ثقافة

علاقة الأُمة برسول الله “ص” وخلفائه

1 ـ التسليم لرسول الله “ص” وأولياء الأمور من بعده

والتسليم لرسول الله “ص” من التسليم لله، لا ينفكُّ عنه، وليس هو أصل قائم بذاته، وإنّما هو التسليم لله تعالى، والتسليم لرسول الله فرع على التسليم لله، ولكن بنفس القوّة والحسم، فإنّما يبلّغ رسول الله “ص” عن الله تعالى:

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[1].

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}[2].

فحيث لا يبلّغ إلاّ عن الله، ولا ينطق إلاّ من جانب الله; فلابدَّ من التسليم لـه والطاعة والانقياد بنفس التأكيد والقوّة التي تحدثنا عنها في التسليم لله.

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[3].

وقد رأينا في الآيات الكريمة أن التسليم لله تعالى كان يقترن بالتسليم لرسول الله “ص” والتسليم لأولياء الأمور من بعد رسول الله “ص” يأتي في امتداد التسليم لرسول الله “ص”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[4].

فتقترن طاعة أُولي الأمر من بعد رسول الله “ص” بطاعة الله ورسوله ويكون التسليم لأولياء الأمور من بعد رسول الله “ص” من التسليم لله ولرسوله، ونفس الطاعة المفروضة لله ولرسوله “ص” تنتقل من بعد رسول الله “ص” إلى اُولي الأمر من بعده، إلاّ أن هذه الطاعة امتداد لطاعة رسول الله “ص” وليست أصلا قائماً بالذات، كما أنّ طاعة رسول الله “ص” امتدادٌ لطاعة الله تعالى وليست أصلا قائماً بنفسه… أمّا طاعة الله تعالى والتسليم له فهي الأصل والأساس والمحور الذي تنحدر منه كل طاعة مشروعة.

وفي الحديث التالي المروي عن رسول الله “ص” بطرق عديدة وصحيحة ـ إجمالا ـ نجد تحديداً لمعنى الطاعة وتحديداً دقيقاً لمعنى امتداد طاعة النبي “ص” من طاعة الله وامتداد طاعة أولياء الأمور من بعد رسول الله “ص” لطاعة رسول الله “ص”، وتشخيصاً لولىّ الأمر من بعد رسول الله “ص”.

عن رسول الله “ص”: «الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر معه، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه، لا أمر له معي… فعليّ مولاه لا أمر له معه»[5].

فالولاية المطلقة لله تعالى، والأصل في الولاية هو الله (عزّوجل) (أولى برسول الله “ص” من نفسه) و(لا أمر لرسول الله معه) تحديد دقيق لمعنى ولاية الله، وإطلاق لهذه الولاية وإنّ هذه الولاية هي الأصل والأساس، وانّ ولاية رسول الله “ص” امتداد لهذه الولاية.

ثم ولاية رسول الله “ص” عن المؤمنين في امتداد ولاية الله (أولى بهم من أنفسهم) و(لا أمر لهم مع رسول الله) وإنّما الأمر لرسول الله “ص”.

وولاية الإمام أمير المؤمنين× من بعد رسول الله “ص” من ولاية رسول الله “ص” وامتداد لولاية رسول الله “ص”.

وفي حديث الغدير المعروف والذي رواه جمع غفير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان عن رسول الله “ص” وخصَّه العلاّمة الأميني بموسوعته الكبيرة (الغدير) تحديد دقيق وتشخيص للولاية ومعناها، وأصلها وأساسها الذي ينحصر أمرها في الله تعالى، وامتداد إلى رسول الله “ص” ثم امتدادها من بعد رسول الله إلى أمير المؤمنين× من بعده…

2 ـ التسليم على رسول الله “ص” وعلى اُولي الأمر من بعده

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[6].

والتسليم على رسول الله “ص” مخاطبته “ص” بالسلام، والسلام عليه “ص”، وبالتأكيد ليس المقصود السلام عليه “ص” في الخطاب فقط، وإنّما الخطاب شعار للتعامل والموقف العملي من رسول الله “ص”، والتعامل والموقف يجب أن يكون قائماً على (السلام) وكفّ الأذى عن رسول الله “ص” والكفّ عن المشاكسة والمخالفة.

وفي ختام الصلاة يجري هذا السلام نفسه على رسول الله “ص” بالصيغة الواردة في سلام الصلاة: «السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته».

والتحيّة بالسلام على رسول الله “ص” وأولياء الأمور من بعده وأهل بيته وردت كثيراً في نصوص الزيارات المأثورة بصورة متكررة ومؤكّدة وكلها تشير إلى نوع التعامل السلمي مع أولياء الأمور القائم على أساس السلم وكفّ الأذى والمشاكسة والمواجهة والمقابلة، وهي الصيغة السلبيّة للطاعة والتسليم، فإنّ معنى الطاعة عدم التمرّد والمشاكسة والمخالفة[7].

<ومن معاني السلام على رسول الله “ص” وأهل بيته “ع” في نصوص الزيارات الواردة أن نمنع عنهم الأذى الذي يصيبهم من سوء أعمالنا وسوء تصرّفاتنا وسوء أخلاقنا فإنّ السيئات التي تصدر عن الإنسان المسلم تؤذي رسول الله “ص” وأئمّة المسلمين بالتأكيد، كما أنّ الأعمال الصالحة التي تصدر عنه تسرّهم… كما يسوء قائد الجيش ضعف جيشه وتخلّفهم وفرارهم من مواجهة العدوّ، ويسرّه تقدّمهم وقوّتهم وانتصارهم.

فإنّ رسول الله “ص” والأئمة “ع” من بعدِهِ أولياء أمور المسلمين يسرّهم منهم الإيمان والأعمال الصالحة وتسوؤهم منهم المعاصي والسيّئات والشكّ والريب والنفاق وسوء الأخلاق، والسلام عليهم يتضمّن التعهّد بكفّ الأذى عنهم بسوء أخلاقنا وأعمالنا>[8].

3 ـ حبّ رسول الله “ص” وأولياء الاُمور من بعده

وهو فرع حبّ الله تعالى، ومن الحبُ في الله، ولا يكفي التسليم والطاعة لرسول الله “ص” بل يبقى ناقصاً ما لم يقترن هذا التسليم وهذه الطاعة بالحبّ، فإنّ العلاقة القائمة على أساس الطاعة والتسليم فقط لا تدوم طويلا، ولن تملأ كل جوانح الإنسان ولن تتحكّم في عواطف الإنسان وأحاسيسه، وبالتالي لن تكون من الإيمان الذي يملأ ويستوعب كل شخصيّة الإنسان.

ولذلك فإنّ الحبّ هنا بعد التسليم من أهمِّ مقوّمات علاقة الإنسان المسلم برسول الله “ص”، وقد ورد عن رسول الله “ص” أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده»[9].

وفي حديث آخر: «لا يؤمن عبد (الرجل) حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين»[10].

وعنه “ص” أيضاً: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»[11].

وفي امتداد حبّ رسول الله “ص” حبُّ أهل البيت “ع” اُولي الأمر من بعده، ولا ينفصل هذا الحبُّ عن ذاك، وهذا الحبّ عنصر ضروريّ في ترسيم علاقة الأُمّة بأولياء الأمور من بعد رسول الله “ص”، كما هو ضروريّ في ترسيم علاقة المؤمنين برسول الله “ص”. وقد نزل في ذلك قرآن يتلى من عند الله: {قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[12].

وروي عن رسول الله “ص” أنه قال: «أحِبُّوا الله لما يغذوكم، وأحبّوني بحبِّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي»[13].

وعن رسول الله “ص” أيضاً أنه قال: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه، وتكون عترتي أحبَّ إليه من عترته، ويكون أهلي أحبَّ إليه من أهله»[14].

وعن أبي ذر الغفاري عن رسول الله “ص”: «يا علي ومن أحبّك فقد أحبَّني، ومن أبغضك فقد أبغضني»[15].

تلك صورة موجزة عن طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين رسول الله “ص” وأولياء الأمور من بعده; طاعة وتسليم، وسلام وأمن، وحبٌّ ومودّة، والمزيج الذي يتألّف من هذه العناصر الثلاثة يستطيع أن يرسم لنا الطبيعة السلميّة في العلاقة بين المؤمنين ورسول الله “ص” والأئمّة من بعده.

فمن دون الطاعة والتسليم ينتفي السلام رأساً، فإنّ مخالفة أولياء الأمور والخروج عن طاعتهم بغي وشقاق، وشقٌ للصف، وتمرُّدٌ على الحكم الشرعي… وكل ذلك في منطق الشرع والسياسة من إعلان الحرب.

ومن دون الحب والمودّة لا يستقّر السلام في العلاقة مع رسول
الله “ص” وأولياء الأمور من بعده على أساس قوىٍّ ثابت، ولا تستطيع هذه العلاقة أن تقاوم أسباب الشقاق والخلاف، فلكي تكون العلاقة علاقة سلميّة لابدّ من هذه العناصر جميعاً; طاعة وتسليم، وانتفاء الخلاف والشقاق والبغي، وحبٌّ ومودّة.

وهذه العناصر جميعاً لابدَّ أن تجتمع في العلاقة بأولياء الأمور في الدولة الإسلامية بعد عصر الأئمّة “ع” في عصر الغيبة، فإنّ الدولة الإسلامية ووليّ الأمر فيها يستمدّ شرعيّته وسلطانه من نفس الامتداد، وعليه فإنّ ما يلزم المسلمين في العلاقة مع أولياء الأمور من بعد رسول الله “ص” يلزم المسلمين في علاقتهم مع الدولة الإسلامية تماماً.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ الحاقّة: 44 ـ 47.
  • [2] ـ النجم: 3 ـ 4.
  • [3] ـ الحشر: 7.
  • [4] ـ النساء: 59.
  • [5] ـ سيرتنا وسنّتنا (ص12) للعلامة الفقيد الشيخ الأميني& عن كتابه: (الغدير) عن عدّة طرق.
  • [6] ـ الأحزاب: 56.
  • [7] ـ وانّما أفردناه بالبحث والعنوان لأن معناه المباشر هو طرح الموقف المسالم مع المخاطب وكفّ الأذى عنه، وهو معنى عام يختلف باختلاف مصاديقه، ففي أولياء الامور يعطي معنى الطاعة والتسليم وفي غيرهم من المؤمنين يعطي دون هذا المعنى كما سوف يأتي بحثه إن شاء الله.
  • [8] ـ لتفصيل الكلام في هذه الفقرة يحسن مراجعة كتاب (شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور) للحاج ميرزا أبو الفضل الطهراني (ص 59).
  • [9] ـ صحيح البخاري ـ كتاب الإيمان، وفتح الباري للعسقلاني (ج 1 ص 55).
  • [10] ـ صحيح مسلم (ج1 ص49) دار الفكر بيروت ـ كتاب الإيمان ـ الباب 16.
  • [11] ـ صحيح مسلم (ج 1 ص 49) ـ الباب 16 ـ كتاب الإيمان.
  • [12] ـ الشورى: 23، راجع مصادر نزول هذه الآية الكريمة في أهل البيت^ في كتاب دلائل الصدق (ج 2 ص 120 ـ 126) ط. القاهرة، و(الغدير) ج 2 ص 306 ـ 310 و ج 3 ص 171 ط. طهران.
  • [13] ـ صحيح الترمذي (ج 13 ص 261) في كتاب الإيمان، ذكر أن هذه الآية الكريمة نزلت في أهل البيت^، وتأريخ بغداد (ج 4 ص 160) بنقل سيرتنا وسنّتنا (ص8).
  • [14] ـ أخرجه النصيبي في الجزء الثاني من أحاديثه، والحافظ البيهقي في شعب الإيمان (بنقل سيرتنا وسنّتنا).
  • [15] ـ سيرتنا وسنّتنا (ص 12 و 13) للعلاّمة الأميني وقد أخرجه بأسانيده عن عدة طرق في كتابه الغدير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى