ثقافة

الحتمية التاريخية – مذهب أهل البيت (ع) الأمر بين الأمرين

مذهب أهل البيت (ع) الأمر بين الأمرين

لا نحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل لنقول إنّ المذهب القرآني في هذه المسألة الحسّاسة والخطيرة في حياة الإنسان لا هو بالمذهب الأول ولا هو بالمذهب الثاني، وفيما استعرضنا من آيات القرآن قبل قليل ما يكفي لإثبات هذه الحقيقة.

إذن، المذهب الذي يقرّه القرآن هو مذهب ثالث بين المذهبين المعروفين.

وهذا المذهب الثالث هو الذي تبنّاه أهل البيت (ع) ونسبوه إلى القرآن وعُرف عنهم بـ(الأمر بين الأمرين).

أي المذهب الوسط الذي يقع بين المذهبين.

وهو مذهب ثالث حقاً يقع وسطاً بين المذهبين المتطرفين المتصارعين في التاريخ العقلي الإسلامي. وأهل البيت (ع) هم روّاد هذا المذهب القرآني وأوّل من كشف للناس هذا المذهب الفكري للقرآن.

تفسير الأمر بين الأمرين:

ومن العجب أن هذا التفسير الوسط لمذهب القرآن في مسألة أفعال الإنسان وسلوكه على وضوحه، ظل مختفياً في العصور الإسلامية الأولى عن الحوار العقلي الذي كان يجري بين علماء المسلمين في موقف القرآن من هذه المسألة.

وحتى بعد أن أعلن أهل البيت (ع) هذا الرأي واشتهر عنهم، ظل هذا الرأي مجهولا غير معروف في الحوار العقلي الذي كان يجري يوم ذاك في العصر العباسي وما بعده. وهو أمر مثير للسؤال فعلا، كيف انشطر علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت (ع) إلى هذين المذهبين رغم صراحة القرآن ووضوحه في نفي كل منهما؟!

السبب الذي صرف العلماء عن (الأمر بين الأمرين):

إنّ السبب في ذلك ـ كما يبدو ـ أنّ المعتزلة أرادوا بمسألة استقلالية الإنسان في الاختيار والإرادة، التخلص من تبعة إلقاء مسؤولية الظلم الذي يرتكبه العباد على الله تعالى وتنزيه الله تعالى من كل ظلم يرتكبه الناس. وهذا هو السبب الذي دعى المعتزلة إلى أن يختلفوا مع الأشاعرة وينسبوا الفعل إلى الإنسان نفسه، ولا ينسبوه إلى الله تعالى، ولنفس السبب أصرّوا على استقلال الإنسان في الاختيار، ونفوا أن تكون لله تعالى إرادة واختيار وسلطان على الإنسان في اختياره وفعله، إلاّ أنّه تعالى خلقه ومنحه المواهب التي تمكّنه من الاختيار، ثمّ أوكله إلى نفسه في الإرادة والاختيار.

ولا ينافي الخلق والإبداع إِستقلال الإنسان في الاختيار، فإنّ حاجة الممكن إلى الواجب (حسب هذه النظرية) في مرحلة الحدوث فقط، فإذا حدث، استقلّ عن الواجب، وكان مستقلا في كل فعله واختياره عن الله تعالى، ويعتقدون أنّنا إذا سلبنا الاستقلال من الإنسان في الإِختيار وجعلنا اختيار الإنسان في طول إِختيار الله، وجعلنا إرادة الإنسان في طول إرادة الله، وجعلنا لله تعالى سلطاناً على فعل الإنسان واختياره، وقعنا في نفس المشكلة التي وقع فيها الأشاعرة من قبل وهي نسبة الظلم والسيئات إلى الله تعالى.

أمّا حينما يكون الإنسان مستقلا في إرادته وفعله عن الله تعالى فلا ينسب شيء من فعله إلى الله تعالى.

وبهذه الطريقة يحاول المعتزلة أن يحافظوا على (العدل الإلهي) إلاّ أنّهم يسلبون من حيث يعلمون أو لا يعلمون سلطان الله تعالى الدائم على عباده، ومشيئته المستمرة في خلقه، وهي نقاط حساسة تمسّ التوحيد بالذات.

وإذا كان المذهب الذي يذهب إليه الأشاعرة يمسّ (عدل الله) فإنّ المذهب الذي يذهب إليه (المعتزلة) يمسّ (توحيد الله) بشكل واضح وصريح، وقد وجدنا في ما سبق أنّ تأكيد القرآن على سلطان الله الدائم على خلقه ونفي استقلال الإنسان في شأن من شؤونه، لا يقل عن تأكيد القرآن على حرّية الإنسان في الاختيار.

وهذه العقدة ـ كما يبدو ـ هي التي ألجأت علماء المسلمين، من غير مدرسة أهل البيت (ع)، إلى الالتزام بأحد المحذورين، ولولا ذلك لا نجد توجيهاً للغفلة عن كل هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً من كتاب الله، بما لها من دلالة واضحة وصريحة على نفي الجبر والتفويض ونفي استقلال الإنسان في إرادته وفعله.

الاختيار ليس مساوقاً للاستقلال:

ولابدّ أن نشير قبل أن ننتقل إلى البحث عن المنهاج الذي تخلّص به علماء مدرسة أهل البيت (ع) من نسبة الظلم إلى الله تعالى، في الوقت الذي لم يفرّطوا في القول باتصال سلطان الله تعالى ونفوذه المستمر على فعل الإنسان واختياره…

قبل الدخول في هذا البحث ننبّه إلى أنّ الاختيار لا يساوق الاستقلال، وأعتقد أن السبب في انصراف علماء المسلمين من المعتزلة وغيرهم ممن يرفض (الجبر) عن الأمر بين الأمرين… تصوّر أنّ الاختيار بمعنى الاستقلال، بما أنّ مذهب (الأمر بين الأمرين) يسلب الإنسان الاستقلال في الاختيار، فهو بالضرورة يسلبه الاختيار، ومرّة أُخرى يؤدي بنا (الأمر بين الأمرين) إلى مذهب الحتمية الذي حاولنا أن نتخلّص من تبعاته… نقول: هذه الشبهة لا تستحق إطالة الكلام، فليس من شروط الاختيار أن تكون القدرة مطلقة، غير معلّقة على اختيار آخر أو فعل آخر، وليس من بأس أن يكون عمل واحد تحت اختيار طرفين لكل منهما اختيار وفعل، ولا يتم لأي منهما الاختيار والفعل إلاّ مع اختيار وفعل الطرف الآخر، أو يكون اختيار الثاني معلّقاً على اختيار الأول وفعله، دون العكس، وهذا واضح، ولذلك فلا نحتاج إلى توقف كثير عند هذه النقطة لنثبت أنّ (الاختيار) ليس بمعنى (الاستقلال).

فلنعد إلى أصل المسألة.

تفسير علماء مدرسة أهل البيت لـ(الأمر بين الأمرين):

والآن نحاول أن نعرف كيف تخلّص علماء مدرسة أهل البيت (ع) من هذه المشكلة وجمعوا بين الأخذ بما ورد في القرآن بالصراحة من اتّصال سلطان الله ونفوذه على اختيار عباده وأفعالهم، وبين تنزيه الله سبحانه من كل ظلم وسوء، وكلاهما صرّح به القرآن، وقد رأينا من قبل أن الأشاعرة أخذوا بالأُولى وفرطوا بالثانية، والمعتزلة أخذوا بالثانية وفرطوا بالأُولى.

التنظير الفلسفي لارتباط الإنسان بالله تعالى حدوثاً وبقاءً:

فيما سبق تحدّثنا عن المذهب القرآني في ارتباط الإنسان بالله، واستمرار هذا الاتصال والحاجة والفقر إلى الله حدوثاً وبقاءاً. وقد رأينا أنّ القرآن يزيل في ذلك كل غشاوة ويثبت بما لا مزيد عليه، أنّ الإنسان يبقى فقيراً إلى الله تعالى في كل شؤونه وحاجاته وفي كل مراحله، ولا ينقطع سلطان الله وإرادته وهيمنته وتدبيره عن الإنسان واختياره وفعله في لحظة من اللحظات… والآن نشير إلى التنظير الفلسفي لهذه المسألة:

إستمرار حاجة المعلول إلى العلة في مرحلتي الحدوث والبقاء:

إنّ المفوّضة يبنون رأيهم في استقلال الإنسان عن الله تعالى في الاختيار والفعل على أساس رأي فلسفي في استغناء المعلول عن العلة في مرحلة البقاء، واقتصار الحاجة إلى العلة في مرحلة الحدوث فقط.

وهذا رأي يذهب إليه بعض المتكلّمين، ويعتمد هذا الرأي بعض المشاهدات غير العلمية كاستمرار الحركة في الجسم المتحرك بعد انفصال القوّة المحركة عنه، وبقاء الحرارة في الجسم الذي إِمتص الحرارة من مصدرها بعد انفصال مصدر الحرارة عنه، وبقاء البناء بعد أن يكمله البنّاء وذهابه لشأنه، وما يشبه ذلك.

وإلى هذا الرأي يشير الشيخ ابن سينا في الإشارات، يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في النمط الخامس:

 (انه قد سبق إلى الأوهام العامية أن تعلق الذي يسمونه مفعولا بالشيء الذي يسمّونه فاعلا… انه قد حصل للشيء من شيء آخر وجود بعد ما لم يكن. وقد يقولون أنّه إذا وجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل. حتى انه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء. وحتّى أن كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرَّ عدمه وجود العالَم لأَنَّ العالَم عنده إنما إحتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود حتى كان بذلك فاعلا، فإذا قد فعل وحصل له الوجود عن العدم فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل… ونحن نوضح الحال في كيفية ذلك وفيما يجب أن يعتقد في هذا)[1].

والمفوضة، بناءاً على هذا التنظير الفلسفي يذهبون إلى أنّ الإنسان يستقل عن الله تعالى بعد أن يخلقه، ولذلك فهو مستقل في اختياره وفعله عن الله تعالى تماماً.

وهذا رأي باطل لا يقاوم الأدلّة العقلية القطعية التي تقرر بأنّ حاجة المعلول إلى العلة ليس في مرحلة الحدوث فقط بل في الحدوث والبقاء على نحو سواء، وإذا زالت العلّة زال المعلول تماماً، فإنّ المعلول قائم بالعلّة وبزوال العلّة يرتفع المعلول إذ ليس للمعلول وجود مستقل غير ما تفيض العلّة على المعلول (وهو علاقة العلة بالمعلول) ومتى انقطعت هذه العلاقة وانتهت هذه الإفاضة ينتهي المعلول بطبيعة الحال.

وما يتراءى لنا من النظرة الساذجة الأولى من استمرار وجود المعلول رغم انفصال العلّة وزوالها مشاهد ابتدائية ساذجة، لا علاقة لها بحديث العلّة والمعلول وقانون العلّية وقد أطنب الشيخ الرئيس& في الجواب عن هذه الشبهة على خلاف عادته. وخلاصة ما انتهى إليه الشيخ بأن تعلق المفعول بالفاعل ليس بسبب كون المفعول مسبوقاً بالعدم، وإنما بسبب كونه واجباً بالغير وإذا ظهر أن سبب توقف المعلول على علة وتعلق المفعول بفاعله هو أن المعلول والمفعول واجب بالغير يتضح أن الواجب بالغير سواءاً كان دائماً أو غير دائم متعلق بالغير متوقف عليه مادام موجوداً[2].

يقول صدر المتألهين:

(فإذن ما أسهل لك أن تتيقّن أن وجود العالم عن الباري جل ثناؤه وعظم كبرياؤه ليس كوجود الدار عن البنّاء وكوجود الكتابة عن الكاتب، الثابت العين، المستقل بذاته، المستغني عن الكاتب بعد فراغه، لكن كوجود الكلام عن المتكلم، إن سكت بطل وجود الكلام، بل كوجود ضوء الشمس في الجو المظلم الذات مادامت الشمس طالعة، فان غابت الشمس بطل وجود الضوء من الجو لكن شمس الوجود يمتنع عليه العدم لذاته، وان الكلام ليس جزء المتكلم بل فعله وعمله أظهره بعدما لم يكن وكذا النور الذي يرى في الجو، ليس هو بجزء للشمس بل هو انبجاس وفيض منها، فهكذا المثال والحكم في وجود العالم عن الباري جلّ ثناؤه، ليس بجزء من ذاته بل فضل وفيض يفضل به ويفيض، ولا ينبغي أن يتوهم متوهم أن وجود العالم عن الباري تعالى يكون تبعاً بلا اختيار منه. كوجود الضوء من الشمس في الجو طبعاً بلا اختيار منها. ولم يقدر أن يمنع نورها وفيضها لأنها مطبوعة على ذلك… لأنّ الباري تعالى كما يستوضح في مقامه مختار في فعاله بنحو من الاختيار أجلّ وارفع مما يتصوره العوام، مثل المتكلم القادر على الكلام، إن شاء تكلم، وان شاء سكت. فهذا حكم إيجاد العالم واختراعه من الباري، إن شاء أفاض جوده وفضله وإظهار كلمته، وإِن شاء أمسك عن الفضل والجود كما ذكر في آية إمساك السماوات والأرض)[3].

ولا نتوقف هنا أكثر من ذلك في تقرير هذه المسألة ومن يطلب المزيد فيها ففي الأبحاث الفلسفية إفاضة وسعة في تناول هذه المسألة من الناحية العقلية.

مناهج علماء مدرسة أهل البيت لتفسير (الأمر بين الأمرين):

في ضوء ما سبق لا مجال للتردد في سقوط نظرية التفويض المعتزلية من الناحية القرآنية والناحية العقلية على نحو سواء.

والآن كيف السبيل إلى تقرير نظرية (الأمر بين الأمرين) التي تنفي الحتمية في سلوك الإنسان في الوقت الذي تنفي فيه استقلال الإنسان وتفويض أموره إليه؟

وليس الاعتراف بـ(الأمر بين الأمرين) مع إصرار القرآن عليه ممّا يشق على هؤلاء العلماء، ولكن الذي يشق عليهم هو أن يجدوا من خلال هذه النظرية القرآنية التي أعلنها وكشف عنها أهل البيت (ع) طريقاً يسلمون فيه من نسبة الظلم إلى الله تعالى كما سلموا من نسبة الشرك.

وهذا ما حاول علماء مدرسة أهل البيت (ع) أن يهتدوا إليه من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) في تفسير وتوجيه وتقرير هذه النظرية.

ولدينا مجموعة من المناهج لكنّنا نأخذ من هذه المناهج أشهرها وأوضحها وإليكم شرحاً لهذا المنهج.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الإشارات والتنبيهات للشيخ الرئيس ابن سينا مع شرح المحقق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح لقطب الدين الرازي 3: 76، طهران، دفتر نشر كتاب 1403.
  • [2] ـ راجع شرح المحقق نصير الدين الطوسي على كلمات الشيخ ص 66 ـ 79 من الجزء الثاني من النمط الخامس.
  • [3] ـ وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} فاطر: 41. الأسفار الأربعة 2: 216.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى