ثقافة

أهل البيت (ع) في موقع الدفاع عن التوحيد و العدل – نظام القضاء والقدر في الكون

على هذا الكون نظام (ضروري حتمي) و(متقن ودقيق) ولا يمكن أن يحدث في نفس الظروف والعوامل إلاّ ما حدث. وهذا النظام قائم على أساس نظام العلّية والمعلوليّة الساري في كلّ الكون ولا يختص هذا النظام بالعالم المادي الفيزياوي وإنّما يشمل عالم ما وراء المادة والفيزياء (الميتافيزيقي) كذلك.

ونظام (العلّية) هو نظام القضاء والقدر. فإنّ من اُصول العلّية (حتمية) وجود المعلول عند وجود العلّة و(تشخّص) المعلول من حيث الكم والكيف. فإنّ احتكاك عود الثقاب بالغشاء الكبريتي يُولد الحرارة والنار بالضرورة (لولا الموانع) وبشكل حتمي وقطعي كما أنّ كمية الحرارة المنبعثة من هذا الاحتكاك كمية محدودة معروفة مشخّصة تناسب عود الثقاب ودرجة الاحتكاك والغشاء الكبريتي، وحتمية حدوث المعلول هي (القضاء)، وتشخّص المعلول من حيث النوع والكم والكيف هي (القدر). فإنّ (القضاء) بمعنى الحتم والحكم الإلزامي، و(القدر) بمعنى التقدير.

فإِن الحرارة الحاصلة من اشتعال البنزين، تختلف في الكم والمقدار عن الحرارة الناتجة عن الانفجار النووي… وهذا (التقدير) هو (القدر) في مقابل (القضاء).

فالقضاء والقدر، وإِن كنا نستعملهما احياناً بمعنى مترادف وواحد، ولكنهما يشيران إلى حالتين مختلفتين في حدوث المسببات عن أسبابها، وهي حالة الحتمية وحالة التقدير الدقيق في الكم والكيف.

روى الكليني عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال:

«يا يونس… فتعلم ما القدر، قلت: لا.

قال (ع): هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء.

ثمّ قال: والقضاء هو الإبرام…»[1].

الهندسة ووضع الحدود هو القدر، والإِبرام هو القضاء.

إذن هذا الكون مجموعة منظمة مرتبة من حلقات متسلسلة والقانون العام الذي يجري في هذا الكون هو الحتمية والضرورة والتقدير والتحديد.

وحياة الإنسان الفردية والاجتماعية ليست بدعاً ولا استثناءاً في هذا الكون. وإنّما يعمه ما يعم الكون، من الاُصول والقوانين، فيدخل الإنسان وفعله وحركته الفردية والاجتماعية في دائرة القضاء والقدر. فإذا نَصَرَ الانسانُ الله وأعطى وضحّى، نصره الله، قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}[2]، وإذا تخاذل وتهاون أوكله الله إلى نفسه، وإذا تحرّك ونشط وعمل أغناه الله، وإن كسل وضعف أوكله الله إلى ضعفه وكسله، وإذا صدق وفّقه الله وأعانه، وإذا كذب وتحايل أوكله الله إلى كذبه وتحايله ومكره وخداعه. وكل ذلك من سنن الله وقضائه وقدره. والإنسان يعيش في دائرة قضاء الله وقدره بشكل كامل، بما للقضاء والقدر من حتمية ونظام وتقدير.

روى محمّد بن يعقوب الكليني مرفوعاً قال: كان أميرالمؤمنين (ع) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه وقال:

>يا أميرالمؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أميرالمؤمنين (ع):

أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر. فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين.

فقال له: مَه يا شيخ، فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم قائمون[3]، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟

فقال (ع): وتظنُّ أنّه كان قضاءاً حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي، والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وخصماء الرحمن، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطعْ مكرهاً، ولم يُملّك مفوّضاً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}.

قال: فنهض الشيخ وهو يقول:

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته يوم النجاة من الرحمن غفراناً

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبـسا جزاك ربّك بالإحسان إحساناً<[4]

والشطر الأوّل من النص هنا ظاهر في عموم القضاء والقدر، وشموله لكل فعاليات الإنسان وحركته، وهو قوله (ع): «أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر».


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ اُصول الكافي 1: 151 ح4، باب الجبر والقدرـ منشورات المكتبة الإسلامية 1388هـ.
  • [2] ـ محمد: 7.
  • [3] ـ في نسخة: مقيمون.
  • [4] ـ اُصول الكافي 1: 155ـ 156/ باب الجبر والقدر ـ كتاب التوحيد، المكتبة الإسلامية، 1388 هـ ، والتوحيد، للصدوق: 380 ح28، مؤسسة النشر الإسلامي بقم.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى