ثقافة

موقف القرآن من القومية – الجانب التكويني : إِنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}.

الجزء الأول من الآية الكريمة تقرر أن مسألة تعددية الشعوب والقبائل قائمة في صلب التكوين، وليس هذا الاختلاف والتعدد في الأقوام والشعوب والقبائل مما إنتحله الإنسان واختلقه، مما ليس في صلب التكوين.

ففي هذه الآية ينسب القرآن الكريم مسألة التعددية في الشعوب والقبائل إلى الله تعالى مباشرة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}. وهو صريح في نسبة هذا الأمر إلى الله تعالى.

كما أن الآية الكريمة تعطف جملة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} على قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} وهو صريح في أن مسألة تعدد الشعوب والقبائل من أمر الله تعالى، وما كان من أمر الله تعالى فهو قائم في صلب التكوين.

وفي سورة الروم يعد القرآن اختلاف الألوان والألسن من آيات الله تعالى.

يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.

وسياق هذه الآيات في سورة الروم سياق الرحمة. ولنقرأ الآية السابقة لها واللاحقة، يقول تعالى:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[1].

والآيات بسياقها تدل على أن هذا الاختلاف والتعدد أمر من أمر الله تعالى ورحمة من رحمته، وهو قائم في صلب التكوين، وليس مما اضافه الإنسان إلى حياته وانتحله مما ليس في تكوينه.

العوامل الثلاثة المكونة للشعوب والقبائل:

تدخل في تكوين الشعوب والقبائل ثلاث عوامل وهي:

1ـ العوامل المكونة لشخصية الإنسان داخل النفس من الفطرة، والغريزة، والضمير، والعقل، والإرادة.

2ـ البيئة والمحيط والوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه الشعوب والقبائل. ونقصد بهذا العامل مجموعة العوامل التي تؤثر في بناء وتكوين شخصية الإنسان خارج النفس، وتدخل في ذلك الرسالات الإلهية والثقافة والتقاليد والأعراف والخبرات العلمية التي تتكون في البيئة بسبب العوامل المختلفة الفاعلة في حياة الإنسان من الحرب والسلم، والتجارة، والفقر، والثراء، والجدب، والخصوبة، والمناخ، والأنظمة الحاكمة، والأمن، والخوف، والمرض، والسلامة، والأوضاع الطبيعية الأخرى في البيئة…

وهذه مجموعة واسعة من العوامل تدخل عبر التاريخ في تكوين الحالة الحضارية والأعراف، والتقاليد، والقيم، والأخلاق، وأصول العلاقة الاجتماعية والزوجية، ونمط الحياة لكل بيئة، ولكل شريحة اجتماعية (من الشعوب والقبائل والأقوام)، تسكن هذه البيئة أو تلك، كما تدخل في تكوينها الخبرات الاجتماعية لهذه الشرائح.

وتتفاعل العوامل من الطائفة الأولى والعوامل من الطائفة الثانية في تكوين شخصية الشرائح الاجتماعية.

ولنُسَمّ الطائفة الأولى من العوامل بالعوامل الداخلية، والطائفة الثانية بالعوامل الخارجية.

إن التفاعل الذي يتم بين هاتين الطائفتين من العوامل تؤثر في بلورة وتكوين شخصية الشعوب.

وليس من شك أن الطائفة الأولى من العوامل لها دور فاعل ومؤثر في تصفية وتنقيح العوامل من الطائفة الثانية، إلا أن من الحق أيضاً أن الطائفة الأولى تتأثر بالطائفة الثانية أيضاً.

وتتبلور وتتكون شخصية الشعوب الحضارية بفعل هذين العاملين.

3ـ الوراثة: وهذه ثالثة العوامل المكونة للشعوب والأقوام والقبائل.

ومهمة هذا العوامل نقل المقومات التي تكوّن شخصية الشعوب الحضارية والعلمية من جيل إلى جيل.

ودور الوراثة ليس فقط نقل الحالة الحضارية والعلمية من جيل إلى جيل، بل تتجاوز هذه المهمة إلى تعميق وتأصيل الحالات الحضارية، والخبرات العلمية، فان الجيل الذي يستلم المواريث الحضارية والعلمية يقوم بدور تأصيل وتعميق وتكميل هذه المواريث، ليسلمها إلى الجيل الذي يأتي من بعده من نفس الشريحة الاجتماعية.

ولولا جسور الوراثة في الحضارة والعلم… لم يتمكن الإنسان أن يتجاوز المراحل الأولى البدائية من تاريخه الحضاري والعلمي.

وكل ما عندنا اليوم من المواريث الحضارية والعلمية انتقل إلينا عبر هذه الجسور.

هذه العوامل الثلاثة بإجمال هي التي تكوّن الشخصية الحضارية والعلمية للشعوب والأقوام والأمم.

وبناءاً على هذا التصور فان كل شريحة اجتماعية من شعب، أو قبيلة، أو قوم يعتبر تراكماً من المواريث الحضارية والعلمية، تكونت وتبلورت، وتأصلت، خلال التاريخ، وانتقلت من جيل إلى جيل بفعل عامل الوراثة.

وكلمة (الشعوب والقبائل) في الآية الكريمة تعني في التحليل العلمي لهذه الكلمة هذا التراكم من المواريث الحضارية والعلمية، بما في ذلك اللغة، فان اللغة عامل أساسي في التعبير عن هذا الميراث الحضاري والعلمي وفي نقل هذا الميراث.

وهذا هو تعريفنا الذي نلتزم به، للأقوام والشعوب. وبناءاً على هذا التعريف فان القومية حالة حضارية وثقافية، ولغة معينة للتعبير عن هذه الحالة الحضارية والثقافية.

وبهذا التحليل نجد أن الشعوب والقبائل والأقوام قضايا حقيقية داخلة في صلب التكوين، وليس مما انتحله الإنسان، وأضافه إلى حياته مما ليس له في أصل التكوين.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الروم: 21ـ23.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى