ثقافة

شرح الصدر في مجال المعرفة

الانشراح

ولئن قطعنا لحد الآن شوطاً صعباً في مسألة «شرح الصدر»، سلكنا فيه طرقاً وعرة، وصعبة، مجهدة من ألوان الابتلاء، وهموم العمل، والمحن التي يدخلها العاملون في سبيل الله، فإن أمامنا الآن أن نسلك الشوط الثاني من «شرح الصدر».

وهذا الشوط بخلاف الشوط الأول يمر من خلال حدائق المعرفة، ورياض العرفان بالله… وكما يحتاج تحمل هموم العمل ومتاعبه إلى صدر واسع، فإن تحمل المعرفة، والعرفان بالله تعالى، وسننه، والاستنارة بنور الله، وهداه، والإسلام، والإيمان يحتاج إلى صدر واسع. يتلقى من لدن الله تعالى العلم والمعرفة والهدى والنور والإسلام، وكما يحتاج تحمل هموم العمل إلى شرح الصدر، كذلك يحتاج تحمل معرفة الله إلى شرح الصدر.

وقد ورد ذكر شرح الصدر بالإسلام، وهو من النوع الثاني من شرح الصدر في موضعين من القرآن الكريم. يقول تعالى:

{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُور مِن رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلاَل مُبِين}[1].

ويقول تعالى:

{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاِْسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ}[2].

و «شرح الصدر» هنا هو «شرح الصدر» الذي قدّمناه في الفصل الأول من هذه الرسالة إلاّ أن الصدور هنا تتسع لمعرفة الله، ومعرفة سنن الله، ولما ينزل الله ـ تعالى ـ على عباده من نور وهدى وإسلام وإيمان ويقين… وهذا نوع آخر مما ينزل على الصدور غير النوع الأول.

ولله تعالى نور من المعرفة والإسلام واليقين ينزله على الصدور، كما يوسّع صدور الصالحين من عباده لهموم العمل والدعوة.

ولله تعالى نور من المعرفة والإسلام واليقين ينزله على صدور عباده، تتلقاه صدورهم، كل بحسب إنائه وسعته… فمن شرح الله تعالى صدره، تلقى الكثير من النور والمعرفة، ومن ضاق صدره، فلا يتلقى من هذا النور شيئاً، وبين هؤلاء وأولئك مراتب ومراحل من الشرح والضيق… ولتوضيح هذه الحقيقة لابد أن نشير إشارة سريعة إلى مسألة الفيض، وهي مما شرح الله تعالى بها صدر كاتب هذه السطور، ومنها ننتقل إلى ما نحن فيه من مسألة «شرح الصدر».

نظرية الفيض

وهذه النظرية لها طرفان، طرف منها يتعلق بالله تعالى، مصدر الفيض والرحمة، والطرف الآخر يتعلق بالممكنات التي تستقبل الفيض والرحمة من لدن الله تعالى…

الطرف الأول هو الله تعالى يفيض على عباده وخلقه من رحمته وفضله… وهذا الفيض من الرحمة الإلهية يفيض من عند الله، بصورة دائمة ومستمرة، وبلا انقطاع، وبلا حدود، إلا أن الطرف الثاني، وهو «الممكنات»، يتلقى هذا الفيض من الرحمة الإلهية بمقدار ما يتسع لـه إناؤه، وبمقدار فقره وحاجته وطلبه…

وللفقر والحاجة في الممكنات حالتان تستنزلان رحمة الله تعالى، الحالة الأولى حالة الاستعداد لقبول رحمة الله، وهي ما عبرنا عنه باختلاف أواني الممكنات لتلقي رحمة الله، والحالة الثانية هي حالة «الطلب» و«الدعاء».

فلا شك أن لكل ممكن إناء يخصه من الاستعداد والقابلية لقبول وتلقي رحمة الله تعالى، وتختلف الأشياء في سعة أوانيها وضيقها، وكل يتلقى من رحمة الله تعالى بمقدار إنائه واستعداده، وقابليته لقبول هذه الرحمة…

وليس في رحمة الله شح أو بخل أو ضيق أو حد، فهي نازلة على كل الممكنات من دون حدود وبصورة مستمرة ومتصلة، إلا أن كل شيء يتلقى من هذه الرحمة الإلهية ما يتناسب مع استعداده وقابليته لقبول رحمة الله وسعة إنائه…

فالإنسان مثلا، وهو من أشرف الكائنات، يختلف في سعة إنائه وقابليته لقبول رحمة الله عن الحيوان… وكلاهما فقير إلى رحمة الله… والفقر والحاجة إلى رحمة الله في كل منهما، يستنزل رحمة الله تعالى، إلا أن إناء الإنسان وقابليته واستعداده التكويني لقبول رحمة الله أوسع بكثير من إناء الحيوان وقابليته واستعداده. لذلك فهو يستنزل من مواهب الله تعالى ورحمته أكثر مما يستنزله سائر الحيوانات من المواهب الإلهية ومن رحمة الله.

وهذا هو المقصود بالإناء والاستعداد في الممكنات، وهو نحو من الطلب، إلا أنه بلسان الحال والاستعداد، وليس بلسان المقال… والنحو الآخر من الفقر هو حالة «الطلب» و«السؤال» من الله تعالى و«الدعاء» وهي حالة فقر وحاجة واستعداد، إلا أنها «حالة واعية» بعكس الحالة السابقة فإنها كانت حالة من الاستعداد والقابلية غير الواعية… وهذا الطلب بلسان المقال في مقابل الطلب بلسان الاستعداد والحال…

والحالة الثانية وهي («حالة الطلب» و«الدعاء» و«السؤال») من الله تعالى أكثر استيعابا لرحمة الله تعالى من الحالة الأولى وهي «الاستعداد أو غير الواعي».

وكلاهما طلب وحاجة، إلا أن الطلب والحاجة عندما تكون مقرونة بالوعي، وتأخذ صفة السؤال والدعاء تستنزل رحمة الله أكثر من الحالة الأخرى.

وهذا إجمال لابد له من تفصيل، وإليك هذا التفصيل:

الرحمة النازلة

إن الرحمة الإلهية كما قلنا تفيض على الممكنات فيضاً دائماً مستمراً من خزانة رحمة الله، وينال كل ممكن من هذه الرحمة الإلهية الفائضة على الممكنات حصة منها بقدر استعدادها وطلبها…

يقول تعالى:

{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}[3].

ويجري هذا الفيض على الممكنات من دون غوص، ولا فائدة تعود إليه سبحانه وتعالى، فهو الغني عن خلقه، وخلقه الفقراء إليه.

وهذا الفيض من رحمة الله يجري من مصدر الفيض ومبدأ الرحمة، من لدن الله جل شأنه، بصورة مستمرة ودائمة، ومن دون حدود على عالم الممكنات، كما يجري شعاع الشمس من الشمس، وجل ربنا وتعالى عن التشبيه بخلقه… وكل شيء يتلقى من هذه الرحمة النازلة من عند الله تعالى بحسب استعداده ومقدار سعة إنائه، كما يتلقّى كل شيء في دائرة المجموعة الشمسيّة حظاً من نور الشمس وحرارتها بمقدار إنائه وحجمه وقابليته.

والقرآن يعبر عن منبع الفيض ومبدأ الرحمة الإلهية بـ«الخزائن»، وعن إفاضة الرحمة على الممكنات بـ«النزول»، فيما تقدم من قوله تعالى:

(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ).

ونزول الرحمة هو إفاضة الرحمة الإلهية من خزائن رحمة الله على مواضع الفقر والحاجة من عالم الممكنات.

وقد ورد في نصوص الأدعية: «يا دائم الفضل على البرية»[4] إشارة إلى هذا الفيض الدائم والمستمر على الممكنات والكائنات.

وهذه الرحمة النازلة هي كلمات الله، وليس لكلمات الله من حد ولا نفاد…

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِذَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيرٌ حَكِيمٌ}[5].

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}[6].

وكلمة الله هي فعله، وما يفيض سبحانه من وجود على الممكنات، يقول تعالى:

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[7].

ويقول أمير المؤمنين (ع):

«كلامه سبحانه فعل منه أنشأه»[8].

الفقر والحاجة في عالم الإمكان

إن رحمة الله تنزل من لدن الله تعالى، من دون حدود ولا حساب، وبصورة مستمرة، وتتوجه هذه الرحمة الإلهية حيث يكون فقر وحاجة…

وكل ممكن «وقوام الإمكان الفقر والحاجة» يأخذ من هذه الرحمة الإلهية…

وأساس هذه الإفاضة من جانب الله تعالى كرمه وجوده وغناه، ومن جانب الممكنات حاجتها وفقرها… ولكن كل ممكن من الممكنات يتلقى من رحمة الله بقدر سعة إنائه، فكلما يكون إناؤه أوسع، وقابليته على استيعاب رحمة الله أكثر يكون نصيبه من رحمة الله أوسع… شريطة أن لا ترد رحمة الله ولا ينغلق دونها.

كما أن المطر ينزل من السماء فتجتذبه الأراضي الرخوة والواطئة، وكلما يكون مستوى الأرض أوطأ تكون الأرض أكثر قابلية لاجتذاب مياه الأمطار.

وكلما تكون مساحة الأرض أوسع تزداد قابليتها لاجتذاب مياه الأمطار أكثر، فالحفرة الصغيرة من الأرض لا تتسع لما تتسع له بحيرة من الماء… كما إن الأرض كلما تكون رخوة أكثر تكون قابليتها في اجتذاب وامتصاص الأمطار أكثر…

فهذه ثلاثة عوامل:

1 ـ الموقع الواطئ للأرض «وهو يمثل عنصر الفقر فيما نحن بصدده».

2 ـ مساحة الأرض «وهي تمثل عنصر الاستعداد والقابلية فيما نحن فيه».

3 ـ رخاوة الأرض «وهي تمثل عنصر القبول، وعدم رفض الرحمة الإلهية فيما نحن فيه في مقابل حالة القساوة والإعراض عن رحمة الله».

وهذا المثال وإن لم يكن ينطبق تماماً على الموضوع الذي نحن بصدده، ولكنه يوضحه إلى حد كبير… ونحن لا نتوخى منه إلا توضيح هذه العلاقة بين إفاضة الرحمة والوجود من لدن الله تعالى، واختلاف الممكنات في درجة قبولها وتلقيها لهذه الرحمة الإلهية.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الزمر: 22.
  • [2] ـ الأنعام: 125.
  • [3] ـ الحجر: 24.
  • [4] ـ المصباح للكفعمي: 647.
  • [5] ـ لقمان: 27.
  • [6] ـ الكهف: 109.
  • [7] ـ النحل: 40.
  • [8] ـ نهج البلاغة الخطبة رقم: 184.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى