ثقافة

السلام في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

{قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ المائدة: 15 ـ 16

الجذور اللغويّة للسلام

الرجوع إلى الجذور اللغويّة لهذه الكلمة يُعننا كثيراً على فهم هذا المفهوم الإسلامي العميق، والذي يحتلُّ مساحة واسعة من الفكر الإسلامي:

السلام: التخلّص من الآفات والعاهات والأمراض الظاهرة والباطنة، يقول تعالى: {إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي متعرٍّ من الدغل ـ كذا يقول الراغب في المفردات ـ .

ويضيف الراغب: والسلامة الحقيقيّة ليست إلاّ في الجنّة، إذ فيها بقاء بلا فناء، وغنًى بلا فقر، وعزٌّ بلا ذلّ، وصحّة بلا سقم، كما قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ} أي السلامة، وقال تعالى: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}[1].

ويأتي السلام في مقابل الحرب وبمعنى المعايشة القائمة على التعاون والمحبّة.

يقول ابن منظور الأفريقي في موسوعته اللغويّة (لسان العرب): وكانت العرب في الجاهليّة يحيُّون… ويقولون سلام عليكم فكأنَّه علامة المسالمة وأنّه لا حرب هناك.

ويبدو أن المعنى الثاني ـ الذي يقع مقابل الحرب ـ مشتقٌ من المعنى الأول، ومعنى السلام في الأصل السلامة والبراءة من كل سوء وعيب سواء كان في الظاهر أم في الباطن.

والحرب والحقد والبغضاء من أظهر أنواع السوء في السطح الظاهر، وفي العمق الباطن لحياة الإنسان، وبانتفاء هذه الظواهر السلبيّة من حياة الإنسان يتحقق السلام. والتحيّة في الإسلام بالسلام تشير إلى هذا المعنى بالذات، فإنّ التحيّة بجملة (السلام عليكم) المعروفة هي المدخل إلى عامّة اللقاءات والاتصالات والارتباطات في شبكة العلاقات الاجتماعيّة في المجتمع الإسلامي، وهذه الكلمة التي يرددها المسلمون في كافّة لقاءاتهم تشير إلى المضمون السلمي في علاقة الإنسان المسلم في المجتمع بالآخرين، وتطبع علاقات المسلمين بعضهم ببعض في المجتمع بطابعه المتميّز الخاص الذي يحمل معاني المسألة والتحابب، والتحسيس بالأمن والسلام من كل طرف تجاه الآخر، وإشعار الطرف الآخر بالسلام في العلاقة وانتفاء العدوان والظلم والمكر فيما بينهم.

وطبيعي أنّ (السلام) بهذا المعنى وبهذه الشموليّة التي يعطيها الإسلام يُشكّل أساساً لكل العلاقات في المجتمع الإسلامي… في علاقة أعضاء المجتمع بعضهم ببعض، وعلاقة المجتمع بالقيادة الشرعيّة وبالعكس، كما يشكّل أساساً لصلة الحاضر بالماضي خلال الحركة التاريخية لمسيرة الإيمان بالله.

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول: إنّ (السلام) هو المادة الأساسيّة التي تشكّل نسيج العلاقات الاجتماعية في الإسلام، ونسيج (شبكة الولاء) الواسعة، ولابدَّ لهذا الإجمال من تفصيل وشرح; فنقول:

إنّ الصلة والعلاقة فيما بين الناس قائمة على أحد أساسين: إمّا السلام وإمّا الحرب والصدام، ولكل منهما اُصول ونتائج.

فأصول السلام في المجتمع وفيما بين الناس التحابب وحسن الظنّ ونتائجه التعاون والتضامن والتكافل والصداقة.

واُصول الحرب والصدام الحقد والبغضاء والكراهيّة وسوء الظنّ في النفس، وآثاره: العدوان والحسد والغيبة والوشاية والإيذاء، وما إلى ذلك من آثار الحرب والصدام في المجتمع.

فهناك في المجتمع الإنساني حالتان للعلاقة: العلاقة القائمة على أساس الحبّ، والعلاقة القائمة على أساس من البغضاء والكراهيّة، ولكل منهما طبيعته ونتائجه وآثاره العميقة في الحياة الاجتماعية تختلف عن الحالة الاُخرى، والنسيج الإسلامي للعلاقة الاجتماعية، وفي شبكة الولاء يقوم على أساس: (السلام)، و(السلام) هو الصبغة الشاملة لشبكة الولاء في الإسلام، والطابع العام الذي تتصف به هذه الشبكة، ومعرفة هذه الشبكة (شبكة الولاء) ثم معرفة هذه (الصيغة) الشاملة التي تتصف بها هذه الشبكة في غاية الأهميّة في دراستنا هذه.

شبكة الولاء

وقبل الدخول في تفاصيل (السلام) وموضعه في شبكة (الولاء) علينا أن نرسم أولا خريطة لشبكة العلاقات التي يرتبط بها الإنسان المسلم في حياته لنستطيع بعد ذلك أن نجري موضع (السلام) في هذه الشبكة:

هذه الشبكة ذات خطوط:

1 ـ خطوط طوليّة (السدى).

2ـ وخطوط عرضيّة (اللُّحْمَة).

3ـ وخطوط عموديَّة (ثلاثة أبعاد).

والإنسان المسلم يقع في وسط هذه الشبكة الواسعة من العلاقات، وتنتظم علاقات الإنسان المسلم وصلاته وموقعه ضمن هذه الشبكة: (الخطّ الطولي والعمودي الطولي ـ السدى ـ) لعلاقات الإنسان المسلم في هذه الشبكة يتشكّل من:

1ـ العلاقة بالله.

2ـ العلاقة برسول الله “ص”.

3ـ العلاقة بأولياء اّمور المسلمين من بعد الرسول “ص” ـ الأئمة “ع” وخلفاؤهم.

4ـ العلاقة بالحكّام والولاة المنصوبين من قبل أولياء أمور المسلمين (الدولة الإسلامية).

5ـ علاقة الإنسان المسلم بزوجته وأبنائه (عائلته).

6ـ علاقة الإنسان المسلم بنفسه.

7ـ علاقة الإنسان المسلم بالأشياء من حيوان ونبات وجماد.

وبداية هذا التسلسل علاقة الإنسان بالله وسلطان الله تعالى عليه تكوينيّاً وتشريعيّاً، ولله تعالى السلطان المطلق والحاكميّة المطلقة على الإنسان، وليس لأحد من دون الله سلطان أو حاكميّة أو قيمومية على الإنسان إطلاقاً، وعلاقة الإنسان بالله تعالى علاقة العبوديّة والطاعة والاستسلام المطلق لأمر الله، وعلاقة الله بعباده الربوبيّة والاّلوهيّة والحاكميّة المطلقة والقيمومة، وكل حاكميّة مشروعة على الانسان في حياته لابدّ أن تكون نابعة من هذا المصدر بالذات وبشكل صريح وفي الحدود التي يأمر بها الله تعالى.

وقد أناط الله الحاكميّة في حياة الإنسان المسلم برسول الله “ص” {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[2].

فالنبيّ “ص” يبلّغ الناس شريعة الله ويتولّى الحاكميّة والقيمومية من بعده بأئمّة المسلمين في حديث الغدير الشهير، فهم يتولَّون واحداً بعد آخر الحاكميّة والقيمومية على المسلمين، والأئمة “ع” أوْلَوا الفقهاء هذا السلطان والقيمومة من بعدهم فهم أوليان المسلمين في فترة الغيبة، وأولياء الأمور ينصبون على المسلمين الولاة الذين يتولّون أمورهم في شؤون الحياة المختلفة.

والطاعة والتسليم لهذه السلسلة كلها نابعة من الطاعة لله تعالى، والحاكميّة والقيمومة والسلطان في هذه السلسلة جميعاً نابعة من حاكميّة الله تعالى وسلطانه المطلق على عباده.

ثمّ يتولّى الإنسان في امتداد هذه السلسلة الولاء على نفسه بما جعل الله له من سلطان على نفسه، وفي حدود ما أقرّ الله تعالى له من السلطان على نفسه، ثم يتولّى اُمور الذين جعل الله تعالى أمرهم بيده أو بنصبه وليّ أمور المسلمين والياً عليهم وراعياً لهم.

وهذا الامتداد الطولي من العلاقات يقوم على أساس القيمومة والحاكميّة من جانب، والطاعة والتسليم من جانب آخر.

والخط العرضي (اللُّحْمَة) لهذه الشبكة ينظّم بالشكل التالي:

1ـ العلاقة بالأُمّة.

2ـ العلاقة بالمعارف.

3ـ العلاقة بالأُسرة.

وهذا النوع من العلاقة يختلف عن النوع الأول من العلاقة… فهي علاقة عرضيّة تربط الإنسان المسلم في الحياة الاجتماعيّة بالدوائر التي يتعامل معها ابتداءً من الدائرة الكبرى (الأُمّة)، ثم دائرة المعارف والأصدقاء الذين يتّصل بهم عن قريب وهي أضيق من الدائرة الأولى، ثم دائرة الأسرة والأرحام والأقارب، وهي أضيق من الدائرة الثانية.

البعد الثالث لهذه الشبكة هو البعد العمودي (العمقي) الذي يربط الإنسان المسلم بإيمانه وإسلامه والأجيال المؤمنة من الدعاة وحملة الرسالة والعاملين في سبيل الله الذين سبقوهم بإحسان، وهذه هي شبكة العلاقات التي تربط الإنسان بالله ورسوله والإمام والأُمة وتربط الحاضر بالماضي.

وكل الأواصر والروابط والعلاقات القائمة في هذه الشبكة والتي يرتبط بها الإنسان المسلم يسمّيها القرآن الكريم بـ(الولاء) سواء في الخطّ الطولي (السدى) أو في الخطّ العرضي (اللُّحْمَة) أو في الخطّ العمودي.

ففي الامتداد الطولي لعلاقات الولاء يقول القرآن الكريم:

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[3].

وفي الخط العرضي من شبكة علاقات الولاء (اللُّحْمَة) يقول تعالى:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[4].

{وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[5].

وفي الخط العمودي يقول تعالى:

{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[6].

وفي سورة الأنعام بعد ما يذكر الله تعالى خليله إبراهيم “ع” وإسحاق ويعقوب ونوحاً وداود وسليمان وأيّوب وموسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً من الأنبياء والمرسلين.. يقول تعالى لنبيّه “ص”: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[7].

ويربط تعالى نبيّه “ص” بهذه السلسلة المباركة من أنبياء السلف “ع”.

وقد ورد تحديد هذه الأبعاد الثلاثة للولاء في الحديث التالي:

عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال:

ثلاث موبقات:

1ـ نكث الصفقة (أي البيعة).

2ـ وترك السُنّة.

3ـ وفراق الجماعة[8].

والبيعة أو (الصفقة): هي البعد الطولي للولاء الذي يربط الإنسان بالله تعالى ورسوله وأولياء الأمور.

والسُنّة: هي البعد العمودي (العمقي) للولاء الذي يشكّل الارتباط بالسلف الصالح والاهتداء بهديهم في الأرض.

فالولاء إذن هو المصطلح الإسلامي لكل العلاقات والصلات والأواصر التي تربط الإنسان المسلم بالله تعالى ورسوله وأولياء الأمر وبالأُمة في عرضها العريض، وبالتأريخ في عمقه الحضاري العريق.

ولا نريد هنا أن نسهب في دراسة مسألة (الولاء) بأبعادها الطوليّة والعرضيّة (الأفقيّة) والعموديّة (العمقيّة) في هذه الدراسة فهي مسألة تستحق الكثير من الاهتمام والتتبّع للنصوص الإسلامية، ونظريّة إسلاميّة متكاملة الأطراف لم تبرز لحدِّ الآن من قبل المفكِّرين الإسلاميين بالشكل الكامل، وقد وفَّقني الله تعالى لوضع دراسة عن مسألة الولاء والبراءة والنظريّة الإسلاميّة فيهما، أسأله تعالى أن يوفِّقني لإكمالها وإخراجها، والذي يهمّني في هذه الدراسة دراسة صبغة السلام الشاملة في شبكة الولاء.

خطوط دوائر السلام في شبكة الولاء

نستعرض الآن دوائر السلام في الخطوط الثلاثة لشبكة الولاء في الإسلام في الخط الطولي في صبغة السلام. علاقة الإنسان المسلم بالله وبرسوله وأولياء أمور المسلمين، وبنفسه وبمن أولاه الله تعالى الولاية عليه ورعايته من المسلمين، وبالأشياء التي سخّرها الله تعالى للإنسان، وندرس (السلام) في هذه الدوائر في طورين: الطور الصاعد في علاقة الإنسان المسلم بالله تعالى ورسوله وأولياء الأمور، والطور النازل في علاقة الله تعالى بعبده وعلاقة أولياء الأمور والدولة الإسلامية بالرعايا من المسلمين، وفي الخط الأفقي (العرضي) في صبغة السلام علاقة الإنسان المسلم بالمجتمع الإسلامي في شبكة العلاقات والحقوق والمسؤوليّات الواسعة ابتداءً بعلاقة الإنسان المسلم بالدائرة الاجتماعية الكبرى ثم علاقته بالدائرة التي دون هذه الدائرة من المعارف والأصدقاء، ثم علاقته بالدائرة التي دون ذلك من أفراد أسرته وأقاربه.

وفي الخط العمودي (العمقي) نستعرض السلام في علاقة الإنسان بسلفه من الصالحين من الأنبياء والمرسلين وحملة رسالات الله والعاملين في سبيل الله من الذين سبقونا في الإيمان والعمل والجهاد.

وهذه ثلاثة خطوط في شبكة الولاء، سوف نستعرض ـ إن شاء الله ـ موضع السلام في كل خط منها ضمن الدوائر التي شرحناها آنفاً.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ مفردات القرآن للراغب الاصفهاني: مادة (سلم).
  • [2] ـ الأحزاب: 6.
  • [3] ـ المائدة: 55.
  • [4] ـ التوبة: 71.
  • [5] ـ الأنفال: 72.
  • [6] ـ الحشر: 10.
  • [7] ـ الأنعام: 90.
  • [8] ـ بحار الأنوار / ج 2 ص 265.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى