ثقافة

شرح الصدور وضيقها في الابتلاء

الانشراح

أكثر ما ينتاب العاملين من ضيق في الصدر وحرج عندما يدعوهم الله تعالى ورسوله للنهوض بأعباء الدعوة إلى الله في الأوساط الجاهلية، فيقدّرون ما يواجهون من متاعب جمة في صراع الطاغوت وجنده وحزبه، وما تتطلبه هذه المواجهة من تضحية، وعمل، وكدح، وجهاد طويل، ومعاناة مريرة، وما يحول بينهم وبين دعوة الناس إلى الله من عقبات صعبة. فتنتابهم أحياناً حالة ضيق الصدر. أن مثلهم في هذه الحركة كمن يعاكس تياراً قوياً جارفاً وحده، ويقوم لوحده بمعاكسة هذا التيار، وتغيير مجراه، وانهم لمخلصون صادقون وأنبياء ومرسلون، ولكن ضخامة المهمة والمسؤولية تثير في نفوسهم المخاوف…

وإن القرآن الكريم ليحدثنا عن قصة رسول الله موسى بن عمران (ع) عندما أمره الله تعالى بالقيام بالأمر ودعوة فرعون إلى الله تعالى:

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[1].

فيخاف موسى بن عمران (ع) من أن يكذِّبه قوم فرعون ويحاربوه، فيضيق بذلك صدره. وها هو موسى (ع) وأخوه هارون عندما أمرهما الله تعالى أن يذهبا إلى فرعون يفصحان عن مخاوفهما من هذه المسؤولية الخطيرة…

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[2].

ونقرأ في سورة هود من قصة رسول (ص)عندما نهض بهذا الأمر بأمر من الله تعالى وواجه تحديات قريش الصعبة: {فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقُ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيلٌ}[3].

فلعل رسول الله (ص)كان يضيق بما كان يواجه من تحديات قومه من عتاة قريش.

وها هو مشهد آخر من القرآن الكريم عن هذه الحالة التي كانت تعتري رسولُ الله (ص)بين حين وآخر في مواجهة جبابرة قريش وأساليبهم اللئيمة.

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[4].

وأن الله تعالى يشرح صدر رسوله (ص)من هذا الضيق بوعد وتعليم… أما الوعد فهو: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)، وأما التعليم فهو: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ).

ويخاطب الله تعالى نبيه، ويأمره ألا يضيق صدره وإلا يصيبه حرج في صدره من النهوض بأمر الإنذار بهذا الكتاب في هذا الوسط الجاهلي الشاحن بالتمرد والعصيان، فيقول تعالى:

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[5].

وإذا كان الأمر على هذه الحالة في رسول الله (ص)وفي كليم الله موسى بن عمران وأخيه‘ وقد عصمهم الله تعالى من كل ضعف مخل، فماذا ترى نصيب الدعاة من غير الأنبياء والرسل (ع) من ضيق وحرج في الصدور وضعف في النفوس، حينما ينهضون بأمر الدعوة إلى الله وسط هذه الحضارة الجاهلية المتمردة على الله ورسوله.

شرح صدور الأنبياء (ع)

ولذلك فإن أول ما يحتاجه الأنبياء (ع) والدعاة إلى الله من غير الأنبياء في القيام بهذا الأمر هو «شرح الصدر» والخلاص من الضيق الذي ينتاب صدورهم عند النهوض بهذا الأمر وفي مواجهة الجاهلية والطاغوت….

ونقرأ في كتاب الله إنّ أول ما طلبه موسى (ع) من الله تعالى عندما أمره الله تعالى أن ينهض بمسؤولية الدعوة إلى الله… هو أن يشرح الله صدره. يقول تعالى:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى.. * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتيِتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى}[6].

وشرح الصدر هنا في مواجهة الابتلاء والمعاناة والصراع المرير، الذي يواجهه (ع) في دعوة فرعون وقومه إلى الله تعالى.

وآية ذلك هو سؤال موسى (ع) من الله تعالى أن يُيسر لـه أمره في هذه المهمة، وأن يرسل معه أخاه هارون، ويشد به أزره.

ودعاء موسى (ع) دعاء عبد خبير بحاجته، دقيق في طلبه، فهو يدعو الله تعالى من ناحية أن يشرح صدره {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ويبسط له صدره، ليتحمل ما يواجهه من ألوان المعاناة والابتلاء، ويدعو الله تعالى في الفقرة الثانية عقيب ذلك مباشرة، بأن يخفف لـه الأمر ولا يحمله ما لا يطيق {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}. وهو دعاء عبد خبير بضعفه وعجزه بين يدي الله وحاجته إلى تأييد الله تعالى، ودعمه في مثل هذه المَهَمة الشاقة العسيرة…

ونقرأ في القرآن الكريم أيضاً إن من أوائل تأييد الله تعالى لعبده ورسوله (ص)هو «شرح الصدر» الذي منّ الله تعالى على نبيه، يقول تعالى:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[7].

وشرح الصدر هنا في مواجهة الابتلاء والعسر والشدة التي واجهها رسول الله (ص)من دعوة الناس إلى الله. وآية ذلك ما يأتي فيما بعد ذلك ضمن هذه السورة: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ).

فلا يَدَعُ الله تعالى رسوله (ص)أمام هذه المسؤولية الضخمة وحده، وإنما يشرح صدره لما يواجهه من هموم وابتلاءات ومتاعب ومحن وعقبات، حتى لا يضيق بشيء من ذلك، وحتى يتحمل كل ذلك، ويستوعبه، ثم يعده بأن يجعل له من بعد كل عسر يسراً، مؤكداً ذلك مرة بعد أُخرى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ).

وإذا شرح الله تعالى صدر عبده، فلا ينال منه شيء ولا يعجزه شيء، ولا يضيق بشيء… وأن أول فشل الإنسان في مهمته هو فشله في نفسه، وأول ضعفه ليس في ساحة عمله، وإنما هو في ساحة نفسه، فإذا عجز في هذه عجز في تلك، وإذا انتصر في هذه انتصر في تلك.

و«شرح الصدر» شأن من شأن الله تعالى، والله تعالى هو وحده الذي يشرح صدر من يشاء من عباده، ولا شأن للإنسان فيه. ولو لا أن يشرح الله تعالى صدر عباده، لما وسع الإنسان أن يتحمل أذى هذه الابتلاءات والمصائب والهموم. وأن الإنسان لتشوكه الشوكة وتلسعه الحشرة من هوام الأرض فتسلبه الراحة والنوم… فإذا وقع هذا الإنسان نفسه تحت أيدي الجلادين من جلاوزة الطاغوت ثبت كالجبال، لا يرضخ ولا ينثني، ولا يستجيب، ولا يقر، ولا يذعن، مهما ينالون منه… ومهما يصبون عليه من العذاب.

وأن الإنسان ليواجه مشكلة من هذه المشاكل الصغيرة داخل البيت، فيعجز عن مواجهتها، ثم يأمره الله تعالى، فينهض بأمر الدعوة إلى الله وسط الجاهلية المتمردة عن أمر الله، وبين هؤلاء المستكبرين والطغاة ثابتاً كالجبال، لا ينال من همته أذى أو سوء.

والقرآن واضح وصريح في نسبة شرح الصدر إلى الله تعالى: و«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» في مقام الامتنان من الله تعالى على عبده ورسوله: و(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) في مقام الدعاء والسؤال من العبد بين يدي ربه سبحانه.

وفي كل مورد يستعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بهذا المعنى أو بمعنى شرح الصدور للإسلام ينسبه إلى الله تعالى.

شرح الصدر بالكفر

وهناك نحو آخر من شرح الصدر، في مقابل هذا النحو من الشرح، وهو شرح الصدر للكفر، لا ينسبه القرآن إلى الله، وإنما يقوم به الإنسان نفسه، وهو أيضاً بمعنى البسط للصدر، ولكن بسطاً يمكن الصدور من استيعاب كل ألوان الضلالة والحقد واللجاج والعناد والبغضاء والمكر والخبث…

ولا شك أن استيعاب هذه الظلمات جميعاً يحتاج إلى سعة وبسط في الصدور، كما يحتاجه استيعاب الحق والنور، والابتلاءات والمحن في سبيل الله.

إلا أن هذا البسط والسعة يمكِّن صاحبه من استيعاب الظلمات والشر، وذلك البسط والسعة يمكن صاحبه من استيعاب النور والخير، يقول تعالى:

{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ..أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[8].

وهؤلاء الذين شُرِحوا بالكفر صدراً هم الغافلون الذين طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم. وهذا الشرح ينسبه القرآن إلى الإنسان نفسه.

ومهما يكن من أمر فإن شرح الصدر لتحمّل الابتلاء وهموم الدعوة والعمل والحركة إلى الله تعالى شأنه من شأن الله تعالى… لا دخل للإنسان فيه كما ذكرنا.

مفتاح شرح الصدور

ولئن كان شرح الصدور من فعل الله تعالى ولا شأن للإنسان فيه، فإن مفتاح ذلك بيد الإنسان، كسائر ما يرزق الله تعالى عباده من رزق، وإذا عرف الإنسان هذا المفتاح واستعمله، فان الله تعالى يشرح له صدره، ولا يناله ضيق أو حرج في الطريق إلى الله، وفي تحمل هموم الدعوة إلى الله، وفي تحمّل أعباء الحركة إليه تعالى:

وقد جعل الله تعالى لذلك مفتاحين:

1 ـ الطلب.

2 ـ المعرفة.

وفيما يلي نشرح هذين المفتاحين في حدود آيات كتاب الله.

الطلب

نقصد بالطلب (الحركة) و(الدعاء) وكلاهما طلب. إن الذي يتحرك ويعمل ويسعى ويحاول، يطلب والذي يدعو الله في إنجاح مهمته وتيسير المسؤولية التي ألقاها عليه وتذليل عقبات الطريق، يطلب أيضاً.

إن الإنسان يحاول، ويسعى، ويتحرّك، ويجاهد، ويقاوم، فيطلب تحقيق رسالة الله تعالى في الحياة بجهده المتواضع اليسير، فإذا دعا الله تعالى أن يعينه، ويأخذ بيده، ويهديه، ويسدده، ويوفقه، ويذلل لـه الصعاب أضاف إلى حوله وقوته البسيطة حول الله تعالى وقوته العظيمة، فيكون قادراً على تحمل الأعباء الثقيلة، وعلى المضي في الطريق الطويل، وعلى القيام بالمسؤوليات الصعبة من غير غرور ولا بطر، لأنه يعلم أنّه إنما يفعل بحول الله تعالى وقوته، وليس بحوله هو وقوته، وإن كان عليه أن يضع جهده البسيط في كفه ليستنزل به حول الله وقوته. فإن الله تعالى إذا رأى الصدق من عباده في ساحة العمل، ورأى أنهم نهضوا بأعباء العمل بحولهم وقوتهم البسيطة، أنزل عليهم حوله وقوته العظيمة، وأضاف إلى حولهم حوله والى قوتهم قوته.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[9].

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[10].

فالطلب هو مزيج من حركة الإنسان وسعيه وجهده، ومن دعائه وتضرعه إلى الله، ليقف معه، ويعينه ويسدده، ويذلل له العقبات، وييسر له الصعاب.

وإننا لنقرأ هذه الآيات المباركة من سورة (المزمل) التي نزلت في أوائل الوحي على قلب رسول الله (ص)، فنرى أن الله تعالى يُعَلِّمُ رسوله (ص)«الطلب»، في الليل والنهار، ويُنَظِّمُ له الطلب في منهج منظم ودقيق، بين الليل والنهار… سعي وحركة، وسبح طويل في ساحة العمل والمواجهة والدعوة في النهار، ودعاء، وتضرع، وصلاة، ومناجاة بين يدي الله تعالى في الليل:

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}[11].

كل هذا الإعداد النفسي والحركي الواسع لرسول الله (ص)لأن الله تعالى سوف يلقي عليه «قَوْلاً ثَقِيلاً»، إن القرآن يشطر حياة الدعاة إلى الله شطرين: شطر في الليل وشطر في النهار. وعن الشطر الأول يقول تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً). وما أدراك ما قيام الليل، إن قيام الليل بين يدي الله يؤدي دوراً هاماً في نشوء وتكوين الداعية وبناء شخصيته، وتوطئته وإعداده للنهوض بأعباء القول الثقيل وفي تقويم قيله ومنطقة: «إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً».

والشطر الآخر في النهار وفي ساحة العمل والمواجهة والمعاناة: «إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً»…

والتعبير بالسبح تعبير دقيق وجميل، فإن السابح يغالب الجاذبية ليبقى على الماء ولئلا يغرق في الماء ويغالب التيار، لئلا يجرفه التيار معه، وإذا غفل عن مهمته وتوقف عن الحركة لحظة واحدة، أغرقه الماء وجرفه… كذلك العمل في ساحة المواجهة والدعوة، يتطلب حركة دائمة وحذراً دائماً من دون انقطاع.

والقرآن يجمع «السعي» و«الدعاء» تحت عنوان «الصبر والصلاة» في أكثر من آية. والسعي هو الصبر في التعامل مع الواقع والتعامل مع الواقع يتطلب الصبر، والدعاء هو الصلاة.

إذن الصبر والصلاة هما العنصران المقومان للطلب، وكل طلب ينبغي أن يتقوم بالصبر والصلاة.

يقول تعالى: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[12].

ويقول تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}[13].

ويقول تعالى في سورة هود وهو يعلّم رسوله كيف يواجه عتاة قريش ومردة العرب في بدء الرسالة: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[14].

والقرآن كتاب «الطلب» يدعو المؤمنين إلى الحركة والعمل والنزول في ساحة المواجهة والدعوة والمعاناة، ويدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[15].

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[16].

{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[17].

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ..}[18].

وهذا هو أحد شطري الطلب، والشطر الآخر للطلب هو الدعاء واللجوء إلى الله تعالى.

والقرآن يوجه الإنسان إلى الله للدعاء والتضرع:

{قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ}[19].

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[20].

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[21].

ويعلمنا القرآن كيف كان المؤمنون الأوائل يدعون الله تعالى ويلجأون إليه في ساحة المواجهة والمعاناة، فينقل لنا طرقاً من أدعيتهم:

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[22].

ويعلمنا القرآن كيف ندعو الله تعالى وماذا نطلب منه في ساحة المواجهة والعمل، ومن أروع الأدعية، الآيات الأواخر من سورة البقرة:

{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[23].

فالقرآن كتاب «طلب» بشطريه: الحركة في ساحة العمل والمواجهة، واللجوء والتضرع والدعاء بين يدي الله تعالى…

والطلب أحد مفتاحي شرح الصدر.

فإذا تحرك العاملون في سبيل الله، ونزلوا ساحة المواجهة والعمل، وجاهدوا، وهاجروا، وأقبلوا على الله تعالى، يطلبون منه النصر، والتأييد، والتوفيق، والتيسير، وتذليل العقبات… فإن أول ما يرزقهم الله تعالى من رزق هو أن يشرح صدورهم لما يواجهونه من هموم، ومتاعب، وعقبات صعبة، وتحديات كبيرة، فيهون عليهم ذلك كله…

إن المتفرجين على الساحة من هامش الساحة يتصورون بعض ما يلاقيه العاملون في الساحة من جهد ومعاناة وابتلاء، فتضيق بذلك صدورهم، وتنقبض نفوسهم، فإذا نزلوا إلى الساحة، وتحملوا هموم العمل في سبيل الله، وواجهوا متاعبه وآلامه، اتسعت صدورهم لما كان تضيق به من قبل، وشرح الله تعالى صدورهم له.

إن الناس يقولون بأن الساحة تأخذ وتعطي، تأخذ من الناس اهتمامهم وجهدهم، وتعطيهم سعة الصدر والتحمل والقدرة على المقاومة… ونحن نقول إن الساحة لا تعطي شيئاً، وإنما الله تعالى هو الذي يمنح العاملين في الساحة سعة الصدر، ولكن مفتاح هذا الرزق الإلهي هو النزول إلى الساحة، وطلب المواجهة والمعاناة، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، ومعين ذلك القرآن.

المعرفة

والمفتاح الآخر لسعة الصدر، معرفة الله تعالى، ومعرفة سنن الله تعالى، وإن من الرزق ما يفتح الله أبوابه على عباده بالمعرفة… وشرح الصدر من ذلك كمن يوجد تحت قدميه كنز ولا يعرف موضعه، فإن مفتاح هذا الكنز معرفته… كذلك شرح الصدر شأن من شأن الله تعالى، ومفتاحه معرفة الله وصفاته الحسنى وسننه وفعله، ولابد من توضيح لهذه العلاقة بين المعرفة وشرح الصدر…

وقبل أن أتَحَدثُ عن علاقة المعرفة بشرح الصدر، أحب أن أذكر إن لشرح الصدر وضيق الصدر مراحل ومراتب. فما يكون مصداقاً لضيق الصدر في رسول الله (ص)وفي موسى وهارون‘ قد يكون بالنسبة إلينا من شرح الصدر.

فإذا استدرجتنا ضرورة الحديث في هذا الموضوع الدقيق إلى نسبة ضيق الصدر إلى رسول الله (ص)والى سائر أنبياء الله (ع) انسجاما مع ما يذكره القرآن من هذا الأمر… فإننا لا نريد أن ننسب إليهم (ع) ما نجده في أنفسنا من ضيق وحرج في الصدر واستغفر الله تعالى، إذا استدرجنا الكلام إلى ما يوحي بهذا المعنى أو ما يشبهه.

ونعود مرة أُخرى إلى ما كنا بصدده من حديث عن علاقة المعرفة بشرح الصدر فنقول:

1 ـ إن من مفاتيح شرح الصدر معرفة سنة الله تعالى في الابتلاء، فإذا عرف الدعاة إلى الله إن الابتلاء سنة شاملة للناس جميعاً، وهي للمؤمنين تمحيص وتطهير وتزكية، وللكافرين محق وهلاك…

وإن الله تعالى جعل الابتلاء في الإنسان طريقاً إلى الكمال، وطريق الإنسان إلى الجنة، وإن المؤمنين لا يشقون طريقهم إلى الجنة إلا من خلال الابتلاء، زال عن صدورهم ما يجدون من ضيق وحرج في مواجهة الابتلاء والمحنة، يقول تعالى:

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[24].

2 ـ وإنما تضيق صدور العاملين بما يجدون أمامهم من عقبات وصعوبات في الطريق، لأنهم لا يحسّون جيداً، وكما ينبغي، معية الله تعالى لهم في كدحهم وجهادهم، فإذا آمنوا بأن الله تعالى معهم في هذا الكدح وهذا الجهاد، وأن يد الله معهم، لا تفارقهم في هذا الطريق الصعب، زال عنهم ما يجدونه من ضيق وحرج في صدورهم.

ولذلك نرى أن موسى وأخاه‘ عندما أفصحا عن خوفهما من أن يفرط عليهما فرعون ويطغى، وهو في ملكه وسلطانه، وضاق صدرهما بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله، و: «قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى»… علم الله سر هذا الضيق في صدرهما، فأراد ربك أن يذهب عنهما ما يجدانه من خوف وضيق في الصدر، فـ: «قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»…فذكر الله تعالى لهما أنه معهما يسمع ويرى…ولقد كان هذا الإحساس بمعية الله تعالى لهما كافياً ليذهب عنهما ما كانا يجدانه من ضيق وخوف.

3 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر للعاملين أن يعلموا إن فترة الابتلاء والمحنة مهما قست ضراوتها قصيرة، وإن سنة الله تعالى في عباده الصالحين أن يجعل لكل ابتلاء ومحنة انفراجا، ولكل عسر يسراً، وإن هذه المحن والابتلاءات مهما طالت وقست فلابد أن يعقبها اليسر والانفراج…

ولقد أكد الله تعالى لرسوله (ص)في بداية الوحي وفي شدة المحنة وضراوتها هذه الحقيقة بصورة مؤكدة ومتكررة:

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[25].

ويقول تعالى في لهجة قوية قاطعة:

{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْر يُسْراً}[26].

4 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر أن يعرف الدعاة إن هذا الصراع مهما طال وقسى، فلابد أنّ ينتهي بانتصار حزب الله وهزيمة حزب الشيطان…

{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[27].

{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[28].

وإن الله تعالى قد كتب الغلبة في هذا المعترك، له ولرسوله وللدعاة إليه:

{كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[29].

ومهما قسمت ظروف المواجهة وطالت المحنة، واشتدت ضراوة المعركة فلابد أن يُظْهر هذا الدين على الدين كله:

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[30].

وإن طبيعة الحق هو الظهور، وطبيعة الباطل هو الهلاك والخسران:

{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[31].

وإن الله تعالى يقذف على الباطل بالحق فيزهقه:

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}[32].

ولقد أوحى الله تعالى إلى عبده وكليمه موسى (ع) بين يدي المسؤولية الكبيرة التي ألقاها على عاتقه بهذا الوعد الإلهي القاطع، وبهذه الإرادة الإلهية الحاسمة:

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[33].

وإن الدعاة إلى الله تعالى إذا عرفوا جيداً هذا الوعد الإلهي هان عليهم ما يواجهونه من محنة وابتلاء، واتسعت صدورهم لما يواجهونه من ألوان العذاب والابتلاء.

5 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر في المعركة المحتدمة بين حزب الله وحزب الشيطان، أن يعلم المؤمنون أن النصر من الله تعالى، وأن الله تعالى هو الذي يعطي النصر ويحققه، وليس النصر للبطش والبطر والرياء، وليست القوة ولا السلطان هو الذي يصنع النصر، وإنما الله تعالى هو وحده يصنع النصر…

فإذا عرف حزب الله أن النصر بيد الله تعالى وليس لأي عامل آخر دور في صنع النصر، قويت عزيمتهم، وقوي أملهم، وشرح الله تعالى صدورهم، لما يصيبهم من وعثاء المعركة، مادام أمر النصر بيد الله تعالى، مولاهم…

والقرآن يقرر هذه الحقيقة بصورة مؤكدة ومتكررة ورائعة:

{وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ}[34].

{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[35].

{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[36].

{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ}[37].

6 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر أن يؤمن الدعاة إلى الله تعالى إيماناً يقينياً، تطمئن إليه قلوبهم، إنما يَعِدُ الله تعالى عباده من نصر وتأييد ومعية حقيقية لا يخلفها الله تعالى… وإننا لنؤمن بأن الله تعالى لا يُخْلِفُ وعده، وإنه الصادق الوفي، ومن أصدق من الله قيلا.

ولكن ترسيخ هذا الإيمان في النفس وتثبيته يزيل من نفوس الدعاة إلى الله كل ضيق وحرج وخوف، ويمنحهم سعة الصدر في ظروف المحنة والابتلاء، ويكرر القرآن ويؤكد هذه الحقيقة الإيمانية في مواضع كثيرة:

{فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام}[38].

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}[39].

{وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}[40].

{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}[41].

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَيُوقِنُونَ}[42].

7 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر أن يعلم المؤمنون الدعاة أن الأمر كله في هذا الكون بيد الله تعالى لا يشاركه فيه أحد، ولا سلطان لغير الله في هذا الكون كله… وان الأمر كله لـه أولاً وأخيراً وظاهراً وباطناً، وهو الحاكم المنفرد بالحكم والسلطان في هذا الكون… وإننا لنؤمن بهذه الحقائق إيماناً قطعياً، ولكننا عندما نصغي إلى القرآن يقرر هذه الحقائق الكونية الهائلة في الوقت الذي يبرز الطاغوت وجنده وحزبه لمغالبة سلطان الله وللاعتداء على حاكمية الله تمتلئ نفوسنا ثقة وطمأنينة، ويزول ما في نفوسنا من ضيق وخوف وقلق وارتباك، ونحس ببرد الطمأنينة يلامس صدورنا والقلوب التي في الصدور، وتنشرح لها صدورنا بإذن الله. فما بالنا نقلق ونرتبك في وسط هذا الخضم المتلاطم والأمر كله بيد الله مولانا، وله الحكم وله الأمر، أولاً وأخيراً…

إذن فلنستمع إلى كتاب الله يقرر هذه الحقيقة:

{وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[43].

{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}[44].

{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[45].

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ}[46].

{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[47].

{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}[48].

8 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر أن يعلم المؤمنون العاملون أن الله تعالى قوي عزيز لا يعجزه شيء، وكما كان الحكم والأمر والسلطان كله لله تعالى في هذا الكون، فإن القوة كلها لله تعالى أيضاً… لا يزاحمه شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يغلبه شيء… وإن الدعاة إلى الله ليحسون بهذه الحقيقة وبأن القوة والقدرة كلها في قبضة الله مولاهم، وأن الطاغوت وحزبه مهما تطاولوا على الله تعالى، ومهما أقدرهم الله في غيهم وطيشهم، فلن يغلبوا الله ولن يعجزوا الله، وإن الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، فتطمئن نفوسهم وتنشرح صدورهم، وتمتلئ نفوسهم ثقة وطمأنينة في قلب المعركة وضراوة المحنة، واستمع إلى كتاب الله يقرر هذه الحقيقة:

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}[49].

{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ}[50].

{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ}[51].

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[52].

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْء فِي السَّماوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}[53].

9 ـ ومن مفاتيح شرح صدور المؤمنين أن يعرفوا أن كل ما في السماوات وما في الأرض من شيء فهو جند لله تعالى، يأتمر بأمره، وينفّذ حكم الله، فلا ترهب المؤمنين عندئذ كثرة أعداء الله ورسوله، وضخامة قوة المستكبرين، ولا يضعفهم قلة عددهم، ويشعرون براحة وثقة وطمأنينة في صدورهم، فقد وعدهم الله تعالى بالنصر، ولن يخلف الله تعالى وعده، ولن يعجزه شيء عن تنفيذ وعده…

وكل ما في السماوات والأرض جند لـه، منقاد لأمره. فإذا أمر الله الرياح أن تعصف بهم لما أبقت منهم أحدا، وإذا أمر الله البحار والمياه أن تأخذهم لم يسلم منهم أحد، وإذا أمر الله الأرض أن تهتز من تحت أقدامهم لما بقيت منهم باقية، كما فعل الله تعالى بأمم من الظالمين من قبل، ولله تعالى جنود لا نراها. ينزلها، حينما يشاء لنصرة القلة المؤمنة، كما فعل ببدر، فلم تنفع المشركين كثرتهم:

{وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا}[54].

{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}[55].

{..إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا}[56].

{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[57].

{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ}[58].

10 ـ ومن مفاتيح شرح الصدر أن نعلم أنَّ الله تعالى يدخر جزاء العاملين للآخرة، والدنيا وما فيها ليست لهم جزاء، وإنما جزاؤهم الجنة، عند الله.

وما نقدمه لله تعالى في الدنيا من الأموال والأنفس فإن ثمنه الجنة:

{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[59].

وما النصر الذي يعدنا الله تعالى به في هذه الدنيا، ويحققه لنا إلا فرحة ومتاعاً من فضل الله، وليس مما يعبؤ به الله تعالى، وإنما الجزاء الحقيقي للمؤمنين عن سعيهم والذي يرتضيه الله تعالى لهم هو الفوز العظيم في الجنة بلقاء الله ورضوان الله، استمعوا إليه تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنجِيكُم مِنْ عَذَاب أَلِيم * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْن ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[60].

هكذا: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ).

وما في هذا الدنيا من متاع فهو فان ينفد، وما عند الله تعالى باق لا ينفد:

{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاق}[61].

وما متاع الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ينفد سريعاً، وينتهي أمده، وأما الآخرة فهي الحياة الحقيقية الباقية للإنسان:

{وَمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[62].

إن العاملين في سبيل الله والدعاة إلى الله يقرؤون هذه الحقائق في كتاب الله… فتطمئن نفوسهم إلى أن ما يفوتهم من هذه الحياة الدنيا ـ في سبيل الله ـ أمره هين يسير، وأن الله تعالى يعوضهم عما فاتهم من هذه الدنيا بالفوز العظيم في الجنة… فتطمئن نفوسهم وتنشرح صدورهم، ويستقلون ما يقدمونه لله تعالى في دنياهم لقاء ما يعطيهم الله تعالى من فضله في الآخرة.

القرآن بشرى للمؤمنين

هذه بعض مفاتيح «شرح الصدر» في كتاب الله… والقرآن معين ذلك كله، والدليل إليه… والذين يأنسون بكتاب الله ويتفاعلون معه، ويأخذون منه تطمئن نفوسهم إلى ذلك كله، ويجدون في القرآن بشرى لهم من الله في وسط المحنة والمعاناة والآلام والعذاب الذي يكتنف الدعوة إلى الله في الدنيا.

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}[63].

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[64].

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا}[65].

{تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[66].

إذن كتاب الله بشرى للمؤمنين يُطَمئنهم بوعد الله ويذهب عن نفوسهم آلام المحنة وضراوة المواجهة والصراع مع الطاغوت، ويَعدهُم ويعينهم، ووعد الله حق، والله تعالى لا يخلف وعده، بالفوز العظيم في الجنة، وفيما يحبّه الناس في الدنيا من نصر الله وفتحه القريب.

في القرآن تثبيت لقلوب المؤمنين

وبالقرآن يُثبّتُ الله قلوب الذين آمنوا، وتثبيت القلوب والأفئدة بمعنى «شرح الصدر»… وفي مقدمة هذه القلوب التي ثَبَّتها الله تعالى بالقرآن قلب رسول الله (ص)… فقد أنزل الله تعالى القرآن على قلب رسول الله (ص)مرتين. أنزله على قلبه (ص)مرة واحدة ليثقفه بثقافة القرآن وبصائره، ثم أنزله مجزئاً وتدريجياً على قلبه خلال ثلاث وعشرين سنة، قبل الهجرة وبعدها، وفي محنة الدعوة في مكة، وفي مواجهة قريش ومردة العرب والمنافقين واليهود بعد الهجرة، ليكون هذا القرآن بنزوله التدريجي تثبيتاً لفؤاد رسول الله (ص)وشرحاً لصدره…

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[67].

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[68].

ولا نحتاج إلى تبيان وقع هذه الكلمة ومعناها:

« نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ».

ويقص الله تعالى القصص على نبيه (ص)من أنباء الرسل في القرآن ليثبت به قلب رسوله في وسط المحنة والمعاناة:

{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[69].

وكذلك القرآن يثبت قلوب الذين آمنوا ويطمئنهم:

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}[70].

وإنما نزل الله القرآن تنزيلا، يقرأه رسول الله (ص)على المسلمين لهذا الغرض بالذات:

{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}[71].

مردودات شرح الصدر

وإذا شرح الله صدراً لهموم العمل وابتلاءاته وظروف الدعوة القاسية، فإن مردود هذه الصدور هو:

1 ـ التوكل والتفويض في علاقة العاملين في حقل الدعوة بالله تعالى.

2 ـ الصبر والاستقامة في علاقتهم بساحة العمل.

3 ـ السكينة في علاقتهم بأنفسهم.

وهذه من أهم ثمرات شرح الصدر في علاقة العاملين بالله تعالى وبساحة عملهم وبأنفسهم.

ولنوضح هذه النقاط الثلاثة توضيحاً موجزاً بقدر ما يرتبط بهذا الحديث.

إن «التوكل» في العلاقة بالله هو أن يوكل العبد أمره إلى الله تعالى، ويجعل الله تعالى وكيلا عنه في التصرف بأموره، في حركته ودعوته إلى الله تعالى.

إن من خصائص الذهنية الإيمانية أن لا يغتر المؤمن بنفسه وكفاءاته الذهنية والعملية، ولا يَعْتَدَّ بنفسه، بعكس التربية الغربية في الاعتداد بالنفس والاعتماد على النفس.

إنه في الوقت الذي يفكر ويخطط ويعمل يوكل أمره كله لله تعالى، ويجعل الله على أموره وكيلا، ويضع ثقته في الله تعالى… كما أن أحدنا يضع راس ماله وصلاحياته وسلطاته كلها تحت تصرف شخص آخر، ويتخذه وكيلا عنه في استخدام أمواله وصلاحياته وسلطاته… كذلك المؤمنون يضعون أنفسهم وما آتاهم الله من رأس مال في التفكير والتخطيط والجهد والعمل تحت تصرف الله تعالى، ويوكلونه في التصرف بما آتاهم من جهد وقوة، في هذا السبيل.

وليس هذا من «التواكل» و«التخلي» عن التفكير والعمل، وإنما يوكل الإنسان أمر تفكيره وقدراته إلى الله تعالى ليوجهها بالطريقة التي يرتضيها… فهو يفكر ويعمل، ولكن بتسديد من الله تعالى وحوله.

وأعمق من حالة «التوكيل» حالة «التفويض»، وهو أن يسلم الإنسان أمره كله لله تعالى، ويفوضه تعالى في أمره كله، يصنع به ما يشاء، ويسلم نفسه لله ـ تسليماً كاملا ـ وهو يعلم أن الله تعالى بصير بعباده، فيما يصنع بهم:

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[72].

وأعمق من حالة «التفويض» الرضا بأمر الله وهذه درجات في العلاقة بين العبد ومولاه.

والتوكيل والتفويض والرضا أمارة بالثقة بالله تعالى، وسلطانه، وحكمته، وبصره بعبده ورحمته به…. فإذا وضع الإنسان ثقته كلها في الله… فلا يتردد في أن يوكله سبحانه في أموره، ويفوض إليه تعالى أموره كلها، ثم يعمل، ويتحرك، ويخطط، ويفكر من منطلق الاعتماد على الله والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، وبهذه الثقة العالية، وليس من منطلق الاعتماد على النفس والاعتداد بها.

وتبادل التوكيل بين الله تعالى وعبده من أروع مفاهيم القرآن الكريم… فإن الله تعالى قد أودع عند عبده ما آتاه من فكر وجهد وجارحة وجانحة، وخوّله التصرف فيه بالوكالة عنه، وجعله خليفة لـه سبحانه، فيعود العبد مرة أُخرى بما آتاه الله، والعبد وما في يده لمولاه، فيطلب من ربه أن يكون وكيلا عنه في التصرف بما أودع لديه، وفي تصريفه، وتحريكه بالشكل الذي يرتضيه… يُمَلِّكُ الله عبده ما يؤتيه من رزق، ويخوله التصرف فيه بالنيابة عنه، فيعيد العبد إلى مولاه أمر ما خوّله فيه، ويضع ثقته في مولاه، ويطلب منه أن يكون وكيلا عنه قَيِّماً في تصريف وتحريك ما خوله فيه. هذا فيما يتعلق بعلاقة العبد بالله تعالى.

أما فيما يتعلق بعلاقة الإنسان المؤمن بساحة عمله وساحة الدعوة والجهاد، فإن مردود شرح الصدر هو «الصبر» و«الاستقامة»، وهما بمعنى الثبات أمام تحديات الساحة، ومواجهة مشاكل الدعوة ومتاعبها من دون تراجع، والاستمرار في مواصلة العمل بنفس ثابتة مطمئنة:

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}[73].

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[74].

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[75].

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}[76].

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزِمِ الأُمُورِ}[77].

وكل هذه التعليمات بالصبر والاستقامة تخص ساحة المواجهة والدعوة والعمل… ومن دون هذا الصبر والاستقامة والتماسك الداخلي في مواجهة تحديات الجاهلية ومشاكسة حزب الشيطان لا يستطيع الدعاة إلى الله أن يصمدوا ويقاوموا، ويتساقطون أثناء الطريق، وينهار بُنيانَهم الداخلي من الأساس… كما حدث ذلك لكثير من العاملين في سبيل الله، تساقطوا، وانهاروا، لأنهم لم يحسنوا الصبر والاستقامة، في مواجهة التحديات ومتاعب العمل….

أما فيما يتعلق بعلاقة الدعاة بأنفسهم، فإن مردود شرح الصدر هو «السكينة» في مقابل الارتباك والقلق.

فإن الدعاة إلى الله عندما يُسَلّحون أنفسهم بمعرفة الله تعالى وسننه، ويضعون ثقتهم في الله، تستقر حالة السكون والاستقرار والطمأنينة في أنفسهم، فلا ينتابهم القلق والارتباك، ولا تهزهم الأحداث، ولا تصيبهم الهزيمة داخل نفوسهم، ولا يشعرون بضعف وعجز.

إنها هي حالة السكينة التي أنزلها الله تعالى على رسول الله (ص)ومن معه من المؤمنين في وسط تحديات الجاهلية ومتاعبها.

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[78].

{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[79].

{فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا}[80].

والنازل من لدن الله تعالى هو «شرح الصدر» فإذا شرح الله تعالى صدر عباده، لتستوعب هموم العمل والدعوة، فإن سكينة النفس هي الأثر الطبيعي والحصيلة الناتجة منه.

ويصف أميرالمؤمنين (ع) المؤمن في مواجهة عواصف التحديات فيقول عنه:

«في الزلازل وقور»[81].

وهذا الوقار في وسط زلازل التحديات هو ما نقصده من «السكينة»، وهو مردود شرح الصدر في نفوس أولئك الذين أنعم الله عليهم وشرح صدورهم لهموم العمل ومتاعبه.

وكما أن «شرح الصدر» يُمَكّنُ المؤمنين من مواجهة واستيعاب هموم العمل، وظروف المحنة، ومتاعب الطريق، كذلك يُمَكّنُ المؤمنين من استيعاب وتحمل الابتلاءات والمصائب التي ينزلها الله تعالى على عباده، لتقويم شخصيتهم، وتعميق إيمانهم، ومقاومتهم وصبرهم… فليس كل الابتلاءات التي تصيب المؤمنين من قبيل إبتلاءات وهموم العمل، وإنما يصيبهم ما يصيب الناس عامة، ممّا ينزل على عباده في هذه الدنيا، من هموم وآلام ومصائب وابتلاءات شخصية. والناس أمام هذه الطائفة من الابتلاءات ينشطرون إلى شطرين، شطر يقاوم ويصبر، فيزيدهم الله تعالى مقاومة وقوة وتحملاً، وشطر ينهار فتسحقه عجلة الابتلاء.

إن سنة الابتلاء في حياة الناس رافعة خافضة، ترفع أناساً، وتحط آخرين، وتقوِّمُ طائفة من الناس، وتُسحق طائفة أخرى.

والأداة التي تمكِّن الإنسان من تحمل هذا النوع من الابتلاء والمصائب واستيعابها، وتمكِّن الإنسان من المقاومة والصبر أمام ضغط هذا الابتلاء هي أيضاً «شرح الصدر»… فمن آتاه الله تعالى سعة في صدره وشَرَحَ صدرَهُ وقلبَهُ تمكن من الثبات والصبر والمقاومة… ومن لم يرزقه الله تعالى شرحاً في صدره لا يثبت أمام ضغط الابتلاء والمصيبة.

ومفتاح شرح الصدر هنا، كما تقدم هو: «معرفة سنن الله»، ومردود «شرح الصدر» هو «الصبر» و«التسليم لأمر الله» و«الرضا بقضاء الله»… وذلك ينبع من عرفان الله تعالى، فإذا عرف الإنسان سنن الله تعالى في ابتلائه لعباده، وأنه السبيل لكمال الإنسان ونيل رضوان الله تعالى، فإنه يرضخ لحكم الله تعالى، ويُسَلِّمُ أمره كله لله، ويرضى بحكم الله، وكل ذلك حصيلة شرح الصدر.

ومن العجب أن «الصبر» من مفاتيح «شرح الصدر»، كما أن «شرح الصدر» من أسباب «الصبر»… فإن الله تعالى قد جعل الصبر نتيجة لشرح الصدر، كما أنه تعالى جعل شرح الصدر من آثار الصبر، فكلما يصبر الإنسان في محنته يرزقه الله مزيداً من شرح الصدر، وكلما يقاوم أكثر يتسع صدره للمقاومة أكثر من ذي قبل، كما أن العكس أيضاً صحيح، فإذا انهارت مقاومة الإنسان أمام ضغط الابتلاءات ضاق صدره بها.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الشعراء: 10 ـ 12.
  • [2] ـ طه: 43 ـ 46.
  • [3] ـ هود: 12
  • [4] ـ الحجر: 94 ـ 99.
  • [5] ـ الأعراف: 2
  • [6] ـ طه: 26ـ 37.
  • [7] ـ الانشراح: 1 ـ 8.
  • [8] ـ النحل: 106ـ 108.
  • [9] ـ العنكبوت: 69.
  • [10] ـ محمد: 7
  • [11] ـ المزمل: 1 ـ 8.
  • [12] ـ البقرة: 152.
  • [13] ـ البقرة: 145.
  • [14] ـ هود: 114 ـ 115.
  • [15] ـ آل عمران: 200.
  • [16] ـ آل عمران: 142.
  • [17] ـ النساء: 94.
  • [18] ـ الأنفال: 72.
  • [19] ـ الفرقان: 77.
  • [20] ـ غافر: 60.
  • [21] ـ البقرة: 186.
  • [22] ـ البقرة: 250.
  • [23] ـ البقرة: 286.
  • [24] ـ آل عمران: 140 ـ 142.
  • [25] ـ الانشراح: 5 ـ 6.
  • [26] ـ الطلاق: 7.
  • [27] ـ المجادلة: 22.
  • [28] ـ المجادلة: 19.
  • [29] ـ المجادلة: 21.
  • [30] ـ الممتحنة: 8.
  • [31] ـ الإسراء: 81.
  • [32] ـ الأنبياء: 18.
  • [33] ـ القصص: 5 ـ 6.
  • [34] ـ آل عمران: 13.
  • [35] ـ آل عمران: 126.
  • [36] ـ الأنفال: 10.
  • [37] ـ آل عمران: 160.
  • [38] ـ إبراهيم: 47.
  • [39] ـ الأنبياء: 9.
  • [40] ـ الحج: 47.
  • [41] ـ القصص: 13.
  • [42] ـ الروم: 60.
  • [43] ـ البقرة: 210، آل عمران: 109، الأنفال: 44، الحج: 76، فاطر: 4.
  • [44] ـ آل عمران: 154.
  • [45] ـ الأنعام: 57، يوسف: 40 و 67.
  • [46] ـ هود: 123.
  • [47] ـ الأنبياء: 23.
  • [48] ـ الروم: 4.
  • [49] ـ الأنفال: 60.
  • [50] ـ التوبة: 2.
  • [51] ـ النور: 57.
  • [52] ـ العنكبوت: 4.
  • [53] ـ فاطر: 44.
  • [54] ـ التوبة: 27.
  • [55] ـ التوبة: 41.
  • [56] ـ الأحزاب: 9.
  • [57] ـ الفتح: 4 ـ 7.
  • [58] ـ المدثر: 31.
  • [59] ـ التوبة: 111.
  • [60] ـ الصف: 10 ـ 12.
  • [61] ـ النحل: 96.
  • [62] ـ العنكبوت: 64.
  • [63] ـ الإسراء: 9.
  • [64] ـ النحل: 89.
  • [65] ـ مريم: 98.
  • [66] ـ النحل: 1.
  • [67] ـ الفرقان: 32 ـ 33.
  • [68] ـ الشعراء: 192 ـ 193.
  • [69] ـ هود: 120.
  • [70] ـ النحل: 102.
  • [71] ـ الإسراء: 107.
  • [72] ـ غافر: 44.
  • [73] ـ هود: 113.
  • [74] ـ فصلت: 30.
  • [75] ـ طه: 130.
  • [76] ـ الروم: 60.
  • [77] ـ لقمان: 17.
  • [78] ـ التوبة: 26.
  • [79] ـ الفتح: 26.
  • [80] ـ التوبة: 40.
  • [81] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10: 149.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى