ثقافة

وحدة المصدر ووحدة الاصطفاء

وحدة المنطلق والمسيرة والغاية في رسالات الله

وحدة المصدر ووحدة الاصطفاء

عندما نستعرض القرآن الكريم، نلاحظ أن القرآن الكريم يحرص ـ بصورة مؤكدة على إعلان ارتباط الأنبياء (ع)، بالله تعالى، وأن ليس للأنبياء أي مصدر آخر غير الوحي فيما يقولون.

وتأكيد هذه الصلة بين الأنبياء (ع) وبين الله تعالى، وتعميقها في رسالات الأنبياء (ع)، ونفي أي مصدر آخر للرسالة في دعوة الأنبياء… ظاهرة واضحة في القرآن الكريم تلفت النظر كثيراً.

ونقرأ فيما يلي بعض الآيات المرتبطة بهذا الأمر.

{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.[1]

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[2]

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً}.[3]

4 ـ {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[4].

5 ـ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ}[5].

6 ـ {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَاكانُوا يَعْمَلُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.[6]

فالذي يستعرض هذه الآيات ـ وأمثالها من كتاب الله ـ يجد أن هؤلاء الأنبياء يعدَّون عمقاً وامتدادا لأسرة واحدة، وينتمون جميعاً إلى أصل واحد، ويأخذون جميعاً من مصدر واحد، ويتأدبون جميعاً بأدب واحد، ويهتدون جميعاً بهدى واحد.

وهذه الوحدة في المصدر والاصطفاء لتحتاج إلى مزيد من الدقة والتأمل.

وباستعراض سريع لآيات كتاب الله، نجد أن القرآن الكريم يعطي للأنبياء شخصيتين مختلفتين تماماً، هما:

1ـ شخصية الإنسان البشر.

2ـ شخصية الرسول.

ونجد الإشارة إلى هاتين الشخصيتين في أكثر من آية في القرآن الكريم، منها:

{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}[7].

ففي قوله تعالى: (رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إشارة إلى الجانب الثاني من شخصية المسيح بن مريم÷، وهو: الرسالة. وهذا الجانب ليس حلقة منفرطة عن سائر الحلقات وإنما يرتبط بما قبله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

وأما الجانب الأول ـ وهو الجانب الإنساني ـ فقد أشارت إليه الآية المباركة، بعبارة: (كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ).

والى نفس المعنى تشير الآية المباركة 90 ـ 93 من سورة الإسراء، بعد استعراض طويل لتحديات المشركين ومطالبهم التعجيزية، التي لم يطلبوا بها هداية ولا بصيرة، وإنما أرادوا بها تعجيز النبي (ص)وتحديه:

قال تعالى: {وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف أَوْ تَرْقَى فِي السَّماءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}.

ويأتي هذا الجواب المقتضب البليغ على تلك التحديات والمطالب الطويلة كلها.

(سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً؟).

ويوضح القرآن كلا من هذين البعدين لشخصية الأنبياء.

واليكم بيان ذلك:

أ ـ شخصية الإنسان البشر…«الأنا» في طبيعتها البشرية، وفي ضعف الإنسان وجزعه وحبه للراحة والعافية ـ في غير معصية ولا ذنب طبعاً ـ ، لا تملك من أمرها حولا ولا قوةً ولا سلطاناً، إلا ما آتاه الله.

يقول تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَان إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}.[8]

فليس لهم من علم بما يأتي عليهم في غد، كما لا يكاد يعلم من الأمس شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى، وهؤلاء الأنبياء (ع) من هذا الوجه ناس كسائر الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً}[9].

ب ـ شخصية الرسول، النبي، التي تتجرد عن «الأنا» ومتعلقاته بصورة كاملة، وتتجسد في الارتباط الكامل بالله تعالى، وتتحرر من كل سلطان للأنا والهوى، وترتبط بمحور الوحي ارتباطا كاملا.

وهذه الشخصية هي موضع التسديد والتكريم والاصطفاء، يكرمها بالكرامات، ويدعمها بالمعجزات وينزل عليها البينات من آياته، ويطلعها على الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى عالمي الغيب والشهادة، ويعصمها الله.

والقرآن الكريم يعرض كلا من هاتين الشخصيتين ـ أو بالأحرى كلا من هذين الوجهين من شخصية الأنبياء (ع) ـ بصورة مقترنة حيناً، وبصورة منفردة ومستقلة حيناً آخر.

وفي هذه الآيات تتراءى الشخصية الاولى ضعيفة، باهتة الظلال، عاجزة… بينما تتراءى الشخصية الثانية واضحة الظلال، قوية، مرتبطة بالله تعالى.

وها نحن نحاول أن نستقرء هذين الوجهين من شخصية الأنبياء (ع) بصورة مستقلة وبصورة متقارنة من كتاب الله.

أ ـ الجانب البشري من شخصية الأنبياء (ع):

وهذا الجانب من شخصية الأنبياء (ع)، يكاد أن يكون غائباً فيما يستعرض القرآن الكريم من حياة الأنبياء (ع) ودعوتهم وصراعهم مع أئمة الكفر، اللهم إلا من ظلال ضعيفة، وفي سياق سلبي أحياناً، نعرض نماذج منها في هذه التأملات:

1 ـ التهديد

يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ}.[10]

وأي تهديد قاس هذا الذي يهدد الله به حبيبه وصفيّه (ص)ولولا أن قرآناً نزل في ذلك من العلي العظيم لما أمكننا أن ننطق بهذا التهديد، حتى على سبيل التعليق، كما يقول القرآن على سبيل التعليق:

ولو تقول علينا بعض الأقاويل ـ فقط بعض الأقاويل ـ لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين، فلا أحد يستطيع أن يحميه (ص)عند ذلك من الله، والله تعالى يعصم رسوله (ص)من كل سوء، بالطبع، ولكن يبقى هذا التهديد على قوته.

يا للهول، ويا للتهديد المرعب الرهيب الذي يملأ النفس خوفاً ورعباً.

وإن رسول الله (ص)لا يمكن أن ينطق بهذا القول إلا أن يكون مؤمناً إيماناً مطلقاً بالله سبحانه وتعالى، خاضعاً له خضوعاً كاملا حقيقياً، شاعراً بسلطانه وقوته الكبرى في الكون وهيمنته على كل أجزاء هذا الكون الكبير… على الناس، وعليه، وعلى جوارحه، وجوانحه، وخطرات قلبه، وإنه تعالى يحصي عليه (ص)أنفاسه، وألفاظه، وكلماته، ويراقب ما يقول، ولا يغيب عنه تعالى شيء من أمره (ص)، فيعلم تعالى بدخيلة نفسه (ص)، وما يخفي (ص)على الناس.

يقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّي الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.[11]

2 ـ السؤال

ويدعو الله تعالى الأنبياء يوم القيامة للسؤال ويخرج الأنبياء (ع) ببراءة من كل التهم التي ألصقها الناس بهم، ولكن، في نفس الوقت، يظهر هذا السؤال والجواب الجانب الإنساني للأنبياء بكل ما يحمل هذا الجانب من عجز وضعف وخضوع وعبودية لله تعالى.

ولننظر إلى المشهد التالي من القرآن الكريم:

يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهيدٌ}[12].

3 ـ التجرد من كل إدّعاء ذاتي، ومن كل حول وقوة وسلطان إلا ما يأذن به الله، وما يمدهم به الله تعالى من حول وقوة وسلطان

ونواجه هذا التجرد من كل ادّعاء ومن كل حول وقوة، في أكثر من موضع من القرآن الكريم. ونشاهد في هذا السياق من آيات القرآن الكريم: كيف يتجاوز الأنبياء (ع) تحديات المشركين ومطالبهم التعجيزية المقرونة بالتعنت، بالتجرد عن أي إدعاء إلا الرسالة، وأنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، وليس لهم من حول ولا قوة ولا سلطان، ولا إدّعاء لهم في شيء من ذلك إلا أن يمدهم الله تعالى ويأذن لهم به الله.

وهذا التجرد يرينا الجانب البشري من شخصية الأنبياء (ع)، ذا الحجم المحدود، والإمكانات المحدودة والضعيفة، دون أن يشق على الأنبياء أن يعرضوا على الناس هذا الجانب الإنساني الضعيف والمحدود من شخصيتهم، أو أن يتجردوا من أي ادعاء يمكن أن يتوهمه الناس فيهم من قدرة ذاتية خارقة، أو حول وقوة ذاتية يتجاوز حول الناس وقوتهم. ويجري كل ذلك أمام تحديات ومطالب المشركين المتعنّتة، بصورة مريحة وسهلة.

ولنتأمل في هذه الآيات من سورة الإسراء التي تستعرض مطالب المشركين التعجيزية لرسول الله (ص)، والموقف النبوي غير المعقد والمريح، من كل تلك المطالب بالتجرد عن كل حول وسلطان وقوة وخارقة، وعن أي إدعاء لأمر من هذه الأمور، إلا ما يكون من جانب الله سبحانه وبإذنه تعالى.

يقول تعالى: {وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُف أَوْ تَرْقَى فِي السَّماءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}[13].

4 ـ نفي العلم بالغيب إلا من خلال الوحي أو ما علّمهم الله:

ويتكرر هذا النفي في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.

فالقرآن ينفي أن يكون النبي (ص)عالماً بشيء من أمر الامم السابقة وقصص الأنبياء ومن القرآن العظيم… قبل أن يوحى إليه. وإن الوحي إذا انقطع عنه (ص)، فسوف لا يعلم، إلا ما علمه الله.

ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة القصص:

قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلكِن رَّحْمَةً مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِن نَّذِير مِن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.[14]

ثم لنتأمل في هذه الآيات المباركات على سبيل المثال.

قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْم بِالْمَلاَِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[15].

وقال تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.[16]

وقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم}[17].

وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَاب وَلاَ تَخُطَّهُ بِيَمِينِكَ..}[18].

5 ـ العتاب والتقريع

وهذه ظاهرة أخرى بارزة في القرآن الكريم، تستلفت الانتباه كثيراً، تخضع فيها الذات النبوية لعتاب وتقريع شديدين من جانب الله تعالى في مسائل لم تكن تمسّ عصمة الأنبياء (ع)، وإنما يكون على عمل خلاف الاولى، مما كان ينبغي أن لا يصدر عن النبي، أو كان من الميل إلى الخيار الإلهي الأكثر عافية لأقوامهم.

ولنتأمل في هذه الآيات المباركات:

قال تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبينَ}[19].

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.[20]

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيَما أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.[21]

ب ـ الجانب الرسالي من شخصية الأنبياء (ع):

وبعكس الجانب الأول من شخصية الأنبياء الذي كان ضعيف باهت الظلال ومحدوداً في كتاب الله الكريم… نجد أن لشخصية الأنبياء وجهاً آخر غير هذا الوجه.

وهذا الوجه يختلف اختلافا جوهرياً عن الوجه الأول، فهو موضع اصطفاء الله تعالى، وهدايته ونزول الوحي، وانكشاف الماضي والمستقبل والشهود والغيب، وموضع تسديد الله وتأييده، وإكرامه بالكرامات والمعجزات وموضع التنزيه والعصمة.

ونشير فيما يلي إلى بعض هذه النقاط:

1 ـ الاصطفاء الإلهي للرسالة من جانب الله:

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض}[22].

2 ـ الهداية الربانية:

فقال تعالى: {..وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ}.[23]

3 ـ الوحي الإلهي:

قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً}.[24]

4 ـ الخلافة الإلهية:

قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[25].

5 ـ الإمامة والعهد الإلهي:

قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.[26]

6 ـ العصمة والتسديد الإلهي:

قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[27].

7 ـ التعليم الإلهي:

قال تعالى: {كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً}[28].

8 ـ نزول البيِّنات على يد الأنبياء  (ع) من الآيات والمعجزات من جانب الله تعالى:

قال تعالى: {..وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[29].

وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..}.[30]

والذي يستقرئ هذه المجموعة من الآيات المباركات من مسيرة الأنبياء والمرسلين وحياتهم ودعوتهم وصراعهم وكلماتهم… يرى أن هؤلاء:

1ـ لا يدعون لأنفسهم شيئاً من حول أو قوة أو سلطان.

2ـ ويدعون جميعاً إنهم يرتبطون بالله تعالى في كل شيء، وإن الله عزّوجل هو المصدر الوحيد الذي يمنحهم العلم، والفقه، والآيات، والبينات، والرسالة، والإمامة، والحكم في الناس، والتسديد، والعصمة، وإنهم لا يقولون «ما يقولون» من تلقاء أنفسهم، وإنما يقولون عن الله تعالى، ولا يفترون، ولا يكذبون على الله سبحانه.

وهذه الصفة تعم بصورة دقيقة كل مسيرة النبوة والرسالة على امتداد التاريخ، وما عرفنا في التاريخ وما حدثنا به القرآن أو غيره من المصادر عن حياة الأنبياء (ع) وقصصهم ـ من ذُكر في القرآن منهم ومن لم يُذكر ـ فلم يكن لهم من دعوى غير هذا الارتباط، ولم يكن لهم من قول أو عمل ينافي هذا الارتباط.


أقرأ ايضاً:

  • [1] ـ آل عمران: 33 ـ 34.
  • [2] ـ الأنبياء: 7.
  • [3] ـ النساء: 163.
  • [4] ـ الشورى: 2.
  • [5] ـ غافر: 78.
  • [6] ـ الأنعام: 84 ـ 89.
  • [7] ـ المائدة: 75.
  • [8] ـ إبراهيم: 11.
  • [9] ـ الفرقان: 20.
  • [10] ـ الحاقة: 44 ـ 47.
  • [11] ـ ق: 16 ـ 18.
  • [12] ـ المائدة: 116 ـ 117.
  • [13] ـ الإسراء: 90 ـ 93.
  • [14] ـ القصص: 44 ـ 46.
  • [15] ـ ص: 67 ـ 70.
  • [16] ـ آل عمران: 44.
  • [17] ـ الشورى: 52.
  • [18] ـ العنكبوت: 48.
  • [19] ـ التوبة: 43.
  • [20] ـ التوبة: 113.
  • [21] ـ الأنفال: 67 ـ 68.
  • [22] ـ آل عمران: 34.
  • [23] ـ الأنعام: 84 ـ 85.
  • [24] ـ النساء: 163.
  • [25] ـ ص: 26.
  • [26] ـ البقرة: 124.
  • [27] ـ النجم: 1 ـ 5.
  • [28] ـ طه: 99.
  • [29] ـ المائدة: 32.
  • [30] ـ الحديد: 25.

الهوامش والمصادر

تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى