ثقافة

أهل البيت (ع) في موقع الدفاع عن التوحيد و العدل – التفكيك بين إرادة الله التكوينية والتشريعية

وإذا كان الله تعالى لا يعصى مقهوراً، فلابدّ أن تكون المعصية بإذنه ومشيئته وإرادته. وهذه حقيقة لابد أن ننتهي إليها. وعندئذ من الحقّ أن نتسائل: كيف يريد الله المعصية وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولا يريدها؟ وهذه (عقدة) كان يقف عندها غالباً الحوار الّذي يجري بين الأشاعرة والمعتزلة في التاريخ.

يقول ابن الخيّاط: إنّ هشام بن عبد الملك لمّا بلغه قول غيلان (الدمشقي) بالاختيار، قال: ويحك يا غيلان! لقد أكثر الناس فيك، فنازعنا في أمرك، فإن كان حقّاً اتّبعناك. فاستدعى هشام ميمون بن مروان ليكلّمه، فقال له غيلان: أشاء الله أن يعصى؟ فأجابه ميمون: أفعصي كارهاً؟ فسكت غيلان، فقطع هشام بن عبد الملك يديه ورجليه[1].

وقيل إنّ (غيلان الدمشقي) الّذي كان يذهب مذهب الاختيار وقف على رأس (ربيعة الرأي) الذي كان يذهب مذهب (الجبر) في القضاء والقدر. فقال: أنت الّذي يزعم أنّ الله يحبّ أن يعصى؟

فقال له ربيعة: أنت الّذي يزعم أنّ الله يعصى قهراً؟[2]

وتنحل هذه العقدة العجيبة بالتفكيك بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، وهو ما صنعه أهل البيت (ع) في حلّ هذه المشكلة، ولربّما لاوّل مرّة في التاريخ العقلي الإسلامي. وعندئذ يكون جواب غيلان لميمون بن مروان أو لربيعة الرأي واضحاً، ولن يطول تردّده طويلا في الإجابة القاطعة على هذا التساؤل الغريب.

والجواب: إنّ الله لا يعصى كارها ولا مقهوراً، إذا كان المقصود من الكراهية والقهر (الإرادة التكوينية) وإنّما يعصى بإرادته سبحانه وتعالى من دون كراهية وقهر كما بيّنا ذلك بوضوح في الفقرة السابقة.

وأمّا إن كان المقصود منها (الإرادة التشريعية) فليس من بأس أن يعصى الله تعالى وهو يكره المعصية، فإنّ الناس يكثرون من معصية الله تعالى، والله تعالى يكره معصيتهم ويمقتها ويغضب عليهم من أجلها، وإن كانت هذه المعاصي تجري جميعاً بإرادته وإذنه، وفي ملكه وسلطانه، وبما أتى عباده من حول وقوّة وطول. واختلاف الإرادتين في الإذن وعدم الإذن ليس من التناقض في شيء، إذا ميّزنا بشكل دقيق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، ولسنا نعلم هل كان التفكيك بين الإرادتين والتمييز بينهما معروفاً في هذا التاريخ أم لا؟

ويغلب على الظنّ أنّ هذا التفكيك لم يكن معروفاً. وإلاّ لم يتوقّف (غيلان الدمشقي) يومذاك عن جواب ميمون، أو ربيعة الرأي، إذا صحّت الرواية.

وعلى أيّ، فلنتأمّل في النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) في التفكيك بين هاتين الإرادتين:

روى الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول:

«أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم، وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل»[3].

ومنها ما روي من طريقهK أيضاً عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (ع) قال:

«إنّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم،ينهي وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أوَما رأيت انّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى. وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى»[4].


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الانتصار للخياط: 179ـ نقلا عن منية الأمل: 30 ـ 32.
  • [2] ـ الإنسان والقدر، الشيخ المطهري: 38.
  • [3] ـ اُصول الكافي 1: 117 ح3، باب المشيئة والإرادة ـ كتاب التوحيد، المكتبة الإسلامية، ط. 1388 هـ. وبمضمونه التوحيد للصدوق: 343 ح12، ط. 1398 هـ.
  • [4] ـ أُصول الكافي 1: 117 ح4، باب المشيئة والإرادة ـ كتاب التوحيد.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى