ثقافة

الولاية التشريعية

العلاقة بين الولاية التكوينية والتشريعية

الولاية التكوينية المطلقة لله سبحانه وتعالى على الإنسان والكون تستتبع ولاية تشريعية مطلقة على الإنسان.

وهي حاكمية الله تعالى على الإنسان في القول والفعل والحب والبغض، والموقف والرأي. فإن الإنسان وما يحيطه وما يتحرّك عليه، وما يتصرّف به، ملكٌ لله تعالى، والإنسان في حيِّز سلطانه وملكه وفي قبضة قدرته… فليس له أن يخرج عن دائرة العبودية لله، و لا أن يتجاوز حدّاً من حدوده تعالى.

فهو عبد مملوك لله، وفي دائرة ملك الله وسلطانه… وعليه أن يتبع حدود الله وأحكامه… وهذه كلّها قضايا بديهية واضحة، قياساتها معها، كما يقول أهل المنطق، يكفي تصوّرها للتصديق بها.

وولاية الله التكوينية على عباده تستتبع حاكمية الله المطلقة عليهم من جانب، وولاءً وعبوديةً واتباعاً وتسليماً مطلقاً من الإنسان لمنهج الله وتشريعه وأحكامه من جانب آخر.

وإلى هذه الملازمة العقلية من التكوين والتشريع يشير القرآن الكريم:

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[1]. فإذا كان كل شيء في هذا الكون قد استسلم لله تعالى، وانقاد لـه انقياداً مطلقاً، فكيف يبغي الإنسان لحياته وشؤونه وأعماله ديناً غير دين الله وحكماً غير حكم الله.

العلاقة بين الولاية التكوينية والتشريعية في آية من الأعراف

ويحسن بنا أن نقف عند هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[2].

والأمر يأتي بمعنى الحكم والبعث[3]، والآية الكريمة تتحدّث أوّلاً عن ولاية الله التكوينية للكون، في خلق السماوات والأرض والاستواء على عرش السلطان، يدبِّر أمر هذا الكون ويدبِّر الليل والنهار. ويدبِّر أمر الشمس والقمر والنجوم، كلٌ له طائع منقاد… لا يعصي له أمراً .

ثم بعد هذا الاستعراض الرائع لسلطان الله تعالى في الكون وهيمنته عليه في السماء والأرض، وفي حركة الأجرام… تقرر الآية الكريمة هذه الحقيقة الكبرى: (ألا لَهُ الخلقُ والأمرُ) وتربط بين الخلق والأمر.

فالذي يملك هذا السلطان والهيمنة على الكون… لابد أن يكون لـه الأمر أيضاً، ولا يمكن أن ينفصل الأمر عن الخلق، ولا يمكن أن يكون الخلق لله تعالى والأمر لغيره.

ولا يصح للإنسان أن يشذّ عن هذا الكون كلِّه في فعل أو قول، وحركة وسكون، فالصلة بين التكوين والتشريع مسألة في غاية الوضوح، مادام الإنسان في حيِّز ملك الله وسلطانه المطلق. وعلى هذا الأساس العقلي المتين يضع الإسلام مسألة التشريع في دائرة التوحيد، وينفي أن يكون لأحد حقّ أو سلطان في التشريع في حياة الناس غير الله تعالى.

العلاقة بين الولاية التكوينية والعبادة والتسليم لله

وكذلك يقرِّر القرآن الكريم الصلة بين الولاية التكوينية والعبادة وهي من أنحاء ولاية الله التشريعية.

والعبادة هي الطاعة والدينونة عن خضوع وتذلل، والاستسلام والانقياد عن استكانة وخشوع.

والعبادة بهذا المعنى من متطلبات ولوازم الولاية التكوينية ولا تنفك عنها، والقرآن الكريم ينفي شرعية العبادة لغير الله، وينفي استحقاق أحد غير الله تعالى للعبادة. ويربط العبادة ربطاً مباشراً بولاية الله التكوينية على هذا الكون، ويعتبر العبادة من مقولة (التوحيد)، وتخص علاقة العبد بالله تعالى فقط دون غيره.

وإلى هذه العلاقة بين الولاية التكوينية والعبادة يشير القرآن الكريم:

{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[4].

فالعبادة تخص الذي فطر الإنسان وخلقه فقط {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}1.

… اسلم لرب العالمين فقط، دون غيره ممن لا سلطان له على العالمين.

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}2.

{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}3.

والآيات في هذا المعنى كثيرة، في طرفي القضية، في طرف الإثبات وفي طرف النفي.

فالتسليم والانقياد، والطاعة، والتبعية والعبودية، والتذلل والاستكانة، والخضوع والدينونة من عناصر الولاء التشريعي لله تعالى، وهي تختص بعلاقة العبد بالله تعالى، ولا تجوز لغير الله تعالى، إلاّ أن يكون بإذن الله وأمره وفي حدود ما يأمر الله تعالى به و هي بذلك من مقولة التوحيد.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

[1]ـ آل عمران: 83 .

[2]ـ الأعراف: 54.

[3]ـ يقول الراغب في المفردات ص: 24 في مادة الأمر:

(مصدر أمرته إذا كلفته أن يفعل شيئاً، هو لفظ عام للأفعال والأقوال كلها).

قد يكون الأمر بمعنى الحكم والبعث التكويني كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 50)، وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، وقوله {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} (الروم: 46)، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} (إلاسراء: 16).

وقد يكون الأمر بمعنى الحكم والبعث التشريعي كما في قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} (الأعراف: 77)، وقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50)، وقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا} (الطلاق: 8). وهذا هو الأصل في معنى الأمر (راجع تفسير الميزان 8: 150 ـ 151) وقد تأتي هذه المادة لمعان أُخرى مشتقة من هذا المعنى ومناسبة لها. وواضح أن الاشتراك بين معنيي هذه الكلمة من الاشتراك المعنوي، وليس من الاشتراك اللفظي، فيمكن إرادة كلا المعنيين من استعمال هذه اللفظة.

وقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أن المقصود من الأمر هنا الإيجاد، أي ما يشبه ما أسميناه بالحكم التكويني (راجع تفسير الميزان 8 : 150 ـ 151) بينما ذهب آخرون من المفسرين والعلماء إلى أن المقصود بالأمر هنا الحكم التشريعي (راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7: 221 ـ 223).

وجمع آخرون من المفسِّرين بين المعنيين وفسَّروا الأمر بما يشملهما معاً، أي البعث والحكم التكويني والتشريعي كما يتراءى ذلك من كلام الطبرسي. يقول في مجمع البيان 2: 428 (يريد الله بالأمر أن له (تعالى) أن يأمر في خلقه بما أحب، ويفعلُ بهم ما شاء).

ومهما يكن من أقوال المفسِّرين وآراؤهم في تفسير الأمر، فإن إرادة الحكم والتكليف التشريعي من الأمر هنا معنىً مقبول، وقريب من جو الآية الكريمة، سواء أرادت الآية هذا المعنى وحدها، أو ضمن معنىً أوسع يشمل الحكم التكويني والتشريعي معاً.

[4]ـ يس: 22.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى