ثقافة

علاقة السلام بين الأجيال

وكما في عصر واحد وفي جيل واحد يمكن أن تكون العلاقة بين طائفتين من الناس علاقة سلميّة أو علاقة صِداميّة… فإنّ من الممكن في ضوء ما تحدّثنا عنه قريباً أن تكون العلاقة بين جيلين من اُمّة واحدة واُسرة واحدة علاقة سلميّة فيها الحب والودّ وعرفان الجميل والوفاء والدفاع والانتصار، ويمكن أن تكون العلاقة علاقة صِداميّة فيها الحقد والبغض والتنكير والجحود والكفر والهجوم والتعريض.

ونحن نجد أنَّ هذين اللونين من العلاقة يقومان فعلا بين الأجيال من اُمّة واحدة، وقد تكون العلاقة بين الأجيال من أسرة حضارية واحدة على نهج ما يذكره القرآن الكريم:

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}[1].

… قائمة على أساس من العرفان بالجميل والوفاء والحب، وقد تكون العلاقة بين الأجيال من اُسرة حضاريّة واحدة كالتي يذكرها القرآن من علاقة أهل جهنّم:

{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}[2].

ومن أوضح وأهم أنماط الصِدام في العلاقة بين الأجيال; التنكُّر للمواريث الحضاريّة وتضييعها وإهدارها، كما أنّ من أبرز وأهم أشكال وصور العلاقة السلميّة بين الأجيال وإهدارها، كما أنّ من أبرز وأهم أشكال وصور العلاقة السلميّة بين الأجيال في الاُسرة الحضاريّة الواحدة; العرفان بالجميل، والمحافظة على المواريث الحضاريّة، وحمايتها والدفاع عنها وتسلّمها بإحسان، وأداؤها إلى الجيل الآخر بإحسان.

فالمواريث الحضارية هي حصيلة جهود اُمّة كاملة على امتداد التأريخ وليست حصيلة جهود فرديّة أو جهود اجتماعيّة في فترة من الزمان أو مقطع زمني محدود.

وكلّما تتعمّق الظواهر والقيم الحضاريّة في البعد الزماني كلّما تزداد أصالة ورسوخاً في وجدان الاُمّة، وهذه الأصالة والرسوخ تنفع في ثلاث نقاط:

1ـ تيسير الدعوة إليها.

2ـ تيسير الاستجابة لها.

3ـ صعوبة مقاومتها وتحدّيها من قبل الأعداء.

والقيم والظواهر التي تُكتَسَبُ بفضل الامتداد في عمق التأريخ هذه المزايا الثلاث ـ لا شكَّ تتمتّع بقيمة حضاريّة كبرى في حياة الاُمّة وتختلف في هذا القانون الظواهر الحضاريّة عن الوسائل الماديّة لهذه الظواهر.

فمثال الاُولى في حياتنا الاجتماعيّة: الصلاة والتقوى والعفاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتفقّه في الدين.

ومثال الثانية: المسجد والمدرسة والمنبر وما يتصل بذلك من الوسائل الماديّة للظواهر الحضاريّة في حياتنا.

والقانون الذي تحدّثنا عنه يجري في الظواهر الحضاريّة كما يجري في قيمة ودور الوسائل الماديّة للحضارة وتأصّلها ورسوخها في عمق وجدان الاُمّة.

فالصلاة ـ مثلا ـ كظاهرة عباديّة في حياة الاُمّة الإسلاميّة منذ أقدم العهود في تأريخ الحضارة الإلهيّة قد اكتسبت بفضل الإقامة المستمرّة والدعوة إليها أصالة ورسوخاً في عمق وجدان الاُمّة المسلمة.

وليس من شكّ في أنّ القيمة الفعليّة في حياة المسلمين، والالتزام الجاد بإقامة الصلاة في مواعيدها الخاصّة من قبل شعوب الاُمّة الإسلاميّة الكبيرة في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالا، والتنكُّر لتارك الصلاة، وبشاعة اهمال الصلاة وتركها لم يأت نتيجة الجهود الفرديّة والاجتماعيّة لأيّ مجموعة إسلاميّة في مقطع زمني محدود، ولا يمكن أن تشكّل الجهود الفرديّة والاجتماعيّة في أيّ مقطع زمني خاص مثل هذه الأصالة والرسوخ في عمق وجدان الاُمّة، ومثل هذه القيمة الكبرى التي تكتسبها الصلاة… وإنّما يعود الفضل في مثل هذه القيمة الاجتماعيّة للصلاة إلى الإقامة المستمرّة، والتبنّي والدعوة للصلاة على امتداد التأريخ الطويل لحياة الأمّة في عمق التأريخ.

ويصدق هذا الكلام بشكل دقيق على المساجد والمعابد… فإنّ القيمة الفعليّة للمساجد في حياة الاُمّة والاهتمام بها وبنائها والمحافظة عليها واحترامها والإنفاق عليها وانتشارها تعود إلى هذا المجهود الإنساني الكبير الذي تمّ على يد الأنبياء والمرسلين^ على عهود التأريخ.

وهذه الجهود الكبيرة التي تمتدّ إلى عمق تأريخ الإنسان في إقامة الصلاة وتشييد المساجد قد أنتجت مثل هذه القيمة الحضاريّة للصلاة وللمساجد في حياة الاُمّة، وأصّلت هذه الظاهرة الحضاريّة في وجدان الاُمّة.

وهذا هو الذي نقصده من (الميراث) بشكل دقيق، فإنّ الصلاة والمساجد مواريث حضاريّة نرثها نحن من أسلافنا لنسلمها إلى أبنائنا، وتنتقل هذه المواريث عبر الأجيال جيلا بعد جيل، وكلّما تجتاز جيلا تزداد أصالة وعمقاً في وجدان الاُمّة.

وهذه المواريث هي من صنع وإنجاز السلف، وأمانة مودعة في أيدينا لتسليمها إلى الجيل الذي يلي جيلنا.

وتضييع هذه المواريث والقيم الإنسانية التي تكوّنت خلال التأريخ، أو حفظها ورعايتها والعناية بها والدفاع عنها وتحصينها لتسليمها إلى الجيل القابل… هو على نحو دقيق يشكّل العلاقة بين أيِّ جيل والأجيال السابقة عليه سلماً أو حرباً.

فالمحافظة على الصلاة، وإقامتها في أوقاتها، والدعوة إليها، والاهتمام بأمر المساجد، وحضور صلوات الجماعة في المساجد; هي من احترام المواريث والقيم الحضاريّة والدفاع عنها والمحافظة عليها، وبالعكس فإنّ تضييع الصلاة وإهمالها، ومقاطعة صلوات الجماعة، وعدم إعمار المساجد; تضييع للمواريث والقيم الحضاريّة.

واحترام هذه المواريث في الحقيقة احترام للأجيال التي أنشأتها، وتضييعها تضييع للجهود الضخمة التي ساهمت في إنشائها وتكوينها خلال هذه الحقب الطويلة من الزمان.

إنّ النوع الأول من التعامل مع الصلاة يشكّل أساسا للعلاقة السلميّة القائمة على الاحترام وعرفان الجميل والوفاء والدفاع للأجيال المتقدّمة علينا.

والنوع الثاني من التعامل مع الصلاة يشكّل أساساً للعلاقة الصِداميّة مع الأجيال المتقدّمة علينا قائمة على التنكّر للسلف، وعدم الوفاء لها، ومحاربة مواريثها، ومصادرة جهودها، وتضييع جهدها وعملها.

ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة مريم لنرى كيف يرسم القرآن الكريم صورة القطيعة بين الجيل الكافر والمتنكّر لسلفه وبين السلف الصالح المؤمن الذي سبق هذا الجيل… فيرسم أولا لوحة كاملة عن مسيرة الاُمّة الصالحة المحسنة التي أقامت الصلاة على وجه الأرض، ودعت إلى الله تعالى، وأصلحت، وأنابت إلى الله… وهي مسيرة السلف.

ثم يرسم لوحة اُخرى إلى جنب هذه اللَّوحة عن الخلف الذي خلف هذا السلف على وجه الأرض من بعده، كيف أضاع الصلاة واتّبع الشهوات، وقطع الصِلات بينه وبين سلفه وتنكّر له:

والآن لنقرأ جملا من هذه الآيات المباركات:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}[3].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا}[4].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[5].

هذه اللوحة الاُولى من مسيرة السلف الصالح دعوة إلى الله تعالى، وإقامة للصلاة، وإخلاص، وصدق ووفاء بالوعد، وهدى وتضرّع، مسيرة كلّها نور وهدى.

ولنقرأ الآن اللوحة الثانية عن أبنائهم وخلفهم الذين جاءوا من بعدهم:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[6].

وهذه هي حالة قطيعة الرحم بين هذا الجيل من الاُمّة والأجيال السابقة عليه.

وبعكس ذلك حالة (السلم) مع السلف في الاقتداء بالسلف والمحافظة على رسالته وقيمها والدفاع عنها والوفاء له وعرفان الجميل له والارتباط به.

وهؤلاء هم (الخلفاء) للأنبياء بالمعنى الحقيقي والدقيق للكلمة.

وقد روي عن رسول الله “ص” أنه قال: «رحم الله خلفائي» فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يُحيون سنّتي ويعلِّمونها عبادَ الله»[7].

وروي أنّ رسول الله “ص” أمر برجم يهودي بحكم التوراة وقال: «أنا أحق من أحيا سنّة أماتوها»[8].

فاليهود أماتوا سنّة كليم الله موسى “ع” وقاطعوا سننه، فلمّا جاء رسول الله “ص” أحيا سنن الكليم “ع” ، ووصل ما كان قطعه اليهود من قبل.

والآن وبعد هذه الجولة من التأمّل في آيات الله، نستطيع أن نحدد نوع العلاقة التي تربط أيّ جيل من أجيال هذه الاُمّة بالأجيال السابقة عليها: (السلف).

فإنّ العلاقة تكون علاقة صِدام و(حرب) عندما تقوم على أساس تضييع التراث والقيم، ومصادرة الجهود، ورفض السلف والتنكّر لـه، ومقاطعته والانفصال عنه، والخروج عن خطّه وطريقته، وهدم ما بناه، والاستخفاف به وبجهوده وأعماله وتأريخه والقيم التي أقامها في حياة الإنسان خلال هذه المراحل من التأريخ.

وتكون العلاقة علاقة (سلام) عندما يكون موقف الجيل من الأجيال السابقة علاقة احترام ومحافظة على المواريث الحضاريّة، واهتمام بإيصال هذه المواريث إلى الجيل الذي يليه، والوفاء وعرفان الجميل، والاقتداء والاهتداء، والتأسّي والتذكّر، والدعاء والدفاع والانتصار، والحب والود، وغير ذلك من مظاهر (صلة الرحم) بين الأجيال المتعددة من الاُسرة الواحدة.

والسلام على الأنبياء والمرسلين وعلى الصالحين من عباد الله وعلى الأئمّة الهداة من السلف الصالح في القرآن الكريم وفي الحديث والنصوص الإسلامية وفي الصلاة يعني جميع هذه النقاط التي أشرنا إليها الآن، التي تشكّل العمود الفقري للعلاقة بين الأجيال المتتابعة من هذه الاُمّة المسلمة.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ الحشر: 10.
  • [2] ـ الأعراف: 38.
  • [3] ـ مريم: 41.
  • [4] ـ مريم: 51.
  • [5] ـ مريم: 54 ـ 58.
  • [6] ـ مريم: 59.
  • [7] ـ بحار الأنوار ج2 ص52، ومنية المريد في آداب المفيد والمستفيد.
  • [8] ـ اُصول السرخسي ج2 ص100.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى