ثقافة

لقاء الله

لقاء الله في النصوص الإسلامية

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}

لا نشك في (لقاء الله) فإن القرآن أنبأنا به، ولا نجد مسوِّغاً من الناحية العلمية لتأويل (لقاء الله) في القرآن وفي النصوص الإسلامية بالموت، فإننا إذا استعرضنا هذه النصوص جميعاً ووضعنا بعضها إلى جنب بعض نجد أن هذه النصوص تقرِّر (لقاء الله) بصورة مستقلة عن الموت، وحتى عمّا ينعم به عباد الله الصالحون في الآخرة من نعيم الجنّة، فليس لنا من سبيل إلى تأويل (لقاء الله) بالموت وبما ينعم به عباد الله الصالحون من نعيم الجنّة بعد الموت.

كما لا شك أن المقصود بـ (لقاء الله) ليس الإحاطة بالذات الإلهية المقدّسة واكتناه ذات الله وجلاله وجماله ورؤيته عزّوجلّ، فإنّ ذلك كلّه من المستحيل، يرفضه العقل والشرع، وكيف يحيط المحدود باللامحدود والمطلق الذي ليس لجلاله وجماله وعظمته حدّ، وكيف يمكن رؤيته تعالى وهو (مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة) و (ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج) و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[1]. فما هو (لقاء الله)؟ وماذا تحمل هذه العبارة الجليلة الواردة في الثقافة التوحيدية من مفاهيم وأفكار وتصوّرات؟

إن (لقاء الله) هو شهود جمال الله وجلاله وأسمائه وصفاته الحسنى. وقليل من الناس ينعمون بهذه النعمة الجليلة. أمّا عامّة الناس فلا يجدون سبيلاً إلى هذه الموهبة الجليلة، وتحول بينهم وبين مشاهدة الجمال والجلال الإلهي حُجُب كثيفة من سلطان الأهواء والشهوات، وتراكم الذنوب والسيئات، وحبّ الدنيا وسلطانها على نفوسهم. وأمّا الذين ينعم الله تعالى عليهم بهذه النعمة ويرزقهم مشاهدة جلاله وجماله في الدنيا والآخرة فقلّة من الناس، وصفوة من عباد الله الصالحين.

وقد ورد في الحديث المعروف المروي عن رسول الله “ص” في خصال الشهيد السبعة، بعد ذكر الخصال الستة: (والسابعة أن ينظر في وجه الله، وإنها لراحة لكل نبي وشهيد)[2].

وقد ورد (لقاء الله) في كثير من النصوص الإسلامية بصيغ وتعبيرات مختلفة.

ففي المناجاة الشعبانية، وهي من جلائل المناجاة والأدعية الواردة عن أهل البيت^:

(إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأَنِرْ قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصارُ القلوب حُجُبَ النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحُنا معلّقةً بعزِّ قدسك. إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك سرّاً وعمل لك جهراً.

إلهي وأَلحقني بنور عزِّك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً ومنك خائفاً ومراقباً)[3].

إن لقاء الله لا يتم للإنسان إلاّ عندما ينقطع إلى الله تعالى انقطاعاً كاملاً. ويزيل ما بينه وبين الله من حُجب الظلمات من الذنوب والسيّئات، ومن حبِّ الهوى والشهوات، والدّنيا وسلطانها على النفس.

فإذا انقطع إلى الله، وأزال ما بينه وبين الله من حُجب الظلمة جعل الله تعالى في قلبه نوراً يخترق به (حجب النور)، فيصل إلى شهود معدن الجمال والجلال والعظمة.

وينجذب قلبه إلى معدن الجمال والجلال والعظمة، فيشغله عن كل شيء ولا يشغله عنه شيء، ويكون معلقاً بمعدن الجلال والجمال والعظمة.

روى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني في (الكافي) : (إن روح المؤمن لأشدُّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها)[4].

وفي دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين “ع”: (وهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك).

ولست أستطيع أن أصف رقة وشفافية هذه الكلمة العلوية في هذه الفقرة من دعاء كميل.

فليس الذي يهمّ العبد العارف بالله أن يحل في عذاب نار جهنّم، وتحيط به سرادقها، وإنّما الذي يهمّه ويشكو منه إلى الله في وسط حريق هذا العذاب الهائل: أن يكون الله تعالى غاضباً عليه، ساخطاً منه، مفارقاً له.

وان كان العبد العارف يتحمّل عذاب الله، فلا يتحمّل فراقه تعالى.

ولهذه الرؤية الصافية وجهٌ آخر نستشفه منها، فلا يكاد ينعم عليٌّ×بشيء من نعيم الجنّة، كما ينعم بلقاء الله تعالى، ولا يوازن شيء من نعيم الجنّة نعمة لقاء الله تعالى عند عليٍّ×.

وورد في الدعاء: (ولا تحرمني النظر إلى وجهك).

وروي أن رسول الله “ص” كان يقول في سجوده: (اللّهمَّ إنّي أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذّة النظر إلى وجهك الكريم)[5].

ولا ينعم العبد العارف بالله في هذه الدّنيا وفي الآخرة، بلذّة فوق هذه اللّذّة، وإنها لراحة لكل نبي وشهيد، كما ورد في النص السابق عن رسول الله “ص”.

المنهج التربوي لإعداد النفس للقاء الله

ولقاء الله بهذا المعنى أقصى درجات القرب إلى الله. والوصول إلى هذه الغاية لا يتمّ إلاّ بعد كدح طويل في تهذيب النفس وتخليصها من سلطان (الهوى) و (الأنا) ومن سلطان الدنيا وفتنها[6]… فإن الانصراف إلى الدنيا والإقبال عليها يحجب الإنسان عن الانصراف إلى الله والانقطاع إليه والإقبال عليه تعالى.

كما أن سلطان (الهوى) و (الأنا) على النفس وتراكم الذنوب على القلب يحجب القلب عن رؤية الله تعالى. فإذا سعى الإنسان في تهذيب نفسه وتخليصها من سلطان (الهوى) و (الأنا) وتطهيرها، تعرّضت مباشرة لسلطان جاذبية الجمال والجلال الربوبيَّينِ، وجذبه جمال الله تعالى وجلاله، جذباً كاملاً، وتجلّت لـه بقدر صفاء نفسه ونقائها صفات الله وأسماؤه الحسنى، وملأت عقله وقلبه، وشغلته عن كل شيء دون الله، فلا يصرف الإنسان عندئذ عن الله شيءٌ ولا يجد فوق لذّة هذا الشهود لذّة.

التخلية قبل التحلية

وهذا المنهج التربوي في إعداد النفس للقاء الله تعالى وشهود صفاته الحسنى وجلاله وجماله يعتمد أصلاً مهماً في حركة الإنسان إلى الله، وفي كدح الإنسان للقاء الله. وهذا الأصل هو البدء بتخلية النفس وتطهيرها من الذنوب والمعاصي التي تحجب الإنسان عن الله، وتحريرها عن سلطان (الهوى) و(الأنا) وسلطان الدنيا وفتنها، والانطلاق والإقلاع إلى لقاء الله من هذه القاعدة. فإذا تمَّ للإنسان ذلك… عندئذ يجعل الله تعالى في قلبه نوراً يخترق به حجب النور والظلمة فتصل إلى معدن العظمة، ويمكنه من العروج والصعود إليه عزّوجلّ للقائه. فلا يستطيع الإنسان أن يقوم بإعمار قلبه بذكر الله وحبِّه، والانقطاع إليه تعالى، إذا كان للأهواء والشهوات سلطان على نفسه، وإذا كانت الذنوب والمعاصي قد حجبت قلبه عن الله.

فلابدّ لـه أوّلاً من هذه المسيرة الداخلية الشاقّة من تطهير نفسه وتخليتها ممّا يتراكم عليها من الذنوب، وكسر سلطان الأهواء والشهوات في نفسه. وعند ذلك فقط ينفتح قلبه على معرفة الله، ويدخل الشوق والحب والاُنس بذكر الله ومناجاته في قلبه، ويعمر قلبه ويستنير.

قسوة القلوب تحجبها عن مشاهدة جمال الله

ولكي يجتاز الإنسان حالة انغلاقة القلب، وانشغالها بحبِّ الدّنيا وفتنها ومتاعها، وسلطان الشهوات والأهواء عليها… لابدّ له من معاناة طويلة، وكدح عسير، شاق… فإن الأهواء والشهوات عندما تتمكّن من نفس الإنسان وتتراكم عليها الذنوب والمعاصي… يقسو القلب، ويفقد حالة الانفتاح والاستقبال للمواهب الإلهية، ويتحجّر، ويكون عندئذ كالحجارة، أو أشدّ من الحجارة، فإن من الحجارة لمّا يتفجّر منه الأنهار، وان من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء، وان منها لما يهبط من خشية الله… أما القلوب التي يُصيبها النكد والقسوة، فلا تلين، ولا ترقّ، ولا تخشع، ولا تستقبل خيراً، ولا تعطي خيراً. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[7].

وحالة القسوة والانغلاق هذه تفقد القلب كل خصائصه، وتعطّل دوره وعمله في استقبال المواهب الإلهية[8].

الكدح إلى الله في طريق لقاء الله

وفي طريق تطهير القلب والسيطرة على النفس وما أودع الله تعالى فيها من الأهواء والشهوات لابدّ للإنسان من معاناة طويلة وكدح شاق عسير.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[9].

وهذا الكدح في طريق تطهير القلب، وتهذيب النفس تزكيتها، وتمكين العقل من سلطان الشهوات، هو الجهاد الأكبر في حياة الإنسان، كما يقول رسول الله “ص”.

وإذا توفّق الإنسان في هذا الطريق الشاقِّ، فإن غاية تحرّكه لقاء الله (فملاقيه). وناهيك بها من غاية سامية وشامخة في حياة الإنسان.

والآن، بعد هذه الجولة في ولاء الحب لله تعالى، نرجع إلى الحديث عن ولاء الطاعة والحاكمية لله تعالى، ونتحدث عن التوحيد والشرك في الولاء لله وحكمه وطاعته.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1]ـ الشورى: 11.
  • [2]ـ وسائل الشيعة 11: 10.
  • [3]ـ زاد المعاد للعلاّمة المجلسي: 55 ـ 56، دار الكتب الإسلامية.
  • [4]ـ اصول الكافي 2: 166.
  • [5]ـ إحياء العلوم للغزالي 1: 319.
  • [6]ـ ليست الدّنيا مذمومة في الإسلام وإنّما المذموم هو حبّ الدنيا، وليس على المؤمن بأس في أن يتملّك من الدّنيا ما رزقه الله تعالى من مصادرها المشروعة، وانّما البأس من أن يتملكه حبّ الدنيا، وبينهما فرقٌ كبير.
  • [7]ـ البقرة: 74.
  • [8]ـ يحسن في معرفة القلب وأسراره وأمراضه وعلاجه مراجعة الجزء الخامس من الكتاب القيِّم (المحجّة البيضاء في إحياء الأحياء) للمحدّث الفقيه العارف بالله الفيض الكاشاني&.
  • [9]ـ الانشقاق: 6.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى