ثقافة

دوائر السلام في البعد الثاني من شبكة الولاء

السلام في دائرة العلاقات العامّة

السلام في دائرة العلاقات الاجتماعيّة العامّة في وسط الاُمّة الإسلاميّة ذو طبيعة متميّزة وواضحة.

ولكي نعرف موضع السلام في المجتمع الإسلامي والاُمّة لابدّ أن نرسم صورة لطبيعة العلاقة في شبكة العلاقات الاجتماعيّة داخل الاُمّة واُسس ومقوّمات هذه العلاقة التي تربط أعضاء هذه الاُسرة الواحدة ببعض.

وهذه العلاقة هي علاقة (الولاء)، و (الولاء) قانون متكامل للعلاقة الاجتماعيّة في الإسلام له اُصوله واُسسه وقوانينه وتفريعاته.

والحديث عن (الولاء) لا تستوعيه هذه المقالة، ولكن لابدّ من الإشارة إلى طبيعة هذه العلاقة (الولاء) التي يجعلها الإسلام أساساً لارتباط المؤمنين بعضهم ببعض، ويشدّ به أطراف وأجزاء وأعضاء هذه الاُمّة الواحدة ببعض، ويعتمده الإسلام أساساً لتنظيم العلاقات داخل هذه الشبكة الاجتماعيّة الواسعة.

ولا شكّ في أنّ هذا القانون متميّز ليس لـه نظير، فيما نعرف من القوانين والاُصول والنظريّات الاجتماعيّة في المذاهب المعروفة في تنظيم العلاقات داخل المجتمع.

وقد ذكرنا في بداية هذه المقالة أنّ (الولاء) قانون شامل للعلاقات في الإسلام يربط الإنسان المسلم بالله تعالى ورسله وأئمّة المسلمين وبنفسه وبالأشياء من جانب وهذا هو البعد الأول للولاء.

ويربط الإنسان المسلم بالاُمّة الإسلاميّة ومعارفه وأصدقائه وقومه واُسرته من جانب آخر، وهذا هو البعد الثاني للواء.

ويربط الإنسان المسلم بتأريخه وسلفه من الصالحين في أعماق التأريخ، وهذا هو البعد الثالث للولاء.

والأساس في وجود الأبعاد جميعا هو العلاقة بالله تعالى فهي أساس علاقة الإنسان بأنبياء الله وأئمّة المسلمين، وطاعتهم من طاعته تعالى، وحبّهم من حبّه تعالى، وهي أساس علاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم وحبّه ومودَته له.

ويربط الإنسان المسلم بتأريخه وسلفه من الصالحين في أعماق التأريخ وهذا هو البعد الثالث للولاء.

والأساس في وجود الأبعاد جميعاً هو العلاقة بالله تعالى فهي أساس علاقة الإنسان بأنبياء الله وأئمّة المسلمين، وطاعتهم من طاعته تعالى، وحبّهم من حبّة تعالى، وهي أساس علاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم وحبّه ومودّته له.

ويربط الإنسان المسلم بتأريخه وسلفه من الصالحين في أعماق التأريخ، وهذا هو البعد الثالث للولاء.

والأساس في وجود الأبعاد جميعاً هو العلاقة بالله تعالى فهي أساس علاقة الإنسان بأنبياء الله وأئمّة المسلمين، وطاعتهم من طاعته تعالى، وحبّهم من حبّه تعالى، وهي أساس علاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم وحبّه ومودّته له.

وقد وردت في كلمات الإمام أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «المحبّة لله أقرب نسب»[1].

و «المحبّة في الله آكد من وشيج الرحم»[2].

فالعلاقة بين المسلم والمسلم نسب، وهذا النسب يقوم على أساس من الحبّ لله تعالى وفي الله، والعلاقة بين المسلم والمسلم وشيجة من وشائج الرحم، وهذه الوشيجة قائمة على أساس الحبِّ في الله.

فعن رسول الله “ص” أنه قال: «أوثق عرى الإسلام أن تحبَّ في الله وتبغض في الله»[3].

كما أنّ حرمة المؤمن من حرمة الله تعالى، فقد ورد في الحديث القدسي ما نصّه: «من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي»[4].

وورد أيضاً في الحديث القدسي: «ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن»[5].

كما أنّ العلاقة بالسلف الصالح والأعماق الحضاريّة لهذه الأمّة المسلمة أيضاً من العلاقة بالله تعالى، وحبّنا لهم وارتباطنا بهم من الارتباط بالله تعالى والحب له.

فالولاء إذن يشكّل التبلور الواقعي والتجسيد الحيِّ للتوحيد في حياة الإنسان المسلم وعلاقته بالقيادة والاُمّة والتأريخ.

والأمّة المسلمة تشكّل في إطار هذه العلاقة والوشيجة كتلة واحدة مترابطة ومتماسكة ووحدة حضاريّة وإنسانيّة.

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[6].

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[7].

والأمّة المسلمة بعضها من بعض ليس فيها غريب ولا أجنبي وإنّما هي أجزاء متجانسة من جنس واحد، وسنخ واحد ومتماسكة يشدّ بعضها بعضاً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[8].

وفي قبال هذه الوحدة الإيمانيّة هناك تجانس في صفوف الكفر أيضاً، فإنّ الكافرين كذلك بعضهم من بعض وبعضهم يوالي بعضاً: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[9].

وهذه الكتلة الايمانيّة الواحدة المتجانسة والمتماسكة تشبه البنيان المرصوص المتماسك الذي يمسك بعضه بعضاً ويشدُّ بعضه بعضاً.

فقد روي عن رسول الله “ص” أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً»[10].

وأبلغ من هذا التشبيه في وصف وحدة وتماسك وتضامن أعضاء وأجزاء هذه الاُمّة الواحدة تشبيه الاُمّة بالجسد الواحد.

روي عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده»[11].

وعن الإمام الباقر “ع” أنه قال: «المؤمنون في تبارِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمّى»[12].

وأيضاً عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «لا والله لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون لأخيه مثل الجسد، إذا ضرب عرق واحد تداعت له سائر عروقه»

إنّ بناء الاُمّة الإسلاميّة وتركيبها والاُصول والمقوّمات المنظورة في تركيب وبناء هذه الأمّة يمثّل ما في أعضاء جسد الإنسان وأجزائه من التضامن والترابط والتماسك والوحدة.

وقد وردت في النصوص الإسلاميّة تعابير دقيقة ومعبِّرة عن هذه الوحدة والتضامن والمشاركة الوجدانيّة ووحدة المشاعر في جسم الاُمّة الإسلامية تشكّل فهماً جديداً ونظريّة جديدة في علاقة الإنسان بالإنسان داخل الاُمّة الواحدة.

ونذكر نماذج من هذه النصوص: عن معلَّى بن خنيس عن أبى عبد الله الصادق “ع” قال: قلت له: ماحقُّ المسلم على المسلم؟ قال “ع” : «له سبع حقوق واجبات ما منهنّ إلاّ وهو عليه واجب، إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب… أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك» ـ وبعد أن يعدَّ هذه الحقوق السبعة ـ يقول “ع” : «فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك»[13].

فمن دون أداء هذه الحقوق لا تتصل ولاية مؤمن بمؤمن، والولاية لا تتحقق بين المؤمنين بالعواطف والأماني فقط وإنّما تتصل الولاية فيما بينهم بأداء الحقوق واحترام الحرمات بالعواطف وأن يحبّ الإنسان المسلم لأخيه ويكره لـه ما يحب لنفسه ويكره، ويجسّد كل ذلك في فعله وعمله… وإذا انقطعت هذه الولاية فيما بين المؤمنين فإنّ حبل الولاية فيما بينهم وبين الله تعالى ينقطع أيضاً ولا يبقى من ولايتهم لله شيءٌ.

والتعبير في الرواية رهيب: «إن ضيَّع منها (من الحقوق) شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه (في ولايته) من نصيب».

فولاية المؤمنين فيما بينهم من الولاية لله تعالى، والإخلال بتلك إخلال بهذه، وولاية المؤمنين فيما بينهم ليست من قبيل العواطف والتمنّيات فقط وإنّما هي حقوق ومسؤوليّات ثقيلة على عواتقهم جميعاً ايضاً.

إنّه منك وأنت منه

والمسلمون بعضهم من بعض كتلة واحدة وجسم واحد ليس فيهم جزء غريب.

ولنتأمّل في النصوص التالية الواردة عن الإمام الباقر “ع” فهو يقول: «أحبب أخاك المسلم واحبب لـه ماتحب لنفسك واكره لـه ما تكره لنفسك، إذا احتجت فسله، وإذا سألك فأعطه، ولا تدَّخر عنه خيراً فإنّه لا يدَّخره عنك، كن لـه ظهراً فإنه لك ظهر، وإن غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فزره، وأجلَّه وأكرمه فإنه منك وأنت منه، وإن كان عليك عاتباً فلا تفارقه حتى تسلَّ سخيمته وما في نفسه، وإذا أصابه خير فاحمد الله عليه، وإن ابتلي فاعضده وتمحَّل له»[14].

وعن محمد بن مسلم قال: أتاني رجل من أهل الجبل فدخلت معه على أبي عبد الله “ع” فقال له عند الوداع: أوصني، فقال: «اُوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم وأحبّ لـه ما تحب لنفسك واكره لـه ما تكره لنفسك، وإن سألك فأعطه، وإن كفّ عنك فاعرض عليه، لا تملّه خيراً فإنّه لا يملّك، وكن له عضداً فإنه لك عضد، وان وجد عليك فلا تفارقه حتى تسلَّ سخيمته، وان غاب فاحفظه في غيبته، وان شهد فاكنفه واعضده ووازره ولاطفه وأكرمه فانه منك وأنت منه»[15].

والعلاقة بهذه الصيغة «فإنه منك وأنت منه» أمتن وأقوى ما نعرف من أنواع العلاقات فيما بين الناس.

فالولاء إذن صيغة متميّزة وفذَّة من العلاقات فيما بين المؤمنين داخل هذه الاُمّة يجعل بعضهم من بعض ويشكّل منهم جميعاً وحدة متماسكة ومترابطة ومتضامنة يعمّها شعور واحد واحساس واحد، وهذه الصيغة هي أساس علاقة الإنسان المسلم بالمسلم داخل هذه الاُمّة المسلمة.

أُسس الولاء:

وللولاء في هذا البعد ثلاثة أُسس:

الأساس الأول: هو الأساس العاطفي.

الأساس الثاني: المسؤوليّة الاجتماعيّة.

الأساس الثالث: الحصانة والحرمة.

وإليك إيضاحات سريعة لهذه الأسس الثلاثة التي تقوِّم علاقة الولاء في المجتمع الإسلامي:

(أوَّلا) ـ الأساس العاطفي

للعاطفة والمشاعر الإنسانية دور كبير في بناء المجتمع الإسلامي، فمن وراء كل الحقوق والمسؤوليّات الواجبة على المسلمين فيما بينهم هناك عمق للعاطفة وتأثير في نفس الإنسان، ومن دون هذا العمق العاطفي وهذا التأثير لا تستطيع تلك الحقوق والواجبات والمسؤوليّات المتبادلة فيما بين المسلمين أن تقوِّم هذا النسيج الاجتماعي العجيب الذي يسميّه القرآن بـ(الولاء).

1ـ انتزاع الغلّ من القلوب

وأول معلم من معالم هذا العمق العاطفي والنفسي للولاء أن ينتزع الإنسان من نفسه كل غلّ وحقد وكراهيّة للمؤمنين: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا}[16].

ولا يدخل الله تعالى أحداً في الجنّة إلاّ بعد أن ينتزع الغلّ من قلبه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ}[17].

ولا يدخل المؤمن الجنّة حتى يخلص قلبه من كل حقد وغلٍّ على المؤمنين، وقد يحبس الإنسان من الجنّة وهو يستحقها لما كان في قلبه في هذه الدنيا من الغل والحقد على المؤمنين دهراً طويلا من الزمان.

روي عن رسول الله “ص” أنه قال: «إنّ العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعَّمن»[18].

وروي عن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «ولقد سمعت رسول الله “ص” يقول: شرار الناس من يبغض المؤمنين وتبغضه قلوبهم»[19].

وروي عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «لا يقبل الله من مؤمن عملا وهو مضمر على أخيه سوءاً»[20].

2ـ الحبّ والمودّة

ومن هذه العاطفة حبّ المؤمنين ومودّتهم وهو أمر أساسي في توثيق العلاقة بين المؤمنين وتأليف قلوبهم وتكوين كتلة واحدة متضامنة منهم.

وفي القرآن الكريم يمدح الله تعالى الأنصار بحبّهم للمهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم فيقول: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا}[21].

وهذا الحب إذا كان لله تعالى فهو من العبادة لله تعالى.

روي عن الإمام الصادق “ع” عن رسول الله “ص” أنه قال: «النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّوجل عبادة»[22].

وروي الإمام الباقر “ع” عن رسول الله “ص” أنه قال: «ألا إنّ ودّ المؤمن من أعظم سبب (أسباب) الإيمان، ألا ومن أحبَّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله عزّوجل فهو من أصفياء الله المؤمنين عند الله تبارك وتعالى، ألا وإنّ المؤمنَينِ إذا تحابّا في الله عزّوجل وتصافيا في الله كانا كالجسد إذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخر ألم ذلك الموضع»[23].

وروي في عدّة الداعي عنهم “ع” أنهم قالوا: «لا يكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يحب أخاه المؤمن»[24].

وروي عبد المؤمن الأنصاري قال: دخلت على الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر وعنده محمد بن عبد الله بن محمد الجعفري (الجعفي) فتبسّمت إليه، فقال: «أتحبّه؟» قلت: نعم وما أحببته إلاّ لكم، قال: «هو أخوك والمؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمّة»[25].

وعن رسول الله “ص” أنه قال: «لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابّوا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»[26].

3ـ الاُلفـة

والمؤمنون بعضهم يألف بعضاً وبعضهم يستريح إلى بعض ويركن إليه، فهم اُسرة واحدة وبعضهم من بعض، وهذه الاُلفة مما يمنح الله تعالى القلوب المتنافرة فيجعلها مؤتلفة وممتزجة: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[27].

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[28].

ولو أنّ الناس ينفقون كما يقول تعالى: «ما في الأرض جميعا» لن يحققوا هذه الاُلفة التي تجمع شمل المسلمين وتجعل منهم اُسرة واحدة يألف بعضهم بعضاً ويستريح بعضهم إلى بعض ويركن ناس منهم إلى آخرين.

وإنّ هذه الألفة لون من سكون النفس إلى النفس وركون النفس إلى النفس لما تجد فيها من انسجام معها وحاجة إليها.

عن الإمام الصادق “ع” عن آبائه^عن رسول الله “ص” أنه قال: «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد»[29].

وعن رسول الله “ص” أنه قال: «خياركم أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون»[30].

فالمؤمن يألف الآخرين ويألفه الآخرون.

إنّ في النفس المؤمنة نوعاً من الجاذبيّة الخفية التي لا يُعرف كنهها تجذب الآخرين وتنجذب إليهم، تألفهم وتأتلفهم:

عن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «طوبى لمن يألف الناس ويألفونه على طاعة الله»[31].

والملفت أنّ المؤمنين يلتقون فيما يلتقي الناس بعضهم ببعض من أقطار بعيدة ومن اُصول قوميّة وعرقيّة مختلفة من دون معرفة سابقة فيجد كل منهم في نفسه ما يجذبه إلى الآخرين وما يجذب الآخرين إليه، وما يبعثه على الركون والسكون إلى الآخرين، وركون الآخرين وسكونهم إليه.

وسرعان ما يجد نفسه في جوٍّ أليف يمتزج به امتزاجاً كاملا وترتفع من بينه وبينهم حواجز الغربة فيجد نفسه بين أهله وذويه.

روى حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله الصادق “ع” : إنّي لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه ذلك فاُحبّه حبّاً شديداً، فإذا كلَّمته وجدته لي مثل ما أنا عليه لـه، ويخبرني أنه يجد لي مثل الذي أجد له، فقال “ع” : «صدقت يا سدير، إنّ ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر السماء على مياه الأنهار، وإنّ بعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإن أظهروا التودُّد بألسنتهم كبعد البهائم عن التعاطف وإن طال اعتلافها على مذود واحد»[32].

وعن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «لكل شيء شيءٌ يستريح إليه، وإنّ المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله»[33].

4ـ الرحـمة

وقلب المؤمن ليِّن يرقُّ لما يصيب المؤمنين من ابتلاء وعسر وشدَّة وضيق، ويعطف عليهم.

يقول تعالى في صفة المؤمنين الذين صاحبوا رسول الله “ص”: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[34].

ويحسّ المؤمن بما يصيب أخاه من عسر وشدّة كما لو كان قد أصابه.

ولعل أبلغ تعبير في ذلك هو تعبير رسول الله “ص” حيث قال: «…إذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخر ألم ذلك الموضع»[35].

وروي عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وكونوا بررة كما أمركم الله»[36].

وعن شعيب العقرقوفي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق “ع” يقول لأصحابه: «إتّقوا الله وكونوا إخوة بررة متحابِّين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه»[37].

وعن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «أشعر قلبك الرحمة لجميع الناس والإحسان إليهم»[38].

وقد ورد في الروايات أنه لا يدخل الجنّة إلاّ من كان في قلبه الرحمة تجاه المؤمنين.

وعن رسول الله “ص” أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يدخل الجنّة إلاّ الرحيم»[39].

المؤسسات البديلة عن العاطفة في الدول الحديثة

إنّ المجتمعات الجاهليّة المعاصرة تشعر بضرورة التعاطف والتواصل والتراحم والتعاون في المجتمع ليستمر المجتمع في حركته… ومن دون هذه الخصلة لا يستطيع المجتمع ـ أيّ مجتمع ـ أن يواصل عمله في تحقيق الحياة الاجتماعيّة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بمعزل عن إمداد الآخرين ومشاركتهم وتعاونهم، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بمعزل عن الارتباط بالآخرين… وهذا أمر لابدَّ منه في أيِّ مجتمع مهما كانت صفة ذلك المجتمع… وهذا ما يشعر به الإنسان المعاصر في المجتمعات الجاهليّة الحديثة، بيد أنّ المجتمعات الجاهليّة الحديثة تعمل على تحقيق هذه الضرورات الاجتماعيّة التي تحدّثنا عنها ضمن أجهزة الدولة وبصورة مقننة وعلى شكل مسؤوليّة الدولة في امداد ودعم المواطن وتوفير فرص المعيشة والتعليم والصحّة والترفيه والتأمين لـه ـ بالقدر الممكن ـ ومساعدته في مواجهة ابتلاءات الحياة من المرض والفقر والبطالة والحوادث غير السارَّة التي تصيب هذا الإنسان أو ذاك في حياته عادة.

كل هذه الاُمور مما تعمل المجتمعات الجاهليّة الحديثة على تقنينها وتحميل الدولة مسؤوليّة القيام بها وتوفيرها للمواطن… على الصعيد النظري على الأقل، وإنّما نقول على الصعيد النظري لأنّ الكثير من الأنظمة لا تقوم إلاّ بجزء قليل من هذه المسؤوليّات… وأما على الصعيد النظري فهي مسؤولة عن كل شؤون المواطن… ولكن من دون أن تستتبع هذه المسؤوليّة أيّ احساس وأيّة عاطفة في نفوس المواطنين.

إنّ المجتمعات الجاهليّة تقطع هذه الضرورات والمسؤوليّات عن جذورها العاطفيّة في أعماق نفوس الناس وتقتصر على توفير تلك الحاجات وتحقيق تلك الضرورات عن طريق الدولة وعلى الصعيد النظري على الأقل، وكأنَّ ربَّ الخلقة والتكوين الذي خلق الناس والمجتمع لم يتمكَّن من إكمال كل متطلّبات الإنسان الماديّة وحمايته من الابتلاءات، فوجب على الدولة أن تسدَّ النقص الموجود في عمل الخلقة والتكوين… وذلك يتمُّ بتعهُّد الدولة بالقيام بضرورات حياة الإنسان وحمايته من متاعب الحياة.

وبهذه الصورة تنطمر العاطفة الإنسانية، وتنسلخ هذه الحاجات والضرورات عن اُصولها العاطفيّة في نفس الإنسان، وتموت العاطفة وتحلُّ الدولة ومؤسساتها محل العواطف النابعة من النفس.

أما الإسلام فيطرح القضيّة بشكل آخر ويعالجها بطريق آخر فلم يسمح الله لهذه الابتلاءات والمتاعب بالظهور في حياة الإنسان لعجز في عمل الخلقة والتكوين، وإنّما لكي تكون هذه الابتلاءات ونقاط الضعف والحاجات في حياة الناس سبباً لإثارة وتفجير معين العاطفة في نفوس الناس، ولا تكتمل شخصيّة الإنسان ولا تستكمل كل مقوّمات كمالها ونضجها دون أن تتفجّر العاطفة في نفس الإنسان، وتفيض وترقّ نفس الإنسان وتزول هذه الغلظة التي يكتسبها الإنسان من المواجهة والمنافسة في المجتمع بما يشعر الإنسان تجاه الآخرين من الرحمة والرقّة.

إنّ الإسلام يحمّل الدولة شطراً كبيراً من هذه المسؤوليّات ليس على الصعيد النظري فقط، وإنّما على الصعيد العملي وبصورة مقنَّنة، ولكن من دون أن يعطّل دور النفس والعاطفة في حياة الإنسان، ومن دون أن يطمر هذا المعين الفيّاض في نفس الإنسان، فيعمل على إثارة العاطفة وتفجير منابع الخير والرحمة والحب في نفس الإنسان، واتخاذ الابلاءات التي تواجه الناس في حياتهم وسيلة لترقيق النفس وتفجير العاطفة وإثارة الرحمة في نفس الإنسان وتكميل شخصيّة الإنسان بهذه الصورة.

(ثانياً) ـ المسؤوليّة الاجتماعيّة

مبدأ المسؤوليّة والأساس الذي يقوم عليه هذا الأصل المهم في الإسلام هو وحدة الاُمّة وإنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالسهر والحمّى.

وأفراد هذه الاُمّة أعضاء في أسرة واحدة يشملهم ما يشمل أعضاء الاُسرة الواحدة من التضامن والتعاون والتعاطف.

عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين أنه قال للزهري: «يا زهري وما عليك أن تجعل المسلمين بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك… وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك»[40].

وهذا التصوّر الوجداني للاُمّة يتطلّب أن يقوم المجتمع على أساس الإحساس بالمسؤوليّة والتضامن والتكافل والتعاون…

فالمجتمع في هذا التصوّر كل مترابط ومتماسك ومتضامن، وكل عضو في هذه الاُمّة يتحمّل مسؤوليّة الآخرين كما يتحمّل مسؤوليّة نفسه وحاجاته.

والإنسان المسلم لا يواجه عقبات العمل والحياة ومسؤوليّاتهما لوحده وإنّما يتحمّل معه هذه المسؤوليّة كلُّ المسلمين، فكل مسلم مسؤول عن كل مسلم، وكل مسلم يستحق على كل مسلم أن يدعمه ويغيثه ويضع يده في يده، ويحمل معه همومه ومسؤوليّاته.

فالحقوق والمسؤوليّات متكافئة في المجتمع الإسلامي، وكل عضو في هذه الاُمّة يستحق العون من الآخرين فيما يواجهه من سؤوليّات وابتلاءات وهموم، ويتحمّل مسؤوليّة الآخرين بنفس الدرجة.

ومن يراجع النصوص الإسلاميّة في هذا الباب يجد أن مسألة الحقوق والمسؤوليّات من أبرز المسائل في بناء الأمّة وتركيبها وتقويمها.

الأساس العاطفي للمسؤوليّة

ورأينا فيما سبق أنّ المسؤوليّة في المجتمع الإسلامي تقوم على أساس من الإحساس بالتكليف الشرعي والعاطفة، بينما تتجه المجتمعات الحديثة إلى تقنين المسؤوليّة وتحميلها على الدولة وتفريغها من كل محتواها النفسي، وتجريد الإنسان من الإحساس بالمسؤوليّة، ونجد في بعض المجتمعات الغربيّة ظاهرة غريبة تكشف عن عقم الفكر المادّي في معالجة قضايا الإنسان… حيث تلجأ هذه المجتمعات في النكبات التي تصيب المجتمع إلى تجميع التبرّعات عن طريق إقامة سهرات غنائيّة يخصص ريعها لإنقاذ المنكوبين.

وهذه الظاهرة تكشف عن نضوب العاطفة الإنسانيّة عند الإنسان في هذه المجتمعات فتلجأ إلى مثل هذه الأساليب الملتوية لإنقاذ المنكوبين.

أمّا الإسلام فيعطي للعاطفة ـ كما شرحنا ـ دوراً أساسيّاً في بناء المجتمعات ويضع المسؤوليّة على هذا الأساس ويعتبر الإحساس بالمسؤوليّة في الفرد المسلم علامة الصحّة، وفقدان هذا الإحساس حالة مرضيّة في المجتمع.

المسؤوليّة العامّة

وبخلاف المجتمعات الجاهليّة التي تتولّى الدولة كل عبء المسؤوليّة الاجتماعيّة فيها… يعمِّم الإسلام المسؤوليّة على الجميع فتحمل الدولة قسطاً وافراً من هذه المسؤوليّة ضمن أجهزتها، ويحمل الأفراد كل فرد فرد نصيبا من هذه المسؤوليّة.

وقيام الدولة في الإسلام بمسؤوليّاتها تجاه الاُمّة لا يرفع عبء المسؤوليّة عن عاتق الأفراد.

روي عن رسول الله “ص” أنه قال: «كُلُّكم راع وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته»[41].

وروي عن رسول الله “ص” أنه قال: «من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»[42].

فالمسؤوليّة لا ترتفع بحال عن أيِّ مسلم قادر على إغاثة مسلم وإمداده ودعمه إذا كان بحاجة إليه، ولو استغاث رجل المسلمين في نازلة نزلت به; عمّت المسؤوليّة جميع المسلمين، فمن سمع نداءه واستغاثته واستنصاره ولم يغثه فليس بمسلم.

وهذه حالة فريدة من الإحساس بالمسؤوليّة العامة والشاملة تجاه كل الاُمّة يعبَّر عنها في اُصول الفقه بالواجبات الكفائيّة، وهي الواجبات التي تعمّ المسلمين جميعاً، ولا تسقط عن ذمّة المسلمين جميعاً ما لم يقم بها أحد المسلمين.

روي عن رسول الله “ص” أنه قال: «من أصبح لا يهتمُّ باُمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»[43].

فالاهتمام باُمور المسلمين واجب على كل مسلم دون تخصيص بمنصب وموقع اجتماعي خاص.

والمسؤوليّة الحقيقيّة بين يدي الله تعالى، والمسلمون مسؤولون عن بعض أمام الله تعالى، وعندما تكون المسؤوليّة أمام الله تعالى تكتسب المسؤوليّة قيمة عباديّة.

وقد ورد في الحديث: «ما عُبِد الله بشيء افضل من أداء حق المؤمن»[44].

فالمسؤوليّات الإلزاميّة في الإسلام واجبات شخصيّة.

وقد ورد في الحديث: «إنّ الله عزّوجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء حقوقاً لا يحمدون إلاّ بأدائها… بها تحقن دماؤهم»[45].

وربط الإسلام هذه المسؤوليّات والقيام بحقوق المؤمن بولاية الله تعالى ورسوله وبالإيمان بالله ورسوله، والإخلال بشيء من حقوق المؤمنين إخلالٌ بالولاية لله تعالى ورسوله وإخلال بالإيمان والإسلام، والنصوص الإسلاميّة بهذا المعنى متضافرة وكثيرة سبق أن قد ذكرنا جملة منها.

ومن ذلك ما روي عنه “ص” أنه قال: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع»[46].

وهذه النصوص تربط ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بولايتهم لله تعالى ورسوله، وتؤكِّد وحدة نسيج الولاية وأنّ بعض هذه الولاية لا ينفصل عن بعض.

سعة المسؤوليّة وشموليّتها

وهذه المسؤوليّات والحقوق كثيرة ومتنوّعة وتشتمل على كافة شؤون الإنسان وحاجاته الماديّة والمعنويّة، ونظرة في عدّة من نصوص هذا الباب تكفي لتكوين فكرة عن سعة وشموليّة الحقوق والمسؤوليّات في الإسلام.

وإليك جملة من هذه النصوص:

1ـ عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت علي بن الحسين قلت: يا ابن رسول الله ما حق المؤمن على أخيه المؤمن؟ قال:

«يفرح لفرحه إذا فرح، ويحزن لحزنه إذا حزن، وينفذ اُموره كلّها فيحصلها، ولا يغتمّ لشيء من حطام الدنيا الفانيّة إلاّ واساهُ، حتى يجريان في الخير والشرِّ في قرن واحد».

قلت: يا سيّدي فكيف أوجب الله كل هذا للمؤمن على أخيه المؤمن؟ قال: «لأنّ المؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمّه»[47].

2ـ وعن الإمام الصادق “ع” عن رسول الله “ص” أنه قال: «للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عزّوجل: الإجلال لـه في عينه، والودُّ له في صدره، والمواساة لـه في ماله، وأن يحرِّم غيبته، وان يعوده في مرضه، وأن يُشيِّع جنازته، وأن لا يقول فيه بعد موته إلاّ خيراً»[48].

3ـ عن الإمام علي “ع” أنه قال: «قال رسول الله “ص”: للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو…»[49].

4ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «حق المسلم على المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروي ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم».

وقال “ع”: «أحب لأخيك المسلم ما تحبُّ لنفسك، وإذا احتجت فسله، وإن سألك فأعطه، لا تملّه خيراً، ولا يملّه لك، كن لـه ظهراً فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته، وإذا شهد فزره، وأجلّه وأكرمه فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتباً فلا تفارقه حتى تسلَّ سخيمته، وإن أصابه خير فاحمد الله، وإن ابتلي فاعضده، وإن تمحّل لـه فأعنه، وإذا قال الرجل لأخيه اُفٍّ، إنقطع ما بينهما من الولاية، وإذا قال: أنت عدوّي، كفر أحدهما، فإذا اتّهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء»[50].

5ـ وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحق على المسلمين الاجتهاد والتواصل والتعاون والتعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عزّوجل: رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله “ص”»[51].

6ـ وورد في نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «إتّقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»[52].

فالمسؤوليّة في الإسلام لأبعد من ذلك، والله تعالى يسألنا حتى عن البقاع والبهائم.

(ثالثاً) ـ حصانة المسلم وحرمته

يتمتّع الإنسان المسلم في الإسلام بحصانة عزيزة وقويّة في ماله ودمه وعرضه، ولا يحقّ لأيِّ إنسان أن ينال من حرمة مسلم نيلا إلاّ بحق، ويعمل الإسلام على إشعار الإنسان المسلم بالأمن في المجتمع الإسلامي على دمه وماله وعرضه، ويعاقب أشدّ المعاقبة اُولئك الذين يعتدون على حرمة المسلمين ويسلبون أمنهم.

وهذه الحصانة والحرمة التي يمنحها الإسلام للإنسان المسلم حصانة نادرة وعزيزة، ولا نكاد نجد للإنسان حرمة وحصانة في أيّة حضارة من الحضارات كالتي نعهدها في الإسلام.

وهذه الحصانة نابعة من القيمة العظيمة التي يعطيها الإسلام للإنسان المسلم.

حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة

حتى ورد في الروايات المتضافرة أنّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة:

قال عبد الله بن عمر: رأيت رسول الله “ص” يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبكِ وأطيب ريحك، ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وإن نظنّ بك خيراً»[53].

وروى المفيد في الاختصاص عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «والله إنّ المؤمن لأعظم حقاً من الكعبة»[54].

واستقبل أبو جعفر الباقر “ع” الكعبة وقال: «الحمد لله الذي كرّمك وشرَّفك وجعلك مثابة للناس وأمناً، واللهِ لحرمةُ المؤمن أعظم حرمة منك»[55].

حرمة المؤمن أعظم الحرمات

وجعل الإسلام حرمة المسلم أفضل الحرمات جميعاً.

يقول الإمام أميرالمؤمنين “ع” كما في نهج البلاغة: «إنّ الله حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالا غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده إلاّ بالحق ولا يحقّ أذى المسلم إلاّ بما يجب»[56].

فلله ـ إذن ـ كما يقول الإمام حرمات كثيرة في حياة الناس، ولكن أفضل هذه الحرمات وأعظمها هو (المؤمن).

وإذا كان الله تعالى يعاقب الناس على تجاوز حرماته وتخطِّي حدوده، ويطلب من الناس الالتزام بحدوده واحترام حرماته; فإنّ أعظم هذه الحرمات على الإطلاق هو المؤمن; يحرم التجاوز والاعتداء عليه وهتك حرمته، وقد ربط الله تعالى حرمات المسلمين وحدودهم بالتوحيد والإخلاص، فمن أخلَّ بتلك أخلّ بهذه، ومن أخلَّ بهذه خرج من ولاية الله تعالى.

وروي عن رسول الله “ص” أنه قال: «مثل المؤمن كمثل ملك مقرَّب، وإنّ المؤمن أعظم حرمة عند الله وأكرم عليه من ملك مقرَّب، وليس شيءٌ أحبّ إلى الله من مؤمن تائب ومؤمنة تائبة، وإن المؤمن يُعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده»[57].

وروي عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من نور عظمته وجلال كبريائه، فمن طعن على المؤمن أو ردَّ عليه فقد ردَّ على الله»[58].

هذا جانب من قيمة المؤمن والمسلم عند الله تعالى وما جعل الله تعالى لهما من حرمة.

وفيما يلي نستعرض شطراً من النصوص الإسلاميّة الواردة في حرمة المؤمن وتحريم انتهاك هذه الحرمة والحصانة التي جعلها الله تعالى للمؤمنين والمسلمين، وفيما يجب للاُمّة وللمسلمين من حرمة في الإسلام، وفيما يجب على الفرد المسلم أن يراعي من حرمات المسلمين في علاقته بالاُمّة وتعامله معها.

كل المسلم على المسلم حرام

كل فرد من المسلمين ذو حرمة عند الله تعالى، وقد جعل الله كل المسلم على المسلم حرام، ووردت في ذلك روايات متضافرة وكثيرة عن رسول الله “ص” وأهل بيته “ع” نذكر جملة منها فيما يلي: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذّبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه»[59].

وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن رسول الله “ص” أنه قال: «كل مسلم على مسلم محرَّم»[60].

وروى أحمد بن حنبل في المسند عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله “ص” يقول: «المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»[61].

وهذه الحرمة الشاملة تعمّ كل المسلمين وكل من يستقبل قبلة المسلمين ويصلّي صلاة المسلمين.

عن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال: «من استقبل قبلتنا وصلّى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فله مالنا وعليه ما علينا»[62].

وروى الراوندي عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه^ عن رسول الله “ص” أنه قال: «إنّ الله جعل الإسلام دينه وجعل كلمة الإخلاص حسناً (حصناً) له فمن استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا وأحلَّ ذبيحتنا فهو مسلم له مالنا وعليه ما علينا»[63].

فالحرمة العظيمة هذه تأتي بالإسلام فقط، فإذا دخل الإنسان في الإسلام دخل في هذا الحصن وتحصّن بهذه الحرمة وحصّن دمه وماله وعرضه، فلا يبيح الله تعالى دم مسلم ولا ماله ولا عرضه إلاّ بحق.

الإسلام يحقن الدم

وإذا أسلم الإنسان وشهد الشهادتين حقن الإسلام دمه وأصبحت لدمه حرمة لا يجوز أن ينتهكها أحد إلاّ بحقّه.

عن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «قال رسول الله “ص”: أُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد حرم عليَّ دماؤهم وأموالهم»[64].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله “ص”: «أُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله فإذا قالوا لا إله إلاّ الله عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله»[65].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «الإسلام يُحقن به الدم»[66].

وعنه “ع” أيضاً أنه قال: «شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله “ص” به حُقِنَتِ الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث»[67].

وعن رسول الله “ص” أنه قال: «من وحَّد الله وكفر بما يُعبَدُ من دونه حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله»[68].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أيضاً عن رسول الله “ص” أنه قال: «أيها الناس إنّي أمرت أن أقاتلكم حتى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنِّي محمد رسول الله، فإذا فعلتم ذلك حقنتم بها أموالكم ودماءكم إلاّ بحقِّها وكان حسابكم على الله»[69].

وروي الدارمي عن رسول الله “ص” أنه قال: «إنّي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها حرمت عليَّ دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله»[70].

وعن أبي سعيد الخدري قال: وجد قتيل على عهد رسول الله “ص” فخرج مغضباً حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يقتل رجل من المسلمين لا يُدرى من قتله، والذي نفسي بيده لو أنَّ أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مؤمن أو رضوا به لأَدخلهم الله في النار»[71].

ويروي مسلم بن الحجّاج في (الصحيح) روايتين عن رسول الله “ص” يكشف فيهما عن عظيم حرمة «لا إله إلاّ الله» وحرمة القائل بها ولو كان القائل بها قد تظاهر بها ليحمي نفسه من القتل، وأنَّ هذه الكلمة تعطي قائلها وحاملها من الحرمة ما لا يجوز لأحد انتهاكها إلاّ بحقه.

ويعجبني أن أنقل هاتين الروايتين من صحيح مسلم بن الحجّاج في هذا الجزء من الحديث:

روى مسلم أنّ رسول الله “ص” بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإنّ رجلا من المسلمين قصد غفلته، قال: وكنّا نحدَّث أنه اُسامة بن زيد، فلمّا رفع عليه السيف قال: لا إله إلاّ الله فقتله، فجاء البشير إلى النبيّ “ص” فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله فقال لِمَ قتلته؟ قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلاناً وفلاناً وسمّى لـه نفراً، وإنّي حملت عليه فلمّا رأى السيف قال: لا إله إلاّ الله، قال رسول الله “ص”: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلاّ الله إذا جاءت يوم القيامة، قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: وكيف تصنع بلا إله إلاّ الله إذا جاءت يوم القيامة، قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلاّ الله إذا جاءت يوم القيامة[72].

وروى مسلم أيضاً عن أسامة بن زيد أنه قال: «بعثنا رسول الله “ص” في سريّة فصبحنا الخرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلاّ الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي “ص” فقال رسول الله “ص”: أقال لا إله الاّ الله وقتلته! قال: قلت: يا رسول الله إنّما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنَّيت أنّي أسلمت يومئذ»[73].

ورغم أنّ القتيل كان مقاتلا يقاتل المسلمين في صفوف الكافرين حتى اللحظة الأخيرة، ونطق بكلمة التوحيد فقط في اللحظة الأخيرة عندما وجد برق السيف على رأسه واضحاً من كل القرائن أن الرجل شهد بلا إله إلاّ الله خوفاً من القتل وليس عن إيمان، كما قال اُسامة بن زيد… إلاّ أن رسول الله “ص” غضب غضباً ظاهراً وأنكر على اُسامة بشدّة وقوّة، وكرَّر إنكاره على اُسامة حتى تمنّى اُسامة أن يكون قد أسلم في ذلك اليوم حتى يكون الإسلام قد جبّ من ذنوبه ما سبق.

خطبة رسول الله “ص” بمنى

وهذه الخطبة ألقاها رسول الله “ص” في جموع المسلمين الغفيرة بيوم النحر بمنى، وقد روى هذه الخطبة ثقاة المحدِّثين بألفاظ متقاربة ونحن ننقل الخطبة برواية الإمام أبي عبد الله الصادق “ع” ونشير إلى جملة من المصادر التي تروي هذه الخطبة:

عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «إنّ رسول الله “ص” وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجّة الوداع فقال: «أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عنّي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا، ثم قال: أيُّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيُّ شهر أعظم حرمة؟ قالوا هذا الشهر، قال: فأيُّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا هذا البلد، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا نعم، قال: أللّهم اشهد، ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفّاراً».

في هذه الخطبة يعطي رسول الله “ص” أهميّة خاصة متميّزة لحرمة الدماء والأموال والأعراض (على بعض الروايات)، ويربط هذه الحرمات بحرمات الله العظيمة كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام، ويعلن للمسلمين عن تأبيد هذه الحرمة إلى يوم يلقى الناس ربهم، ويحذّرهم أن يظلم بعضهم بعضاً ويقاتل بعضهم بعضاً فيعودون كفّاراً… وكأن اختراق حرمة الدم في الإسلام يساوق الكفر، ويشهد الله تعالى على تبليغ هذه الرسالة.

المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه

إنّ العلاقة فيما بين المؤمنين يجب أن تبرأ من الظلم والعدوان ولا يلابسها الأذى والتجاوز، فإنّ العلاقة فيما بين المسلمين في هذه الاُمّة ليست كأيّة علاقة اُخرى، إنّها علاقة (الولاء)، وهي طبيعة متميزّة في العلاقات تتصف بصدق النيّة والسلامة من كل ظلم وعدوان، والنزاهة من الغش ونيّة السوء، فإذا سلمت هذه العلاقة ولبسوها بظلم وعدوان ولم يحرصوا على سلامتها ونزاهتها وبراءتها فإنّ هذا الخلل سوف يصيب أعزّ شيء وأعظم شيء في حياة الاُمّة وهو ولاؤها لله ولرسوله ولأولياء الاُمور وللمؤمنين.

ولذلك فقد حرص الإسلام حرصاً بليغاً على سلامة العلاقة فيما بين المؤمنين وتنزيه هذه العلاقة من كل ألوان الظلم والأذى والعدوان والغش والمكر والسوء.

ونستعرض هنا بعض الروايات والأحاديث الإسلامية في هذا الأمر.

فقد وردت روايات كثيرة وبألفاظ مختلفة في أن المسلم هو من سَلِمَ المسلمون منه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

ونشير فيما يلي إلى بعض تلك النصوص، فنقول:

عن الإمام الباقر “ع” أنه قال: «قال رسول الله “ص”: ألا اُنبّئكم بالمؤمن؟ المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أموالهم واُمورهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السيئات فترك ما حرّم الله»[74].

وزاد الكليني في هذا النصّ في الكافي فقال: «والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعةً تعنِّته»[75].

وفي رواية فضالة بن عبيد عن رسول الله “ص” أنه قال: «المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»[76].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم»[77].

وفي حديث رسول الله “ص” لعليّ “ع” كما في رواية الطبرسي في مكارم الأخلاق أنه قال: «يا علي، المؤمن من أمنه المسلمون على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه»[78].

قتال المسلم كفر

ودونك طائفة من الروايات الواردة في أن قتال المسلم كفر، وقد صحّت هذه الروايات عن رسول الله “ص” وأهل بيته^ بألفاظ متقاربة وهي صريحة في هذا الأمر وقاطعة لكل شكّ وترديد، ونشير فيما يلي إلى بعض هذه النصوص فنقول:

عن محمد بن عليِّ بن الحسين “ع” أنه قال: «قال رسول الله “ص”: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»[79].

وروى ابن ماجة عن أبي هريرة عن رسول الله “ص” أنه قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[80].

ورواه النسائي عن عدّه طرق في سننه[81].

ترويع المؤمن والإعانة عليه

ومن الأمور التي تدخل في هذا الباب ترويع المؤمن وإخافته وسلب الإحساس بالأمن منه، كما يحدث في الأنظمة البوليسيّة التي تحكم عن طريق نشر الإرهاب والرعب في صفوف الناس.

وقد ورد في الروايات والإسلامية تحذير شديد عن ترويع المؤمنين وتخويفهم وإرعابهم وسلب الأمن منهم، فهي تقول:

عن أمير المؤمنين “ع” أنه قال: «لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلماً»[82].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «من روَّع مؤمناً بسلطان ليصيب منه مكروهاً فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار»[83].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” عن رسول الله “ص” أنه قال: «من نظر إلى مؤمن نظرةً ليخيفه بها أخافه الله عزّوجل يوم لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّه»[84].

الإعانة على المؤمنين

ووردت روايات في تحريم الإعانة على المؤمنين بكشف أسرارهم وأسرار عملهم وتمكين الحكّام والسلاطين الظالمين منهم وإذاعة أسرارهم ومساعدة الظالمين عليهم، جاء فيها:

روى الصدوق في ثواب الأعمال وعقاب الأعمال عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى»[85].

تسقيط المؤمن والتشهير به وهتك سرّه

وهو من المحرمّات الكبيرة، وقد وردت في حرمته أحاديث كثيرة نذكر بعضها:

عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان»[86].

وروى الترمذي عن ابن عمر قال: صعد رسول الله “ص” المنبر فنادى بصوت رفيع: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوارتهم فإنه من تتبّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»[87].

وأعظم ما في هذا الباب هو الارتباط الوثيق بين حرمة المؤمن وولايته، وإنّ الإخلال بالاُولى إخلال بالثانية.

وإذا تعدَّى الإنسان على حرمات المؤمنين فلا تبقى ثمّة بينه وبينهم ولاية، ويخرج عن دائرة ولاية المؤمنين.

فدائرة الولاية الواسعة التي تجمع شمل المؤمنين وتذيب كل الحواجز التي يضعها الناس فيما بينهم وتقرِّب البعيد… تضيق بالبغضاء والشحناء والإساءة… وإذا تعمّد إنسانٌ الإساءة إلى المؤمنين وهتك حرماتهم والعدوان عليهم أخرجه الله تعالى من هذه الدائرة، وقطع ما بينه وبين المؤمنين من الولاء، وأحال أمره إلى ولاية الطاغوت.

إذا قال المؤمن لأخيه اُفٍّ خرج من ولايته

وعجيب أمر هذا الولاء وحساسيّته العجيبة تجاه التجاوز والعدوان والإساءة، فقد روي عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «إذا قال رجل لأخيه المؤمن: اُفٍّ خرج من ولايته، وإذا قال: أنت عدوي; كفر أحدهما، ولا يقبل الله من مؤمن عملا وهو مضمر على أخيه سوءاً»[88].

وعن المفيد في الاختصاص عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «إذا قال الرجل لأخيه: اُفٍّ; انقطع ما بينهما من الولاية، فإذا قال: أنت عدوّي; كفر أحدهما، فإذا اتهمه; انماث في قلبه الإيمان كما ينماث الملح في الماء»[89].

من حمل علينا سلاحاً فليس منّا

وإذا حمل الإنسان السلاح على المؤمنين ليروِّعهم أو ليقتلهم فقد خرج عن دائرة الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين، والتحق بولاية الطاغوت، ولم يبق ما بينه وبين الاُمّة شيءٌ من آصرة وصله وتقطَّع كل ما بينه وبين المؤمنين من أواصر وصلات الولاء.

عن رسول الله “ص” أنه قال: «من حمل علينا السلاح فليس منّا»[90].

وعنه “ص” أنه قال: «من سلَّ علينا السيف فليس منّا»[91].

وعنه “ص” أنه قال: «من حمل علينا السلام فليس منّا، ومن غشّنا فليس منّا»[92].

واللعن يقطع الأواصر كلّها

وإذا لعن المسلم أخاه فقد انقطع ما بينهما من ولاء، فإنّ اللعنة تتردد كما ورد في الحديث بين اللاعن ومن توجّه إليه، فإذا كان الذي وجّه إليه اللعن مساغاً وموضعاً للَّعنه وقع عليه، وإلاّ رجع اللَّعن إلى صاحبه وقطع ما بينهما من ولاء وصلة.

عن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «إنّ اللَّعنة إذا خرجت من صاحبها تردَّدت بينه وبين الذي يلعن، فإن وجدت مساغاً وإلاّ رجعت إلى صاحبها وكان أحق بها، فاحذروا أن تلعنوا مؤمناً فيحلّ بكم»[93].

واللَّعن بمعنى الطرد، فإذا لعن المسلم مسلماً فإمّا أن يكون الذي لعنه مطروداً من ولاية الله وولاية المؤمنين، وإمّا أن يكون هو مطروداً من هذه الولاية.

من آذى لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي

وأعجب من هذا كلّه العلاقة ما بين ولاية المؤمنين وولاية الله تعالى، فإنّ الإخلال بالاُولى إخلال بالثانيّة، وحرمة المؤمن مرتبطة بحرمة الله تعالى:

وقد وردت روايات كثيرة في أنّ من تصدّى لإيذاء المؤمنين فقد تصدّى لمحاربة الله تعالى، وإنّ محاربة المؤمنين من محاربة الله، وحرمتهم من حرمة الله وولايتهم من ولاية الله، فإذا تصدّى إنسان لمحاربة المؤمنين وإذائهم فقد انقطع ما بينه وبينهم من أواصر الولاء، وإذا انقطع الولاء بينه وبين المؤمنين انقطع ما بينه وبين الله، وإذا تصدّى لمحاربة المؤمنين فقد أعلن الحرب على الله تعالى.

والروايات بهذا المضمون كثيرة، نذكر طرفاً منها:

عن أبي جعفر الباقر “ع” أنه قال: «لمّا اُسري بالنبيّ “ص” قال: يا ربِّ ما حال المؤمن عندك؟، قال: يا محمد من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي»[94].

وروى محمد بن يعقوب في الكافي عن الإمام الصادق “ع” عن رسول الله “ص” أنه قال: «لمّا أسرى ربّي بي فأوحى إليّ من وراء الحجاب وشافهني أن قال لي: يا محمد من أذلّ وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، ومن حاربني حاربته»[95].

وعن رسول الله “ص” أنه قال: «من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان»[96].

وعن أبي عبد الله الصادق “ع” أنه قال: «قال رسول الله “ص”: قال الله تبارك وتعالى: ليعذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن»[97].

وروى الكليني عن رسول الله “ص” أنه قال: «قال الله عزّوجل: قد نابذني من أذلَّ عبدي المؤمن»[98].

وذلك طرف من الحديث عن حرمة المسلمين والمؤمنين وحرمة تجاوز وانتهاك حرمات المؤمنين، وهو باب واسع في الفقه والحديث والأخلاق وثيق الصلة بالبحث الذي نحن بصدده، وقد حاولنا إيجاز البحث في النقاط الواردة في هذا البحث بقدر الإمكان.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] و 2 ـ غرر الحكم للآمدي.
  • [3] ـ كنز العمّال ح24656 و 24657.
  • [4] ـ بحار الأنوار ج75 ص155.
  • [5] ـ بحار الأنوار ج75 ص154.
  • [6] ـ الأنبياء: 92.
  • [7] ـ المؤمنون: 52.
  • [8] ـ التوبة: 71.
  • [9] ـ الأنفال: 73.
  • [10] ـ سنن الترمذى ج4 ص325.
  • [11] ـ أصول الكافي ج2 ص166.
  • [12] ـ بحار الأنوار ج74 ص234.
  • [13] ـ بحار الأنوار ج74 ص238 ح40، عن أصول الكافي ج2 ص169.
  • [14] ـ بحار الأنوار ج 74 ص222 عن أمالي الصدوق ص194.
  • [15] ـ بحار الأنوار ج74 ص225 ح14، عن أمالي الطوسي ج1 ص95.
  • [16] ـ الحشر: 10.
  • [17] ـ الأعراف: 43.
  • [18] ـ أصول الكافي ج3 ص374 ـ باب 299 ح19.
  • [19] ـ وسائل الشيعة ج2 ص204، الطبعة الحجريّة.
  • [20] ـ اصول الكافي ج2 ص361.
  • [21] ـ الحشر: 9.
  • [22] ـ بحار الأنوار ج74 ص279 عن أمالي الشيخ الطوسي ج1 ص69.
  • [23] ـ بحار الأنوار ج74 ص279 ـ 280.
  • [24] ـ بحار الأنوار ج74 ص236 ح38.
  • [25] ـ بحار الأنوار ج74 ص236 ـ 237 ح38.
  • [26] ـ الفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين ص9.
  • [27] ـ الأنفال: 62 ـ 63.
  • [28] ـ آل عمران: 103.
  • [29] ـ بحار الأنوار ج74 ص280 عن نوادر الراوندي ص8 .
  • [30] ـ بحار الأنوار ج77 ص149.
  • [31] ـ بحار الأنوار ج78 ص56.
  • [32] ـ أمالي الشيخ الطوسي ج2 ص25.
  • [33] ـ الاختصاص للشيخ المفيد ص24.
  • [34] ـ الفتح: 29.
  • [35] ـ بحار الأنوار ج74 ص280.
  • [36] ـ بحار الأنوار ج74 ص399.
  • [37] ـ أصول الكافي ج2 ص175.
  • [38] ـ أمالي الصدوق ص288.
  • [39] ـ كنز العمّال ح5989.
  • [40] ـ بحار الأنوار ج71 ص230 عن تفسير الإمام العسكري، والحياة ج1 ص230.
  • [41] ـ الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير ج2 ص158.
  • [42] ـ وسائل الشيعة ج11 ص108 ح1.
  • [43] ـ الحياة ج1 ص232 عن مكارم الأخلاق ص143.
  • [44] ـ الاختصاص للمفيد ص23.
  • [45] ـ وسائل الشيعة ج6 ص18.
  • [46] ـ وسائل الشيعة ج6 ص32 ح16.
  • [47] ـ مستدرك وسائل الشيعة ج2 ص63.
  • [48] ـ الخصال للصدوق ج2 ص6.
  • [49] ـ مرّ ذكره في موضوع: الحقوق المتبادلة بين المسلمين في كتابنا هذا.
  • [50] ـ اُصول الكافي ج2 ص170، وعنه: البحار ج74 ص243.
  • [51] ـ اُصول الكافي ج2 ص174، وعنه: البحار ج74 ص257.
  • [52] ـ نهج البلاغة ـ الخطبة رقم 166 أو 167، بموجب اختلاف النسخ في ترقيم الخطب.
  • [53] ـ سنن ابن ماجة ج2 ص1297 ح3932.
  •       وروى الترمذي نصّاً قريباً منه من كلام عبد الله بن عمر نفسه (سنن الترمذي ج4 ص378
    ح2032. كتاب البرّ ـ باب 85) فيما جاء في تعظيم المؤمن، ورواه بلفظ قريب منه ; المجلسي في البحار ج67 ص71.
  • [54] ـ الاختصاص للمفيد ص23، وبحار الأنوار ج74 ص222.
  • [55] ـ بحار الأنوار ج74 ص233،وروى الكليني في الكافي (الفروع ج1 ص320) عن الإمام أبي الحسن× حديثا بنفس المضمون، كما رواه في كامل الزيارات ص273، ورواه الحرّ العاملي عنهما في وسائل الشيعة ج5 ص422.
  • [56] ـ نهج البلاغة ج167 ص242، صبحي الصالح، وبحار الأنوار ج68 ص290.
  • [57] ـ بحار الأنوار ج67 ص 72.
  • [58] ـ المحاسن للبرقي ص132، والبحار ج67 ص125.
  • [59] ـ سنن الترمذي ج4 ص325 ح1927. ورواه ابن ماجة في السنن 2 ص1298 ح3933، ورواه أحمد بن حنبل في المسند من أحاديث أبي هريرة ج2 ص277، و ج2 ص360 من نفس الكتاب.
  • [60] ـ مسند أحمد بن حنبل ج5 ص4 و 5.
  • [61] ـ مسند أحمد بن حنبل ج3 ص491.
  • [62] ـ خصال الصدوق ج1 ص84، وبحار الأنوار ج68 ص269.
  • [63] ـ نوادر الراوندي ص21، وبحار الأنوار ج68 ص288 ح47.
  • [64] ـ بحار الأنوار ج68 ص242.
  • [65] ـ مشكاة المصابيح ج12 ـ 14.
  • [66] ـ المحاسن ص285، وبحار الأنوار ج68 ص243.
  • [67] ـ الكافي ج2 ص25، وبحار الأنوار ج68 ص248.
  • [68] ـ مسند أحمد بن حنبل ج3 ص472.
  • [69] ـ المحاسن 284، وبحار الأنوار ج68 ص282.
  • [70] ـ سنن الدارمي ج2 ص218، ورواه بلفظ قريب منه عن رسول الله2 البخاري في ج1 ص57 من الصحيح في فضل استقبال القبلة، وأبو داود في السنن ج2 ص41 ـ 42 باب (على ما يقاتل المشركون)، وأحمد بن حنبل في المسند ج3 ص199، و ج2 ص445، و ج3 ص339، و ج4 ص8 و 9، وابن ماجة في السنن ج2 ص1285 و 1286، والنسائي في السنن ج8 ص109.
  • [71] ـ بحار الأنوار ج75 ص150.
  • [72] ـ صحيح مسلم ج1 ص68 ـ 69.
  • [73] ـ صحيح مسلم ج1 ص67.
  • [74] ـ المحاسن ص285.
  • [75] ـ الكافي ج2 ص235، ورواه الكليني في رواية اُخرى عن الإمام الباقر× مباشرة في الكافي ج2 ص234، وبحار الأنوار ج67 ص354، وروي الحديث بألفاظ قريبة منه في وسائل الشيعة ج8 ص597.
  • [76] ـ سنن ابن ماجة ج2 ص1298 ح3934.
  • [77] ـ بحار الأنوار ج75 ص51 ح3. عن جامع الأخبار ص239.
  • [78] ـ الحياة ج1 ص232 نقلا عن مكارم الأخلاق للطبرسي ص510.
  • [79] ـ من لا يحضره الفقيه ج3 ص373، والمحاسن للبرقي ص102 ح77، ووسائل الشيعة ج19 ص10، و ج8 ص61، ورواه المجلسي في بحار الأنوار ج75 ص148 عن ثواب الأعمال للصدوق ص250.
  • [80] ـ وسائل الشيعة ج8 ص598 ـ 599، عن المجالس والأخبار ص341.
  • [81] ـ سنن النسائي ج7 ص121 ـ 122.
  • [82] ـ بحار الأنوار ج75 ص147.
  • [83] ـ ثواب الأعمال ص256، واُصول الكافي ج2 ص368، وبحار الأنوار للمجلسي ج75 ص151 ـ 152 و ج75 ص149.
  • [84] ـ الكافي ج2 ص368، وبحار الأنوار ج75 ص150 ـ 151.
  • [85] ـ ثواب الأعمال للصدوق ص276، والكافي ج2 ص368، وبحار الأنوار ج75 ص152، وبلفظ قريب منه في المحاسن للبرقي ص103، وبحار الأنوار ج75 ص149 ح10.
  • [86] ـ الكافي ج2 ص358.
  • [87] ـ سنن الترمذي ج4 ص378 ح2032.
  • [88] ـ وسائل الشيعة ج8 ص611 ح2.
  • [89] ـ الاختصاص للمفيد ص23 ; وبحار الأنوار ج74 ص221 ح2، وأيضاً روى المجلسي الحديث في البحار ج75 ص166 ح38.
  • [90] ـ صحيح مسلم ج1 ص69.
  • [91] ـ المصدر السابق.
  • [92] ـ المصدر السابق.
  • [93] ـ وسائل الشيعة ج8 ص613 عن قرب الإسناد ص7.
  • [94] ـ وسائل الشيعة ج8 ص588.
  • [95] ـ وسائل الشيعة ج8 ص591.
  • [96] ـ بحار الأنوار ج75 ص150 عن جامع الأخبار ص127.
  • [97] ـ بحار الأنوار ج67 ص71 و72.
  • [98] ـ الكافي ج9 ص351، وبحار الأنوار ج75 ص158.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى