ثقافة

وحدة المعاناة

وحدة المنطلق والمسيرة والغاية في رسالات الله

إن وحدة المواجهة والابتلاء والمعاناة في ساحات العمل تكشف
ـ عادة ـ عن وحدة الخط الفكري والعملي، فالذين يضعون أنفسهم في مهب الرياح السياسية، والذين يتجنّبون التقاطع مع ذوي النفوذ والسلطان السياسي في المجتمع، والمساومون، والمداهنون والمتاجرون لا يلقون مواجهة عنيفة في ساحة العمل.

وبالعكس نجد إن صبر العاملين على معاناة الطريق، يتوقف ـ إلى حد كبير ـ على درجة إيمانهم بالله تعالى وثقتهم بإمداده ورحمته وتوكلهم عليه وكلما كانت درجة إيمان الإنسان بالله وثقته بإمداده وفضله أكثر وأقوى… كان نفسه أطول في المواجهة، وكان أكثر اطمئنانا وثباتاً وتحملا لعناء الطريق ومشاق العمل.

وأول ما نواجه في هذه المعاناة صدود المشركين عن دعوة الأنبياء والانغلاق الأعمى على دعوة الرسل. وما يلفت النظر أن هؤلاء القوم لا يزيدون على الانغلاق، ولا يفتحون بينهم وبين أنبيائهم باباً من أبواب المنطق والحوار والتفاهم.

والأداة المفضلة لديهم في مواجهة دعوة الأنبياء، هي التكذيب، والاستهزاء، والاستخفاف بالأنبياء (ع) ودعواتهم، واتهامهم إياهم بالسحر والجنون.

قال تعالى: {كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[1].

وقال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوط * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى..}[2].

وقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُل مِن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}[3].

وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوط * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}[4].

وقال تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِن رَّسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ}[5].

وقال تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[6].

وقال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَبِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[7].

ونلاحظ، أن هؤلاء المشركين يتحدون الأنبياء ودعواتهم بأسلافهم من المشركين، ويقاومون دعوة الأنبياء إلى التحرر من القيود والأغلال والتخلص من رواسب جاهلية الأسلاف، والانطلاق إلى الله تعالى… بالدعوة إلى الجمود على طريق الأسلاف وفهمهم ورؤاهم وتصوراتهم، وحظر التفكير والحوار والفهم والاستماع، على الناس، و إ بقاء الناس في دائرة جاهلية الآباء والأسلاف… دون أن يحق لهم أن يفكروا في شيء جديد أو يستمعوا إلى دعوة جديدة تنافي طريقة الآباء الجاهلية القديمة.

قال تعالى: {..قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا..}[8].

وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ}[9].

ومن عجب أن الطبقة المترفة المرفهة من المجتمع هي التي تحمل ـ عادة ـ لواء معارضة الأنبياء (ع) والمشاققة والتمرد، والكيد عليهم.

فهي تقدر بأنها سوف تخسر مواقعها الاجتماعية والمالية والسياسية في المجتمع الذي يدعو إليه الأنبياء (ع).. ولذلك فإنها تقف دائماً في مقدمة صفوف المعارضة الجاهلية.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَة مِن نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[10].

وقال تعالى: {وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِن نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ}[11].

ومن أبرز خصائص هذه المواجهة هو التعنت والاستكبار والرعونة والتعجيز في المطالب.

والقرآن الكريم يعرض علينا نماذج من هذا التعنت في الموقف والمواجهة من قبل المترفين.

يقول تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُول حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[12].

وقال تعالى: {وَلَقَد أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}[13].

وحتى لو فتح الله تعالى عليهم باباً من السماء وعرجوا منه إليها، لقالوا: «إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا»! ولم يؤمنوا!!!

وفي مقابل هذا التعنت، والإيذاء، والمطاردة العنيفة، والاستهزاء، والاستخفاف، والاتهام بالجنون، والمضايقة في كل مسالك الحياة… كان الأنبياء (ع) يستعينون بالصبر والصلاة في مواجهة الأعداء، ويضعون ثقتهم بالله تعالى، ويتوكلون عليه سبحانه، فلا يصيبهم نصب، ولا تعب، ولا يملّون، ولا يدخلهم اليأس، ويواصلون المسيرة بنفس ثابتة مطمئنة:

قال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَان إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[14].

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ}.[15]

والفتنة والابتلاء سنة لله تعالى، عامة في حياة كل الأنبياء والمرسلين (ع)، وفي حياة كل الدعاة العاملين في سبيل الله، ولا يستثني الله تعالى أحداً منهم من هذه الفتنة التي يصيب بها عباده، ليميز بها الصادقين من عباده عن الكاذبين.

فقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[16].

وعجيب تأكيد القرآن الكريم على شمولية الابتلاء والفتنة في حياة الأنبياء والمرسلين والدعاة إلى الله عامة. والتأكيد بأن الجنة لا يمكن أن يدخلها أحد من المؤمنين من دون هذا الابتلاء والفتنة والعذاب والمعاناة.

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[17].

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[18].

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[19].


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الذاريات: 52 ـ 55.
  • [2] ـ الحج: 42 ـ 44.
  • [3] ـ الأنعام: 10.
  • [4] ـ ق: 12 ـ 14.
  • [5] ـ يس: 30.
  • [6] ـ العنكبوت: 18.
  • [7] ـ فاطر: 25 ـ 26.
  • [8] ـ إبراهيم: 10.
  • [9] ـ الزخرف: 22.
  • [10] ـ سبأ: 34.
  • [11] ـ الزخرف: 23.
  • [12] ـ آل عمران: 183.
  • [13] ـ الحجر: 10 ـ 15.
  • [14] ـ إبراهيم: 11 ـ 12.
  • [15] ـ الأحقاف: 35.
  • [16] ـ العنكبوت: 2 ـ 3.
  • [17] ـ البقرة: 214.
  • [18] ـ آل عمران: 142.
  • [19] ـ التوبة: 16.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى