ثقافة

محاسبة المستضعفين

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء: 97 ـ 100

هذه تسع نقاط في هذه الآيات المباركة من سورة النساء وفيما يلي مجموعة من التوضيحات والتأملات حول هذه النقاط التسعة:

1ـ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ

المقصود بالظالم: من يتحمّل الظالم. ومعنى الآية الكريمة أن المستضعفين الذين يتحملون الظلم إذا توفتهم الملائكة عند الموت، يسألهم الملائكة عمّا ألجأهم إلى تحمل الظلم وقبوله.

فيكون جوابهم أنهم كانوا مستضعفين.

والذي يتحمل الظلم، رغماً عليه، طبق القاعدة اللغوية مظلوم وليس بظالم، ولكن آية سورة النساء تُسَمّي المظلوم بالظالم، وتخاطب المظلومين المستضعفين: بـ {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}.

ونتساءل كيف يكون المظلوم ظالماً لنفسه؟

والجواب: إن المظلوم عندما يتحمل الظلم ويرضخ له، يكون سبباً في ظهور فئة مستكبرة وظالمة في المجتمع، وهذه الفئة تعمل على استضعاف وإفساد طبقة واسعة من المجتمع.

وكل مظلوم يتحمل الظلم من هذه الفئة، لابُدّ أن يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية بالضرورة، وكل مظلوم ـ بهذا الاعتبار ـ يُعدّ مشاركا في توجيه الظلم إلى نفسه والى الآخرين، ولذلك فهو ظالم لنفسه.

إذن المظلوم ظالم في مقياس القرآن يستحق العقاب والمؤاخذة، إلاّ أن يقاوم الظلم، أو يهجر الظلم إن لم يتمكن من مقاومة الظلم، وإن لم يفعل هذا ولاذاك كان ظالما يستحق ما يستحقه الظالمون من العقاب والحساب.

2 ـ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ؟

وهذه هي المحاسبة.

ولكل ذنب وظلم حساب عند الله، ويبدأ حساب الإنسان ساعة موته من غير تأخير؛ فإنّ الموت يسقط الحجب عن بصر الإنسان، فتتكشف للإنسان الحقائق لحظة الموت، ويراها من دون حجاب.

فإذا حضره الموت انجلت عن بصره هذه الحجب {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[1]، وهي لحظة حساب الإنسان وعقابه وثوابه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله “ص” (إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته)[2].

والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[3].

هذا السؤال والحساب والعقاب يبدأ مباشرة بعد أن تتوفاهم الملائكة، كما هو ظاهر من سياق آية سورة النحل.

وفي آية سورة النساء يبدأ حساب المستضعفين مباشرة بعد أن تتوفاهم الملائكة: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ}؟ والسؤال عن الظروف التي أرغمتهم على قبول الظلم؟

فإنّ الإنسان الذي يتعرض للظلم، فلا يقاوم ولا يهجر الظلم إذا عجز عن مقاومته، يتعرض للحساب والعقاب، كما لو كان يمارس الظلم بنفسه.

3 ـ قَالُواْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ

وهذا هو الجواب عن السؤال السابق: فِيمَ كُنتُمْ؟

قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ… ولاشك انه اعتذار.

ونلاحظ أن المستضعفين لايعتذرون يومئذ إلى الملائكة بـ(الضعف)، وإنما يعتذرون بالاستضعاف.

والسبب واضح؛ فلم يجعل الله تعالى في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ضعيفاً وقوياً، وإنما الإنسان هو الذي يأذن للآخرين أن يستدرجوه إلى الضعف، ويسلبوه إرادته وقوته وصموده وكفاءاته وإمكاناته فيكون مستضعفاً.

ليس في النظام الاجتماعي ضعف وقوة، ولكن في هذا النظام إِستضعاف واستكبار، وأحدهما يستدعي الآخر.

فالفئة المستكبرة في المجتمع لكي تفرض قيمومتها وولايتها على الناس، وتفرض عليهم الطاعة و التبعيّة والاستثمار… لابُدّ لها من أن تعمل على تجريد الناس من الكفاءات وكنوز المعرفة والقيم التي آتاهم الله تعالى، فإذا استفرغتهم منها وجرّدتهم عنها، يتحول الناس عندئذ إلى كتلة بشرية فاقدة للإِبداع والكفاءة والمقاومة والقيم… وهذه الكتلة تصلح أَن تكون حالة اجتماعية عائمة، قد استفرغ المستكبرون وزنها وثقلها الإنساني، فلا تصلح إلاّ للطاعة والتبعية المحضة.

والى هذا المعنى يشير قوله تعالى في فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، فإنَّ الفئة المستكبرة عندما تريد أن تفرض طاعتها وولايتها على الناس لا سبيل لها إلى ذلك إِلاّ أن تسلب الناس قيمهم وأخلاقهم وقوتهم وصمودهم، فإِذا استخفّوهم من كل ذلك تحوّلوا إلى كتلة عائمة مُهْملة تطيع وتتبع من غير نقاش ومراجعة.

وهذه الحالة من التعويم الإنساني تساعد الفئة المستكبرة على الظهور والبروز، وهكذا نجد أن العلاقة بين الاستكبار والاستضعاف علاقة جدلية (تبادلية).

الاستكبار يؤدي إلى الاستضعاف، والاستضعاف يؤدي إلى الاستكبار، والاستكبار سبب كل فساد في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في حياة الناس.

وهذا هو اعتذار المستضعفين عندما تسألهم الملائكة ساعة الموت، عما ألجأهم إلى قبول الظلم، فيقولون: كنا مستضعفين، يعني إن المستكبرين استدرجونا إلى حالة الاستضعاف، وقهرونا على قبول الظلم وتحمّل الظلم.

وإنما دققنا النظر في صيغة الاعتذار، لنستطيع أن ننظر فيما يلي في جواب الملائكة لهم.

4ـ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا؟

وهذا هو ردّ الملائكة على الاعتذار السابق فإنّ الناس إِذا فقدوا القدرة على مقاومة الظالم، فليس البديل لذلك الرضوخ والتسليم للظالم، بل الهجرة والابتعاد عن دائرة نفوذ الظالم.

فليس بديل (الجهاد) إذا تعذّر على الناس الاستسلام والرضوخ للظالم، وإنما البديل في هذه الحالة (الهجرة).

ولذلك يقول لهم الملائكة، في رد اعتذارهم بالعجز عن المقاومة والاستضعاف: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}؟.

فإنّ الهجرة قائمة، مادام الجهاد قائماً في حياة الناس، فكلما عجز الناس عن المقاومة (الجهاد) فإنّ البديل هو (الهجرة).

والجهاد قائم مادام للشرك حضور في حياة الناس، إذن الجهاد قائم مادام الشرك موجوداً، والهجرة قائمة مادام الجهاد قائماً.

عن رسول الله “ص”: <أيها الناس هاجروا، وتمسكوا بالإسلام، فإنّ الهجرة لاتنقطع مادام الجهاد>.[4]

وعن رسول الله “ص”: <لاتنقطع الهجرة مادام العدو يقاتل>[5].

وهذه حقائق جديرة بالتأمل.

فمهما وُجِدَ على وجه الأرض عدو للتوحيد يعمل لتثبيت الشرك، وجب جهاده وقتاله، وإذا وجب الجهاد وجبت الهجرة.

ولابُدّ من إيضاح وشرح لهاتين النقطتين، واليك ذلك.

مثلث الإيمان والهجرة والجهاد

الهجرة هو الضلع الثاني من المثلث الذي يرسمه القرآن لحركة التوحيد في التاريخ.

وهذا المثلث هو: (الإيمان والهجرة والجهاد)، وهو الذي يقوّم حركة التوحيد في التاريخ، وعلى وجه الأرض.

يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[6].

ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء}[7].

وهذا المثلث بنفس العناصر، وبنفس الترتيب يتكرر كما رأينا في سورة البقرة والأنفال.

فالعناصر هي الإيمان والهجرة والجهاد.

والترتيب والتسلسل هو نفس الترتيب والتسلسل، وفي ذلك سرّ.

فإنّ الإيمان اختراق للنظام الثقافي والفكري الجاهلي، وهدم للأُسس الفكرية والثقافية للشرك، وهذا الهدم يستتبع هدم المواقع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للشرك، ومن الطبيعي أَن ذلك يثير أئمة الشرك للمقاومة والدفاع عن كيانهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بكل ما أُوتوا من قوة وحول.

ويبادر أئمة الكفر للعدوان على المؤمنين، واضطهادهم واستئصالهم أو إرغامهم على الرّدة.

وحيث لا يتمكن المؤمنون من مقاومة هذا العدوان، ويؤدي هذا العدوان إلى تصفية كاملة لوجودهم الحركي السياسي والفكري، فلابُدّ من (الهجرة) في هذه الحالة، إذا تعذّر (الجهاد) على المؤمنين.

والهجرة ليست فرارا من الزحف، وإنّما هو مرحلة إعداد وتحضير للزحف والقوة، ليعود المؤمنون بعد ذلك إلى ساحة المواجهة والجهاد.

إذن، فإنّ (الإيمان) يستتبع الهجرة، و(الهجرة) يستتبع (الجهاد).

وهذا هو فيما نعلم، والله اعلم، سرّ تسلسل هذا المثلث في موضعين من القرآن بنفس التسلسل.

ومن خلال هذا التوضيح يتضح ما سبق أن ذكرناه في هذا الباب، من انه مادام للشرك حضور في حياة الناس فلابُدّ من الجهاد، ومادام الجهاد قائما فلابُدّ من الهجرة.

إذن يتسائل الملائكة من المستضعفين: لِم لَم يهاجروا بدينهم وأنفسهم وكرامتهم في أرض الله الواسعة، ومكّنوا الظالم من أنفسهم وكرامتهم ودينهم؟ {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا

وليس للمستضعفين أن يقولوا للملائكة إن الأرض قد ضاقت بهم بما رحبت، فإنّ الله تعالى لم يجعل الأَرض ضيّقة على المستضعفين، والملائكة يقرّرون هذه الحقيقة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَة}.

وهي حقيقة قرآنية، ذات أهمية كبيرة في حياة المؤمنين، وخلافها شذوذ واستثناء، والأصل: أَن أرض الله واسعة.

وهذه الحقيقة يكرّرها القرآن على الأقل في سورتين: في العنكبوت وفي الزمر.

قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[8].

والحقيقة الكبرى التي تقررها آية سورة العنكبوت هي {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَة}.

لمن؟

للمؤمنين من عباد الله؛ فإنّ الآية الكريمة تتصدر بهذا الخطاب الرقيق والشفّاف: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وفي تخصيص العباد الذين آمنوا بهذا الخطاب الرباني عناية ورقّة وتكريم من الله تعالى لعباده المؤمنين.

ولماذا يخصّهم الله تعالى بهذا الخطاب؟ ولماذا يقرّر الله تعالى لهم {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَة

ليعبدوه وحده، ولا يخشوا الظالمين {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}.

فلكي يعبدوا الله تعالى وحده، ولكي لا يمكّنوا الظالم من دينهم وإيمانهم وعبوديتهم لله، فإنّ الله تعالى يوسّع عليهم بالهجرة ويقول لهم: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَة} فإذا ضاقت بهم بيوتهم وعشائرهم وَمُدنهم وأوطانهم من أن يعبدوا الله تعالى وحده فإنّ في ارض الله تعالى سعة، والله تعالى يفتح عليهم من رحمته ما يشاء.

وفي سورة الزمر، الآية 10: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}.

وهذه الآية تجري على معنى آية العنكبوت، وتخص الآية الكريمة في بدايتها عباد الله الذين آمنوا بالخطاب: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا}.

وتُمنّيهم بأَن ارض الله واسعة: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} وتدعوهم بين هذا وذاك إلى التقوى.

وهذه قاعدة عامة، ذات أهمية بالغة في حياة المؤمنين العاملين: إن الله تعالى إذا دعاهم إلى أن يعبدوه وحده، ويتقوه، لم يضيّق عليهم الأرض، ويجعل لهم في الهجرة سعة من الضيق، ويجعل لهم الأرض واسعة، ويعدهم أن يفتح لهم الطريق كلما ضاقت بهم السبل، فلا ينتهون إلى طريق مسدود.

وقد جعل الله تعالى للمؤمنين مع كل ضيق سعة، ومع كل شدة فرجاً ومخرجاً، يقول تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[9].

لاريب أن الله تعالى قد قدر لعباده العسر والشدة، ولكنه تعالى جعل لهم مع كل عسر يسراً.

روى الطبرسي: خرج النبي يوما مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول: <لن يغلب عسر يسرين>[10].

وفي الآية الكريمة يسران وعسر واحد فإنّ العسر الثاني نفس العسر الأول بدليل (أل) (العهد)، بينما ذكر الله تعالى يسرَين: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[11].

إن مع كل فقر غنى، ومع كل شدة إِنفراج، ومع كل ضرّاء سرّاء، ومع كل كرب يسر وعافية.

وهذه إرادة الله تعالى: أن يكون بعد كل استضعاف قوة وبأس للمؤمنين.

يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[12].

إن هذه الآية تحكي عن سنّة إلهية ثابتة كلما أصابت المؤمنين بأساء أو ضراء، فينصرهم الله ويفتح عليهم، والقرآن يحكي هذه السُنّة بهذه الكلمات المعبّرة: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}.

ومن يقدر على أن يعاكس إرادة الله تعالى، ولكن بشرط الإيمان والتقوى والصبر والمقاومة والجهاد والهجرة…

5 ـ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا

بعد هذا الحساب، عذاب وعقاب، ولايخرجون من عذاب الدنيا وهوانها إلاّ ليدخلوا في عذاب الآخرة وهوانها.

وعذابهم كبير وأليم؛ لأن الجريمة كبيرة، إن جريمتهم هي تمكين المجرمين من أنفسهم ومن المؤمنين، ولولا رضوخهم للظلم لم يتمكن الظالمون من ظلم المستضعفين واستضعافهم وإذلالهم، وهي جريمة كبيرة، يستحق عليها أصحابها أَشد العذاب وآلمه.

6 ـ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا.

وهذا هو الاستثناء من تلك القاعدة.

والأصل: المسؤولية والعقاب، والاستثناء: الرجال والنساء والولدان الذين لا حيلة لهم في الهجرة. فليس من بأس على هؤلاء أن لايهاجروا، وتشملهم مغفرة الله تعالى وعفوه {وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}.

7ـ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً

وهذا وعد الله تعالى للذين يهاجرون بدينهم من الظالمين، قد تكرر مرة ثانية في هذه الآيات، أنهم يجدون مراغماً كثيراً وسعة.

وقد يتصور المؤمنون أن الهجرة تسلبهم أهلهم وذويهم ومواقعهم الاجتماعيّة وأعمالهم الاقتصادية وأصدقاءهم ومستقبلهم.

فإنّ الإنسان يبني حياته ومستقبله في وطنه الذي يعيش فيه فإِذا هاجر إلى ديار أُخرى، ليس له فيها أَهل ولا أَصدقاء، ولا عمل، ولا موقع، ولا معرفة ولا علاقات… فَقَدَ حياته الاقتصادية وعمله ومستقبله وعلاقاته.

ولكن الله تعالى وعد المؤمنين أَن يفتح لهم في الهجرة آفاقاً جديدة لم يكن يخطر لهم على بال، ويعوضّهم عما فقدوه بأصدقاء جدد، ومواقع جديدة، وأعمال، ويوسّع عليهم آفاق الأرض كلما ضيّق الظالمون عليهم الأرض بما رحبت.

وقد وجدنا نحن في محنتنا في العراق عندما هاجرنا إلى ديار غريبة، ليس لنا فيها معرفة ولا أصدقاء، ولا علاقة… وجدنا صِدْقَ وعد الله تعالى، فرزقنا الله تعالى بما فقدنا من الأهل والأصدقاء علاقات جديدة وأحباء آثرونا على أنفسهم، وعَطَفَ علينا قلوب مؤمنين، وصدق الله ورسوله وله الحمد. هذا رزقهم في الدنيا ورزقهم في الآخرة أعظم. يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}[13].

8 ـ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ

للهجرة ظاهر وباطن، ولا قيمة لظاهر الهجرة إلاّ بباطنها.

وظاهر الهجرة أن يخرج الإنسان من بيته، وباطن الهجرة أن تكون هجرته إلى الله {مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ}. وقد روى البخاري عن رسول الله “ص” باب كيف كان بدء الوحي، وهو أول حديث من صحيح البخاري: <إِنما الأعمال بالنيات، وإِنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه>[14].

إن الهجرة نقلة من الانقياد للهوى والطاغوت إلى الانقياد لله تعالى، ونقلة من الذنوب والمعاصي إلى طاعة الله.

عن رسول الله “ص”: <أفضل الهجرة أن تهجر ما كره الله>[15].

وعنه “ص”: <أفضل الهجرة أن تهجر السوء>[16].

وعنه “ص”: <أشرف الهجرة أن تهجر السيئات>[17].

فإذا خرج الإنسان من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله، وابتغاءً لوجه الله الكريم، وخرج من طاعة الهوى والطاغوت إلى طاعة الله فتلك الهجرة التي يريدها الله تعالى من عباده. وإِذا تجردت الهجرة من ذلك وكانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو رزق يناله، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

9 ـ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ

جعل الله تعالى الهجرة سبيلاً إلى الجهاد والنصر، ومن أدركه الموت في الهجرة ولم يدرك الجهاد عوّضه الله تعالى عنه، و وقع أجره على الله، يعطيه الله من فضله حتى يرضيه، ويزيده.

وما أدراك ما (الأجر) إذا وقع على الله الكريم يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[18].

وروى الطبرسي في مجمع البيان عن رسول الله “ص”: <من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وان كان شبراً من الأَرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد>[19].

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ سورة ق: 22.
  • [2] ـ كنز العمّال، المتقي الهندي15: 548ح42123، مؤسسة الرسالةـ بيروت، 1989.
  • [3] ـ النحل: 28 ـ 29.
  • [4] ـ كنز العمال 16: 656ح46260.
  • [5] ـ كنز العمال 16: 659ح46274.
  • [6] ـ البقرة: 218.
  • [7] ـ الأنفال: 72.
  • [8] ـ العنكبوت: 56.
  • [9] ـ الانشراح: 5 ـ 6.
  • [10] ـ تفسير مجمع البيان 10: 390.
  • [11] ـ إذا تكرّرت المعرفة في الكلام فالثاني عين الأول، كما لو قلنا (إذا كسبت الدينار فأنفق الدينار) يعني نفس الدينار. وإذا تكررت النكرة في الجملة فليس من الضروري أن يكون الثاني عين الأول كما لو قلنا (إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً).
  • [12] ـ القصص: 5 ـ 6.
  • [13] ـ النحل: 41.
  • [14] ـ صحيح البخاري 1: 2 باب كيف كان بدء الوحي.
  • [15] ـ كنز العمال16: 657 ح46263.
  • [16] ـ المصدر السابق: ح46264.
  • [17] ـ كنز العمال1: 37 ح65.
  • [18] ـ الحج: 58.
  • [19] ـ مجمع البيان 3: 100.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى