلقت الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون).

والدليل على أن المقصود بالعبادة في القرآن التذلّل والخضوع والخشوع والتواضع لله تعالى… إن العبادة تأتي في القرآن في مقابل الاستعلاء والاستكبار. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[45].

ويقول تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[46].

والعبادة في الإسلام، من مقولة التوحيد، لا تصحّ ولا تجوز لغير الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى وحده الذي يستحق من الإنسان العبادة. فلا تصح العبادة إذن لغير الله، وما يراه الناس بعضهم في بعض من قوّة وبأس وسلطان وعزّة ومال… فلا يكون مبرراً لعبادة الإنسان لغيره، فإن الناس كلّهم عبادٌ لله فقراء إليه، ليس لهم من دون الله قوّة أو عزّة أو سلطان {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[47]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[48].

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}[49].

فلا يملك الإنسان ـ من دون أن يأذن الله ـ قوّةً أو بأساً أو سلطاناً أو عزّةً، وإنّما القوّة كلُّها والسلطان كلُّه والعزّة كلُّها لله جميعاً.

{أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}[50].

{فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا}[51].

وعليه فإن الله تعالى هو مبدأ كلّ قوّة وسلطان وعزّة ومصدرها… وكل الناس فقراء إلى الله تعالى ولا يستحق أحدٌ على أحد العبادة غير الله تعالى.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[52].

والقرآن حيث ينفي كل قوّة وسلطان وملك من الإنسان، ويجعل الملك والقوة والسلطان كلّه لله تعالى ينفي استحقاق العبادة من كل أحد غير الله ويحصر العبادة لله تعالى دون غيره.

{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[53].

وقد ورد التعبير عن حصر العبادة لله تعالى ونفي العبادة لغيره على صيغة الحصر في سورة الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بتقديم (إيّاك) على (نعبد).

3ـ توحيد الحبِّ

إذا كانت الطاعة كلّها عن ولاء، وليس شيء من الطاعة خارجاً عن دائرة الولاء وكل طاعة لا تتصل بالولاء لله ورسوله باطل ولغو… فإنّ أمر الحب، وعلاقته بالولاء يختلف بعض الشيء عن الطاعة.

وعندما نستعرض النصوص الواردة في علاقة الحب بالله في الكتاب والسُنّة لِنقنِّنَ ولاء الحبِّ… نجد أن هذه النصوص تحدِّد لنا ضابطتين اثنتين في تحديد علاقة الحبِّ بمسألة الولاء لله:

أوّلاً: لا يحرم على المؤمن أن يحبّ غير الله ـ ضمن الضوابط التي تأتي فيما بعد، ولكن عليه، على كل حال، أن يكون أشدّ حبّاً لله من كل أحد ومن كل شيء، وان يكون حبّ الله تعالى هو أمكن شيء في نفسه، يقول تعالى:

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[54].

فلا ينهى الله تعالى عن حبّ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر، ما لم يعادوا الله ورسوله، ولا ينهى عن حبِّ المال والتجارة والمساكن ما لم يكن عن حرام… وإنّما ينهى أن يكون حبّ هذه الأُمور أقوى وأشدّ عند المؤمن من حبِّ الله ورسوله وجهاد في سبيله.

ويقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}[55].

والآية الثانية تكمل دلالة الآية الأُولى.

فلا ينبغي أن يكون في الكون شيء أحبّ إلى قلب المؤمن من الله. وعليه أن يجعل لحبِّ الله المنزلة العليا من نفسه، وان يمكِّن حبّ الله من نفسه أكثر من أيِّ شيء آخر، مهما كان ذلك الشيء. وما لم يكن لحبِّ الله على قلب المؤمن مثل هذه الهيمنة القوية والفاعلة لا يكون الإنسان مؤمناً حق الإيمان.

وليس من ضير على المؤمن أن يحبّ غير الله أحداً أو شيئاً أو جهةً ما لم يُسخطِ اللهَ ولكن البأس كل البأس أن يكون حبّه له أشدَّ من حبِّه لله، وألا يكون حبّ الله أشدَّ من حبِّه لغيره.

فإن الله تعالى يقول {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}[56]. وليس على المؤمن بأس أن يحبّ كل ذلك ما لم يعادوا الله، وما لم يحرمه الله… إذا كان حبّه لله أشدَّ وأقوى حتى من حبّه لنفسه.

فيكون الحبّ الإلهي أقوى وأنفذ في نفس المؤمن من أيِّ حبٍّ آخر وعلاقة أُخرى.

وقد روي عن الإمام الصادق “ع” (لا يمحض رجلٌ الإيمان بالله حتى يكون الله أحبَّ إليه من نفسه وأبيه وأُمِّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلِّهم)[57].

وليست شدّة وهيمنة حبّ الله تعالى على قلب المؤمن مسألة نظرية معزولة عن حياته وحبِّه وعلاقاته مع الآخرين، وتحرّكه ضمن هذه العلاقات.

فللحبّ متطلباته ومستلزماته وتبعاته، وما لم يقترن الحبّ بها لن يكون من الحبِّ الصادق {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي}[58].

وعندما يتعارض حبٌّ وحبٌّ في قلب المؤمن، ويَتعارض أحكام ومتطلبات كل واحد منهما، يكون حبّ الله أقوى في نفسه، وأكثر نفوذاً، وفاعليةً.

وتكون استجابته لحبِّ الله دون غيره أمارة صدقه في الحبّ، وان حبِّه لله أشدّ من حبِّه لغيره.

وقد ورد في الدعاء عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين‘: (اللّهمَّ انّي أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك وخشية منك، وتصديقاً لك، وايماناً بك، وفَرَقاً منك وشوقاً إليك)[59].

وقد ورد هذا المعنى في الكثير من النصوص الإسلامية في الأدعية.

وعن رسول الله “ص” فيما روي عنه من الدعاء: (اللّهمَّ إنّي أسألك حبّك وحبّ من يحبّك، والعمل الذي يبلّغني حبّك، اللّهم اجعل حبّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي)[60].

وورد مثله عن داود “ع”[61].

وورد أيضاً عن رسول الله “ص”: (اللّهمّ اجعل حبّك أحبَّ الأشياء إليَّ واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطعْ عنِّي حاجاتِ الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعيُنَ أهل الدنيا من دنياهم فاقرر عيني من عبادتك)[62].

ثانياً: تحكيم الحبّ الإلهي على كل علاقاته وصلاته وميوله القلبية.

وإذا كانت النقطة الأُولى تشبه أن تكون نقطة كمية يكون بموجبها الحب الإلهي أشدَّ من أيِّ حبٍّ آخر في قلب الإنسان المؤمن… فإن هذه النقطة تشبه أن تكون نقطة كيفية في تحكيم الحبِّ الإلهي على كل حبٍّ وميل آخر في قلب الإنسان المؤمن. فيكون حبّ الله تعالى حاكماً على قلب الإنسان، ومتصرِّفاً في قلبه ومشاعره وعواطفه وأحاسيسه، فيلغى من قلب المؤمن ما لا ينسجم معه من الحب والكره، ويثبت في قلبه ما يتطلبه حبّ الله من حب وكره، ويطرد من قلبه ما لا يرتضيه الله تعالى من حبٍّ.

وبعبارة موجزة يتحكّم الحب الإلهي في قلب المؤمن… ويكون حبّ الله تعالى هو العامل القوي في سلوكه وتصرّفاته، وهو المهيمن على مشاعره وعواطفه وأحاسيسه وحركاته وسكونه وقوله وفعله وحبِّه وبغضه وقربه وبعده من الآخرين… وتكون جوانحه منقادة لله تعالى، وهذا هو الأساس والمحور في منهج التربية والتزكية في الإسلام وهذه الخصوصية الكيفية (حاكميةُ حبِّ الله) نابعة من الخصوصية الكمية (وأشدّ حبّاً لله).

فليس بمحظور على الإنسان المسلم أن يحبّ ويكره، ولكن عليه أن يضع الحبّ والبغض والرضا والغضب حيثُ يريدُ الله، وحيث يقرّه على ذلك، فما كان من الحب في امتداد حبّ الله تعالى فإن الله يأمر به، وما كان من الحبِّ الذي لا ينهى عنه الله تعالى فإن الإسلام يقرّه، وما كان من الكره لأعداء الله فإنّ الله يأمر به، وما كان منه مما لا ينهى عنه الله فإن الإسلام يقرّه.

وما عدا ذلك من الحب والكره الذي لا يأمر به الإسلام ولا يقرّه فيجب على المؤمن أن ينفيه من قلبه ويزيله من صدره.

فليس على المؤمن بأس ـ إذن ـ من أن يحبّ لنفسه … ولكن على أن لا يكون حبّه لغير الله أشدّ من حبِّه لله، وهذا أمرٌ تقدّم في الأمر الأوّل، وعلى أن لا يعارض حبّه لله، فما كان من الحب يعارض حبّ المؤمن لله فإن الإسلام يلغيه من حياة المؤمنين، وهذا هو الأمر الثاني.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[63].

فلم يكن المؤمنون الذين خاطبهم الله بهذه الآية ليحبّون آباءهم وإخوانهم أشدَّ من حبِّهم لله، ولكنهم كانوا يحبونهم رغم كفرهم، ويضمرون لهم المودة والحب والولاء، فنهاهم الله عن ذلك، وعدَّ حبّهم لهم من الظلم.

وهذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة[64] الذي أرسل إلى قومه من المشركين يخبرهم بقدوم رسول الله “ص”…

ولا نشك في أن حاطب بن أبي بلتعة كان مؤمناً، ولم يكن حبّه لأهله بأشدَّ من حبِّه لله، إلاّ انّه كان يحبّ أهله وقومه، رغم عدائهم لله ولرسوله. فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يحكموا حبّ الله تعالى وأمره على كلِّ حبٍّ آخر.

فما كان منه يتعارض مع حبِّهم لله ألغوه، فلا يتسع قلبٌ لحبّين يتعارضان في وقت واحد، حبّ الله وحبّ أعداء الله، فإذا أخلص المؤمن قلبه لله في الحب والبغض وحكّم حبّ الله تعالى في كل تعلقاته النفسية فليس عليه من بأس عندئذ أن يحبّ أو يكره، فليس للمؤمن أن يرسل عواطفه كما يشاء وانّى يشاء، ولا أن يمدّ صِلاته وعلاقاته كما يريد.

ولقد كان المسلمون الأوائل يقتلون آباءهم وإخوانهم وأعمامهم من المشركين، فلا يترددون في شيء من ذلك ولا يتزلزل لهم قدم.

يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب “ع”: (ولقد كنّا مع رسول الله “ص” نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا… ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ومضياً على اللَّقَم[65]، وصبراً على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدوّ ـ ثم يقول “ع” ـ : فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوِّنا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام)[66].

وتستوقفنا في هذا الحديث فقرتان:

اولاهما (ما يزيدنا ذلك إلاّ ايماناً وتسليماً).

وهذه الفقرة تحكي عن سنّة من سنن الله تعالى وهي سنّة (العلاقة بين العطاء وبين الإيمان والحب) وهذه سنّة لا يعيها إلاّ قلّة من الناس.

والناس عادةً يتصورون الأمر بالعكس، فيتصورون أن تحمّل المعاناة والابتلاء يستنفد صبر الإنسان ومقاومته، وما وراء هذا الصبر والمقاومة من إيمان وحب يبعثان على الصبر والمقاومة… بينما الأمر بالعكس تماماً فإن المعاناة وتحمُّل الآلام والابتلاء وقتل الآباء والأبناء في الله يزيد في قدرة الإنسان المؤمن على تحمّل الابتلاء والمعاناة وعلى الصمود والصبر، ويزيد في إيمان الإنسان وحبِّه لله تعالى.

والفقرة الثانية التي تستوقفنا في هذا الحديث للتأمّل هذه العلاقة الوشيجة بين الصدق في الحبّ والولاء والنصر (فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت)… فإن النصر لا ينزل إلاّ حيث يكون الصدق في الولاء والموقف، ولا تنفصل الساحة العسكرية في نتائجها عمّا يستقرّ في القلوب من الصدق في الحبّ والولاء.

خارطة الحبّ والبغضان

إن (حبّ الله تعالى) يرسم للمؤمن خارطة دقيقة جدّاً لعلاقاته الاجتماعية وصِلاته وأعدائه وأصدقائه… ومن خلال هذه الخارطة يستطيع المؤمن أن يشخّص بدقة كاملة أعداءه عن أصدقائه، وأهله عن الغرباء.

وان أمر هذه الخارطة لعجيب، تقرّب البعيد، وتبعِّد القريب وتدخل الخارج، وتخرج الداخل.

يخرج ابن نوح “ع” من أهل نوح فيكون غريباً عنه، وينهي الله تعالى نبيَّه نوح “ع” أن يسأله عن ابنه{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[67].

ويدخل سلمان الفارسي في زمرة آل محمّد فيتحوّل من سلمان الفارسي إلى سلمان المحمدي.

فيقول رسول الله “ص”: (سلمانُ منّا أهلَ البيت)[68].

يقول الشيخ المفيد في الاختصاص: (جرى ذكر سلمان وذكر جعفر الطيّار بين يدي جعفر بن محمّد‘، وهو متكئ، ففضّل بعضهم جعفراً عليه، وهناك أبو بصير، فقال بعضهم: أن سلمان كان مجوسياً ثم أسلم، فاستوى أبو عبد الله جالساً مغضباً، وقال: يا أبا بصير جعله الله علويّاً بعد أن كان مجوسياً، وقرشياً بعد أن كان فارسياً، فصلوات الله على سلمان، وان لجعفر شأناً عند الله يطير مع الملائكة في الجنّة)[69].

إن هذه الخارطة يختلف أمرها عمّا يألفه الناس من خرائط الحبِّ والبغض، والأعداء والأصدقاء، وإنها لتصنِّف الناس إلى جبهتين اثنتين، جبهة أولياء الله وأنصاره وأحبائه، وجبهة أعداء الله ومناوئيه… على اختلاف درجات الناس في هاتين الجبهتين من حب الله تعالى، وعداء الله.

الحب في الله والبغض في الله

وليس للمؤمن الخيار المطلق في هواهُ وحبِّهِ، وانّما عليه أن يتّبع في حبِّه وهواهُ وميوله وعلاقاتِهِ النقاط الحمراء، والنقاط الخضراء بشكل دقيق. فيضع ولاءه وحبه حيثُ يأمره الله، وحيثُ يحبّ الله، ويتبرأ ممّن يتبرأ الله تعالى منه.

ولن يصدق في إيمانه، ولن يبلغ محض الإيمان من دون هذا الولاء والحب لأحباء الله والبراءة والعداء لأعداء الله، والمواقف الإيجابية الثابتة حيثُ يحبّ الله، والمواقف السلبية حيثُ يأمر الله.

فيكون حبّ الله وولاؤه مبدأً لكلّ حب وولاء صادق للإنسان المؤمن، فيحبّ بحبِّ الله كلّ مَنْ أحب الله.

ويبغض كلّ مَنْ يبغضه الله.

حتى رسول الله “ص” نحبّه بحب الله، وبحبه لله، وبحب الله له .

عن ابن عبّاس عن رسول الله “ص”:

احبوا الله لما يغذوكم من نعمه

وأحبوني بحبِّ الله

وأحبوا أهل بيتي لحبِّي[70].

ولن يكون حب رسول الله “ص” من الحب في الله حقّاً إلاّ إذا كان المسلم يستجيب لكل ما يستتبعه هذا الحب من حبٍّ وبغض (وأحبوا أهل بيتي لحبِّي). هذا في الجانب الإيجابي فيما يستتبعه الحب في الله من حبٍّ…

وامّا في الجانب السلبي فإن الحب في الله والبغض في الله. يستتبع البغض والكره والحرب أيضاً، ويكلّف الإنسان الكثير في هذا الجانب، ومن دون ذلك لن يكون الإنسان صادقاً في حبِّه وولائه، ولن يكون الولاء لله شاقّاً ومكلِّفاً لولا ذلك.

والشواهد على حاكمية الحب في الله والبغض في الله والسلم في الله والحرب في الله كثيرة في النصوص الإسلامية نذكر بعضها:

عن زيد بن أرقم قال رسول الله “ص” لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين^ : «أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم»[71].

وعن أبي هريرة قال: نظر النبي “ص” إلى عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين. فقال: أنا حربٌ لمن حاربكم وسلمٌ لمن سالمكم.

وفي حديث الغدير يقول براء بن العازب أخذ «رسول الله» بيد عليٍّ، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه)[72].

وعن زيد بن أرقم عن رسول الله “ص” قال: (ألستم تعلمون أو ألستم تشهدون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا: بلى. قال: فمن كنتُ مولاه فإن عليّاً مولاه. اللّهمَّ عادِ من عاداه ووالِ من والاه)[73].

والأحاديث بهذا المضمون كثيرة.

(فالحب في الله) ـ إذن ـ محور حاكم في حياة الإنسان يستتبع الحب والبغض والولاء والهداية.

وقد ورد هذا المضمون في الزيارات المأثورة لأولياء الله وأئمة المسلمين كثيراً، ففي زيارة سيَّد الشهداء الحسين “ع” (فمعكم معكم لا مع عدوِّكم).

فمن دون هذه المقاطعة والمفاصلة لا تكتسب هذه المعية والمواصلة قيمتها الحقيقية.

وهكذا يتسلسل الحبّ في الله على هذا الامتداد ويشمل كل أولياء الله وعباده الصالحين، كما يتسلسل الكره والحرب والعداء والبغضاء في الخط الآخر المعادي لله ولرسوله.

وعندما نمعن النظر في النصوص الإسلامية الواردة في الحب في الله والبغض في الله نجد انّها تقسم الساحة إلى شطرين أساسيين وجبهتين متقابلتين: جبهة أولياء الله وأحبائِهِ على اختلاف درجاتهم في حبِّ الله، وجبهة أعداء الله على اختلاف درجاتهم في العداء والحرب.

وليس للمؤمن خيار في الموقف العملي والنفسي في هذه الساحة، وانّما عليه أن يحدِّد مواقفَهُ وتحرّكاتِهِ وميولَهُ النفسية ضمن ضوابط الحب في الله والبغض في الله.

ولن يكون للمؤمن عمل من الأعمال الصالحة رغم كثرتها، يرفعه إلى الله أفضل من أن يحبّ في الله ويبغض في الله. وإليك هذه الباقة من الروايات.

أحاديث الحب في الله والبغض في الله

1ـ روى البرقي في المحاسن عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله “ع” يقول: إن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلّ شيء، حتّى يعرفوا به، فيقال هؤلاء المتحابون في الله[74].

2ـ عن رسول الله “ص” قال لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله! أحبب في الله، وابغض في الله، ووالِ في الله، وعادِ في الله، فإنّه لا تُنال ولاية الله إلاّ بذلك. ولا يجد رجل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك[75].

3ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع” قال: (إن من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله عزّوجلّ)[76].

فلا ينال أحدٌ ولايةَ الله ـ إذن ـ إلاّ إذا أخلص قلبه لله، فكان في الله حبّه وبغضه وقربه وبعده وولايته وبراءته… ولن يكون بين عرى الإيمان، وهي كثيرة، عروة أوثق من الحب والبغض في الله.

4ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع”: (من أحب كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحب الله. ثم قال “ع”: صديقُ عدوِّ الله عدوِّ الله)[77].

5ـ وعن أبي جعفر الثاني “ع” قال: أوحى الله إلى بعض الأنبياء: أَما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، وامّا انقطاعك إليّ فتحرزك بي، ولكن هل عاديت لي عدوّاً أو واليت لي وليّاً؟[78].

6ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع”: من أحبَّ لله، وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله، فهو ممّن كمل إيمانه[79].

7ـ وعن أبي جعفر “ع” عن رسول الله “ص”: (وُدُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان. ألا ومن أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله… فهو من أصفياء الله)[80].

8ـ عن أبي عبد الله “ع”: (إن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور. قد أضاء نور وجوههم ونور أجسادهم ونور منابرهم كلّ شيء حتى يعرفوا به. فيقال هؤلاء المتحابون في الله)[81].

9ـ عن أبي عبد الله الصادق “ع” قال: قال رسول الله “ص” لأصحابه: أيُّ عُرى الإيمان أوثق؟ فقالوا الله ورسوله أعلم. وقال بعضهم الصلاة، وقال بعضهم الزكاة، وقال بعضهم الصيام، وقال بعضهم الحجّ والعمرة، وقال بعضهم الجهاد. فقال رسول الله “ص”: لكل ما قلتم فضل، وليس به. ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله وتوالي أولياء الله، والتبري من أعداء الله)[82].

10ـ وعن علي بن الحسين زين العابدين “ع” قال: إذا جمع الله عزّوجلّ الأولين والآخرين. قام مناد فنادى، يُسمِعُ

الناس، فيقول: أين المتحابون في الله؟

فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب.

قال: فتلقّاهم الملائكة. فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنّة بغير حساب.

قال: فيقولون فأي ضرب أنتم من الناس؟

فيقولون: نحن المتحابون في الله.

قال: فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم؟

قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله.

قال: فيقولون: نِعْمَ أجرُ العاملين[83].

11ـ عن أبي جعفر “ع”: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّوجلّ، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، والله يحبّك. وإذا كان يبغض أهل طاعة الله، ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ[84].

12ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع”: قال: كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له[85].

13ـ وعن رسول الله “ص”: لو أن عبدين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله بينهما يوم القيامة.

وقال النبي “ص”: أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله.

وعن أنس قال: قال رسول الله “ص” الحب في الله فريضة، والبغض في الله فريضة[86].

14ـ وروى أن الله تعالى قال لموسى “ع”: هل عملت لي عملاً؟

قال: صلّيتُ لك، وصمتُ، وتصدّقتُ، وذكرتُ لك. قال الله تبارك وتعالى: اما الصلاة فلك برهان[87]، والصوم جُنَّة، والصدقة ظل، والذكر نور.

فأي عمل عملت لي؟

قال موسى “ع”: دلّني على العمل الذي هو لي؟ قال يا موسى: هل واليت لي وليّاً، وهل عاديت لي عدوّاً قط؟

فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض من الله[88].

عودة إلى خارطة الولاء والبراءة في النفس والمجتمع

هذه الباقة من النصوص الإسلامية تحدّد بشكل دقيق علاقات الإنسان المؤمن الاجتماعية والأُسرية، وميوله ورغباته النفسية، وترسم له خارطة دقيقة لساحة المجتمع الإنساني بكل جبهاته المتضاربة والتواءاته السياسية والعقائدية وما بين هذه الجهات والفئات من قرب ومن بعد، وما بها من هدىً وضلال، واستقامة واعوجاج، وما لديها من انقياد للحق وعناد وتمرّد عليه، وما عليها من بصيرة وهدى، أو ضلال وعمى… إن هذه الساحة المليئة بالمتناقضات والحروب والصراعات والتحالفات واللقاءات هي ساحة عملنا وتحرّكنا، ومن دون وجود دليل خبير بمسالك هذه الساحة ومداخلها والمناطق المحظورة والمناطق المجازة فيها لا نستطيع أن نتحرّك في هذه الساحة ونقيم فيها العلاقات، ولا نستطيع أن نميِّز فيها بين أعدائنا وأصدقائنا.

وان الحب في الله يرسم لهذه الساحة خارطة دقيقة نستطيع أن نميِّز فيها بدقّة الأصدقاء عن الأعداء، ونعرف أين نضع ثقتنا ومن أين نسحب الثقة، والى من نركن وعمّن نحذر، والى من نمدّ أيدينا، وعمّن نسحب أيدينا ومع من نتعامل بثقة، ومع من نتعامل بحذر.

فلقد شطّت هذه الأُمة طويلاً والتبس عليها الأمر طويلاً، وركنت كثيراً إلى الذين نهى الله عن الركون إليهم، وأقامت علاقات وثيقة مع الذين نهى الله عن مودّتهم وشدّت حبلها بحبل أعداء الله، وقطعت حبلها عن حبل أولياء الله، ومالت إلى أقصى اليمين طوراً وإلى أقصى اليسار طوراً، وصفّقت لأعداء الله ورسوله، ومالت مع كل ريح… كل ذلك في غياب الضوابط والمعايير الإسلامية في الحب والبغض والتقارب والتباعد.

وان ضوابط الولاء و(الحبّ في الله) لتعطينا خطوطاً دقيقة جدّاً للعلاقات والصِلات والوشائج وترسم لنا الخارطة السياسية للساحة البشرية عموماً، وتميّز لنا فيها أصدقاءَنا عن أعدائِنا.

كما أنها ترسم لنفوسنا الحدود الدقيقة لميولها وتعلقاتها ورغباتها وحبِّها وبغضها.

إن هذه الخارطة تقسِّم الساحة البشرية إلى جزءين متمايزين (الولاء) و(البراءة)، ولكل من الولاء والبراءة مساحة خاصّة بها، ولكل من هاتين المساحتين أحكامها الخاصّة بها، وان ضوابط الولاء والحب في الله تحدّد بصورة دقيقة مساحة كل من الولاء والبراءة، والأحكام الخاصة بكلٍّ منهما.

وضابطة الولاء والبراءة واضحة… انّها الحب في الله والبغض في الله.

إن أولياءنا وأصدقاءنا في هذه الساحة هم المؤمنون. وان أعداءنا الذين نحاربهم هم أعداءُ اللهِ ورسولِهِ وأئمةُ الكفر.

إن المساحة المؤمنة من المجموعة البشرية بعضهم من بعض، وبعضهم أولياء بعض، يجمعهم الولاء لله وللرسول، وحبّ الله وحبّ رسوله، ويجمعنا بهم هذا الولاء والحب…

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ}[89].

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[90].

وهذه هي مساحة الولاء في الساحة البشرية.

ومساحة البراءة على الأرض، وفي المجتمع هي المساحة التي تضمّ أعداء الله ورسوله من الكفّار والمشركين ومن أئمة الكفر ومن الذين يحادون الله ورسوله ويشاقونهما، ويصدّون الناس عن دين الله ويحاربون الله ورسوله.

هؤلاء… يُعدون جبهة متميِّزة على وجه الأرض… تقف دائماً في قِبال الجماعة المؤمنة، وتضمر لهم الكيد والمكر والعداء خلفاً عن سلف، ولن تكفّ عن محاربة الأُمة المسلمة، ولن ترضى عنها حتى تتبع ملّتها. ولن يهدأ لها بال ما كان تقوم لهذا الدين قائمة على وجه الأرض.

{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[91].

هؤلاء بعضهم أولياء بعض، وبعضهم من بعض، وجبهة واحدة في قِبال الأُمة المسلمة… والموقف منهم المفاصلة التامة، وليست بيننا وبينهم صلة أو مودة، ومن يتخذهم منّا أولياء، فهو منهم، وينقطع ما بيننا وبينه من وشيجة الولاء.

والقرآن الكريم صريح وحاسم في تقرير هذه الحقيقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[92].

ولن يكون بيننا وبين المشركين والملحدين ولاية أو مودّة، بعد أن أعلن الله براءته منهم {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[93].

فليس للمؤمن خيار في الولاء والحب ووشائج الصلة والارتباط، وإنما حبّه وولاؤه لله ولمن يحبّ الله من عباده.

وأما أعداء الله الذين يصدّون الناس عن الله فليس بيننا وبينهم إلاّ العداء والبغضاء.

لا نتخذهم أولياء، ولا نلقى إليهم بالمودة والمحبة، ولا نمدّ لهم يداً، ولا نضع فيهم ثقة، ولا نركن إليهم في شيء .

ولنتلُ هذه الآيات المباركات من صدر سورة الممتحنة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[94].

ثم لنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة المجادلة:

{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[95].

إن القرآن الكريم يؤكِّد بقوّة وبشكل حاسم مسألة المفاصلة والمقاطعة مع الجبهة الكافرة، كما يؤكِّد مسألة التواصل والتحابب والتناصر مع الأُمّة المسلمة.

وان هذه المسألة وتلك ليستقيان من نبع واحد، ويتّصلان بأصل واحد. وكما يدعو الإسلام إلى ضرورة توثيق وشائج الولاء في الأُسرة المسلمة، كذلك يدعو إلى المواقف الحاسمة الصلبة من جانب البراءة والمفاصلة مع الجبهة الكافرة.

وليس للمؤمن خيار في كل ذلك، في حب أو بغض، ومواصلة أو مفاصلة، وارتباط أو قطيعة وحرب أو نصرة… وإنما وكّل أمر ذلك كلّه إلى ولائه لله ولرسوله، ويحكّم حبّه لله تعالى في ذلك جميعاً.

الولاء والبراءة في زيارة الإمام الحسين “ع”

إن وقعة الطف إحدى أشهر الوقائع التاريخية الفاصلة بين الحق والباطل. ويومُ الطف من أيّام الفرقان المفرِّقة بين هاتين الجبهتين في التاريخ… وقيمة هذا اليوم في تاريخ الصراع الحضاري القائم بين الحق والباطل انّه أزال كل لبس عن الساحة. ولم يكن الأمر ليلتبس على أحد في هذا الصراع بين حفيد رسول الله “ص” وحفيد أبي سفيان. ولم يكن أحد ليعذر في التخلّف عن هذه المعركة الحضارية الكبرى… فقد كانت أهداف أبي عبد الله الحسين سيِّد الشهداء “ع” واضحة، وحياته وسيرته وتحرّكه وتضحيته واضحة كل الوضوح.

كما كان طيش يزيد وسكره وطغيانه وخروجه على حدود الله واضحة أيضاً لكل المسلمين.

فكان يوم الطف من الأيّام النادرة القليلة في التاريخ التي تقسِّم الساحة الاجتماعية إلى ساحة موالية وساحة معادية.

ولم تدع لأحد مجالاً ولا خياراً في الاختيار… لقد كان كل شيء واضحاً في كربلاء، وفي يوم الطف، فمن لم يقف مع الحسين “ع” أو لم يعلن عن غضبه وسخطه على بني أُمية ولم يعلن ولاءه لابن بنت رسول الله “ص”… كان يقف مع بني أُمية لا محالة.

وليس دائماً يمكن أن يعتذر الإنسان بعدم الوضوح ليقف موقف المتفرِّج على الساحة حتى يتبيّن له الأمر… فهناك من القضايا والحوادث ما لا يدع مجالاً للشك، وما لا يسمح لأحد أن يقف موقف المتفرِّج، وإنّما يتطلّب الصراحة في الموقف والبت في الأمر.

ووقعة الطف واحدة من الأحداث الكبرى التي لا تسمح لأحد بأن يتردّد طويلاً، ويقف موقف المتردّد والشاك، أو المتفرِّج الذي لا يعنيه الأمر… فمن لم يكن مع الحسين “ع” يوم الطف بسيفه وعواطفه وأحاسيسه وولائه… كان مع يزيد لا محالة.

وان البراءة واللَّعن لا يخص فقط أولئك الذين قاتلوا الحسين أو أمروا بقتله يوم الطف، وإنّما يعمّ أيضاً الذين سمعوا بمصرع الحسين “ع” ورضوا به.

وهكذا ورد في زيارة وارث (فلعن الله أُمّة قتلتك، ولعن الله أُمّة ظلمتك، ولعن الله أُمّة سمعت بذلك فرضيت به).

ولم تكن قضية الطف معركة كسائر المعارك التي تجري على وجه الأرض من أجل سلطان أو مُلك أو أرض، وإنّما كانت هذه المعركة مواجهة سافرة بين الكتلة المؤمنة والمسلمة وحزب الشيطان… وهذه المعركة قائمة في كلِّ زمان وقد أصبح الحسين “ع” رمزاً للحقِّ في هذه المعركة الخالدة.

فكانت معركةُ الطف ـ دائماً ـ مقياساً للولاء، ووسيلة لمعرفة الناس وتشخيص مواقفهم الحقيقية وولاءاتهم.

ولذلك قلت إن يوم الطف هو أحد أيّام الفرقان القلائل في تاريخ الإسلام، يفرِّق الناس إلى جبهتين ويميِّز بينهم، ويفرز كلاّ منهما عن الآخر، ويلحق كلاً بولائه وحبِّه.

وقد وردت في الزيارات الخاصّة بالإمام الحسين “ع” وأصحابه^ فقراتٌ تشير إلى استمرارية القضية واستمرارية المواجهة، واستمرارية الولاء والنصرة منّا لهم والعداء والبراءة منّا لأعدائهم.

(أنا لكم تابع، ونصرتي لكم مُعدة، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين… فمعكم معكم، لا مع عدوِّكم)[96].

(أشهد إن قاتلك في النار، أدين الله بالبراءة ممّن قتلك، وممّن قاتلك، وشايع عليك، وممّن جمع عليك، وممّن سمع صوتك ولم يعنك)[97].

وقيمة وقعة الطف أنها مقياس ثابت وشاخص لمعرفة الولاء عند الناس وتشخيص الولاء ودرجته عند الناس.

بُعْدا الولاء والبراءة

وللولاء والبراءة بُعدان في آن واحد:

1 ـ البُعد العرضي وهو يشمل الساحة الاجتماعية التي يتعامل معها الإنسان المسلم بالفعل… وليس في هذه الساحة شيء خارج عن ضوابط الولاء والبراءة… وكل من في هذه الساحة وكلُّ ما فيه من الأشخاص والجهات والأحزاب والفئات والمؤسسات تكون مشمولة للحب في الله أو البراءة في الله.

2 ـ البُعد العمقي وهذا البُعد يشمل مسألة الولاء والبراءة على عمود التاريخ، فلا تقتصر علاقة الإنسان المسلم بالساحة المعاصرة التي يباشر التعامل معها، وانّما يشمل جذوره واصوله التاريخية أيضاً. فما يجري اليوم من صراع بين الحق والباطل يجري في كل عصر.

وما يجب على الإنسان أن يتّخذه اليوم من موقف تجاه كل من الحق والباطل… يجب عليه أن يتّخذه في مساحة التاريخ أيضاً. فليس يجوز اطلاقاً أن نستعرض التاريخ من موقف المتفرّج، وإنّما يجب علينا أن نستعرض التاريخ كما يستعرض القاضي الخصمين المتعارضين. وممّا لا يصح : أن نقف في محكمة التاريخ موقف المتفرِّج أو موقف الشاهد، وإنّما يجب أن نقف في هذه المحكمة موقف القاضي المسؤول عن قضاته من منطلق الولاء والبراءة.

فنحن ـ اليوم ـ لسنا نبتة مجتثّة من فوق الأرض، مالنا من قرار، وظاهرة مفصولة ومبتورة الجذور والأُصول، وإنّما نحن الأُمة المسلمة، العاملة في سبيل الله، امتداد لأصول عريقة في التاريخ وجذور ممتدة إلى أعماق الزمان، تمتدّ إلى إبراهيم وموسى وعيسى ورسول الله والأئمة من بعده على رسول الله^. نضع خطانا مواضع خطاهم، ونتّخذ منهم أُسوة وقدوة. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[98].

تأمّلوا في خطاب الله للمؤمنين والصلة والعلاقة التي يذكرها الله تعالى لخليله إبراهيم “ع” بنا نحن المؤمنين .

{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[99].

فإبراهيم “ع” أبونا، وهو سمـّانا المسلمين من قبل… وعلاقتنا به علاقة البنوّة.. وليس يجوز لنا أن نقف من هذا العمق الحضاري لكياننا موقف المتفرِّج واللامبالاة، لكسب ثقة الآخرين والاحتفاظ باحترامهم.

إن حالة اللامبالاة تجاه هذه المسألة حالة تجارية لا مبدئية، أقرب إلى الانتهازية السياسية، منها إلى الموقف المبدئي.

قالوا إن شخصاً زار مرقد الصحابي الجليل حِجْرِ بنِ عَديٍّ& في غوطة دمشق، فسأل سادن المقبرة عن صاحب القبر. فقال لـه: هذا قبر سيِّدِنا حجر قتله سيِّدُنا معاوية. هذه الحالة التوفيقية بين طرفي الصراع تكشف عن فقدان حالة الانتماء والولاء، والميوعة في مواجهة الأحداث والقضايا والتاريخ، وفقدان الموقف المبدئي الصريح تجاه التاريخ.

إن قلب الإنسان المؤمن لا يمكن أن يتّسع لسيادة حِجْر& وسيادة معاوية معاً، ولا يستطيع المؤمن أن يجمع بينهما في الاحترام والتقديس والترضية. فإذا ترضَّينا على حِجْر فلن نستطيع أن نترضّى على معاوية.

إن الولاء يمنح الإنسان المؤمن صلابة في الموقف تجاه الساحة التي يتعامل معها مباشرة وتجاه التاريخ، وان (حب الله) يعطينا المقياس الدقيق لتشخيص من يجب علينا أن نحب ومن يجب علينا أن نكره في التاريخ وفي ساحة عملنا، ولقياس درجات الحب والبغض، ويعلِّمنا كيف نتعامل مع التاريخ والتراث والميراث. إن الإسلام يرفض التفكيك والتجزئة في الولاء والبراءة بين عصور التاريخ. فالمسيرة واحدة، والخط واحد، والإيمان واحد، والولاء لا محالة تكون واحدة. {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[100].

{قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[101].

ونحن نرتبط في إيماننا وخطّنا الفكري والسياسي والعقائدي والأخلاقي بهذه المسيرة جميعاً، لا نفرّق بين حلقات هذه المسيرة الربّانية، ونحتفظ لهم جميعاً بالولاء، ولأعدائهم جميعاً بالبراءة والعداء.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ الأحزاب: 4.
  • [2] ـ البقرة: 107.
  • [3] ـ راجع دلائل الإعجاز للجرجاني ص:260 .
  • [4] ـ دلائل الإعجاز ص: 268.
  • [5] ـ راجع تفسير الجلالين: 16 ومفردات الراغب: 176.
  • [6] ـ الأنعام: 51.
  • [7] ـ الأنعام: 70.
  • [8] ـ التوبة: 116.
  • [9] ـ الكهف: 26.
  • [10] ـ العنكبوت: 22.
  • [11] ـ السجدة: 4.
  • [12] ـ الشورى: 31.
  • [13] ـ الأنعام: 14.
  • [14] ـ الشورى: 31.
  • [15] ـ سبأ: 41.
  • [16] ـ الأعراف: 196.
  • [17] ـ الكهف: 44.
  • [18] ـ المائدة: 55.
  • [19] ـ الشورى: 21.
  • [20] ـ النحل: 36.
  • [21] ـ النمل: 59 ـ 64.
  • [22] ـ الروم: 40.
  • [23] ـ العنكبوت: 61
  • [24] ـ العنكبوت: 63.
  • [25] ـ الزمر: 38.
  • [26] ـ النحل: 51 ـ 54.
  • [27] ـ الزخرف: 52 ـ 55.
  • [28] ـ القصص: 39.
  • [29] ـ النازعات: 24.
  • [30] ـ الفرقان: 43.
  • [31] ـ النساء: 65.
  • [32] ـ المائدة: 44.
  • [33] ـ المائدة: 45.
  • [34] ـ المائدة: 47.
  • [35] ـ البقرة: 51.
  • [36] ـ النحل: 50 ـ 52.
  • [37] ـ الشورى: 21.
  • [38] ـ يوسف: 40.
  • [39] ـ النساء: 60 .
  • [40] ـ النحل: 36.      
  • [41] ـ الزمر: 17.
  • [42] ـ نور الثقلين 2: 191.
  • [43] ـ التوبة: 16.
  • [44] ـ نور الثقلين 4: 481.
  • [45] ـ الأعراف: 26.
  • [46] ـ غافر: 6.
  • [47] ـ الأعراف: 194.
  • [48] ـ الحج: 73.
  • [49] ـ الأعراف: 198.
  • [50] ـ البقرة: 165.
  • [51] ـ النساء: 139.
  • [52] ـ فاطر: 15.
  • [53] ـ البقرة: 21.
  • [54] ـ التوبة: 24.
  • [55] ـ البقرة: 165.
  • [56] ـ آل عمران: 14.
  • [57] ـ بحار الأنوار 70: 24 ـ 25.
  • [58] ـ آل عمران: 31.
  • [59] ـ من دعاء الإمام زين العابدين في أسحار شهر رمضان برواية أبي حمزة الثمالي: كتب الأدعية.
  • [60] ـ كنز العمال للمتقي الهندي 2: 209 ح3794.
  • [61] ـ كنز العمّال 2: 195.
  • [62] ـ كنز العمال 2: 182.
  • [63] ـ التوبة: 23.
  • [64] ـ تفسير نور الثقلين 2: 195.
  • [65] ـ اللَّقَم: معظم الطريق، أو جادَّته.
  • [66] ـ نهج البلاغة، شرح د. صبحي الصالح 1: 91 ـ 92 خ 52.
  • [67] ـ هود: 45 ـ 45.
  • [68] ـ عيون أخبار الرضا: 224.
  • [69] ـ الاختصاص للمفيد: 341.
  • [70] ـ سنن الترمذي 5: 664 ح 3789، ط شركة مصطفى الحلبي، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 150.
  • قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه. وبحار الأنوار 70: 14 وأمالي الصدوق 219، وعلل الشرائع 1: 113، وأمالي الطوسي 1: 285، وبشارة المصطفى: 161.
  • [71] ـ المستدرك على الصحيحين 3: 149.
  • [72] ـ المستدرك على الصحيحين 3: 149. قال الحاكم: هذا حديث حسن من حديث أبي عبد الله أحمد ابن حنبل. و ج4: 281.
  • [73] ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 372.
  • وقد أخرج الفقيد السعيد الشيخ عبد الحسين الأميني& حديث الغدير عن مئة طريق فزائداً في كتابه القيِّم (الغدير) الجزء الأول منه.
  • [74] ـ بحار الأنوار 74: 399 عن المحاسن 264.
  • [75] ـ أمالي الصدوق: 8.
  • [76] ـ أمالي الصدوق: 345.
  • [77] ـ أمالي الصدوق: 360.
  • [78] ـ تحف العقول: 479.
  • [79] ـ المحاسن: 263.
  • [80] ـ أصول الكافي 2: 125.
  • [81] ـ أصول الكافي 2: 125.
  • [82] ـ أصول الكافي 2: 125.
  • [83] ـ أصول الكافي 2: 126.
  • [84] ـ أصول الكافي 2: 126.
  • [85] ـ أصول الكافي 2: 127.
  • [86] ـ جامع الأخبار: 149.
  • [87] ـ أي: برهان ودليل على إسلامك.
  • [88] ـ بحار الأنوار 49: 252 ـ 253.
  • [89] ـ التوبة: 71.
  • [90] ـ الأنفال: 72.
  • [91] ـ البقرة: 120.
  • [92] ـ المائدة: 51.
  • [93] ـ التوبة: 3.
  • [94] ـ الممتحنة: 1 ـ 4.
  • [95] ـ المجادلة: 22.
  • [96] ـ من زيارة أبي الفضل العباس× مفتاح الجنات 2: 117.
  • [97] ـ الزيارة السابعة المطلقة، مفتاح الجنات 2: 129.
  • [98] ـ إبراهيم: 25 ـ 26.
  • [99] ـ إبراهيم: 78.
  • [100] ـ البقرة: 136.
  • [101] ـ آل عمران: 84.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى