ثقافة

طريق ذات الشوكة – عاقبة المحنة على طريق ذات الشوكة

عاقبة المحنة على طريق ذات الشوكة

كان المسلمون يتمنون عندما خرجوا لأَوّل مرة من المدينة في معركة بدر أَن يلتقوا قافلة قريش المحمّلة بتجارة الشام وأن يرجعوا إلى بيوتهم وذويهم محمّلين ببضائع الشام، وكانوا يكرهون أن تفوتهم هذه القافلة ليلقوا بدلا عنها جيشاً مدججاً بالسلاح من قريش، جاء ليدافع عن تجارة قريش وكرامتها وعزتها.

وكانوا يؤثرون الغنيمة الباردة التي يصيبونها من تجارة قريش على النصر الذي يظفرون به عن طريق ذات الشوكة في الحرب.

وكان الله تعالى قد وعدهم على لسان رسوله إحدى الطائفتين، إما الغنيمة الباردة أو النصر على طريق ذات الشوكة.

ولم يكن أحب إليهم يومئذ من أن يختار الله تعالى لهم الأولى على الثانية.

إلاّ إِنَّ الله تعالى كان يريد لهم الثانية دون الأولى. وهذا هو الفارق بين ما يريد الإنسان لنفسه وبين ما يريده الله تعالى لعباده.

إن الإنسان يطلب لنفسه اليسير العاجل، والسهل المريح، والله تعالى يريد أن يجعل من الإنسان خليفة له وأداة لتنفيذ مشيئته وإرادته في الأرض، ويريد أن يحق به الحق ويبطل الباطل…

وذلك يتطلب من الإنسان أن يسلك سبيل ذات الشوكة. وشتّان بين ما يريده الإنسان لنفسه وبين ما يريده الله تعالى له.

نتائج السير على طريق ذات الشوكة في سورة (الأنفال):

نتائج السير على طريق ذات الشوكة

في سورة الأنفال يقرر القرآن نتائج الحركة على طريق ذات الشوكة بهذه الصورة: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.

وبالتحديد يحدد القرآن نتائج هذه الحركة في نقطتين.

1ـ {يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}.

2ـ {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.

إن تثبيت كلمة التوحيد، وتحكيم حدود الله، وتقرير حاكمية الله تعالى، وتنفيذ أمره ونهيه، وتعبيد الإنسان لله تعالى في كل شيء وفي كل شأن هو النقطة الأولى من هاتين الحقيقتين: {يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}.

وإزالة نفوذ الطاغوت وسلطانه، وقطع دابر الكافرين وإنهاء حاكمية الطاغوت في حياة الإنسان هو النقطة الثانية من هاتين النقطتين.

والنقطة الثانية تحرير إرادة الإنسان من أسر الطاغوت فيملك الإنسان بذلك قرار نفسه، ويملك لنفسه حق الاختيار.

والنقطة الأُولى تعرج بالإنسان إلى الله، وتبوّؤه موضع خلافة الله تعالى في الأرض، وتجعل منه أداة لتنفيذ مشيئة الله، وتسمو به إلى الله تعالى.

ومن دون أن يلقى الإنسان ما يلقاه على طريق ذات الشوكة من عذاب وعناء ومحنة لا يتمكن من أن يتحرر من أسر الطاغوت ونفوذه وسلطانه، ولا يتمكن من أن يرتفع إلى موقع الخلافة والشهادة.

ولقد كان الله تعالى يعلم أنّ كلمة الحق لا تسود على وجه الأرض وكلمة الباطل لا تسقط إلاّ على طريق ذات الشوكة، ولا تقوم للحق دولة وقوة وهيبة وسيادة إلاّ على هذا الطريق، ولا يتم إِبطال الباطل وزهوقه وسقوطه واستئصاله إلاّ على طريق ذات الشوكة.

على هذا الطريق الشائك فقط يتم تحرير الإنسان من عبودية الطاغوت وعروج الإنسان وصعوده إلى الله تعالى.

لقد كان المسلمون الأوائل رحمهم الله في بدر يطلبون بضاعة الشام المحمّلة في عِير قريش، وكان الله تعالى يريد لهم السيادة على وجه الأرض، وأن يهدم بهم قلاع الكفر في فارس والروم، ويحرّر الإنسان بهم من الطاغوت.

النتائج الأربعة في سورة آل عمران:

وفي سورة آل عمران نقرأ نتائج وعاقبة رحلة المعاناة والعذاب في حياة العاملين بما يلي:

{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.

وهذه أربعة نتائج:

{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا هو التمحيص الذي سبق إن أشرنا إليه على الخط الأفقي داخل مساحة الجماعة المسلمة، حيث تؤدي المحنة إلى فرز وفصل العناصر الضعيفة عن العناصر القوية المؤمنة حقاً.

{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} وهذه هي النتيجة الثانية بعد عملية (الفرز)، إنّ هذه المحنة تجعل من المؤمنين قيمين على حركة الإنسان على وجه الأرض وشهداء وإدلاء، ويجعل منهم قدوات للناس، يقيسون أنفسهم بهم، ويكتشفون بهم نقاط الضعف من أنفسهم، ويقتدون بهم.

{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذه النتيجة الثالثة وهي التمحيص على الخط العمودي في عمق النفس بالمعاناة والعذاب.

ومن دون هذا التمحيص لا يكتشف الإنسان نفسه، ولا يستطيع أن يسدد نقاط الضعف في نفسه، ولا يقوى عوده، ولن يكون قوياً صلباً في مواجهة التحديات.

{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وهذه هي رابعة النتائج، فإن محق الكافرين وهلاكهم وسقوطهم، وسقوط الكفر لن يكون بغير العبور من خلال هذه المعاناة الصعبة.

ومن عجب أن معاناة المؤمنين والكافرين في هذه المرحلة من التاريخ واحدة، فإن المؤمنين يعانون كما أن الكافرين يجدون هذه المعاناة أيضاً من دون فرق.

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.

{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}[1].

لكنّ هذه المعاناة للمؤمنين تمحيص وللكافرين محق. إن المعاناة نفس المعاناة، ولكنها للمؤمنين ولادة جديدة، وللكافرين معاناة النزع والاحتضار.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ النساء: 104.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى