ثقافة

الحتمية التاريخية – الحتميات المادية المعاصرة

ولا نقصد من النظريّات المادية النظريات القائمة على أساس رفض الإيمان بالله تعالى. وإنّما نقصد بذلك ما يقابل الحتمية الإلهية التي يتبناها الأشاعرة من نسبة كل فعل إلى الله تعالى في حياة الأفراد وفي حركة التاريخ. وهي التي تنسب الحتمية في سلوك الأفراد والجماعات إلى مصادر أخرى غير الله تعالى.

ومن رواد هذه النظرية في الغرب (منتسكيو) في كتابه (روح القوانين)، و(اشبنكلر) في كتابه (تدهور الحضارة الغربية)، و(دوركهايم) العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير. ويذهب هذا الأخير إلى أنّ الحياة الاجتماعية تتقرر بصورة منفصلة عن إرادة الأفراد ورغباتهم. وتتصف العلاقات والشؤون الاجتماعية من الأخلاق والمعارف والثقافة الاجتماعية، واليسر والعسر بثلاث خصال لا تنفك عنها، وهي: (الخارجية) و(الحتمية) و(التعميم).

فإنّ الشؤون الاجتماعية بكل تفاصيلها نابعة من عوامل خارجية، وليست نابعة من داخل الأفراد ورغباتهم وإرادتهم، والفرد يقع تحت ضغط الحياة الاجتماعية بصورة قهرية، كما أنّ الحياة الاجتماعية تقع تحت ضغط العوامل القهرية الموجبة لها وهذه هي (الخارجية).

وطبيعة هذه العلاقة بين الأسباب والمسببات في حركة التاريخ، وحركة المجتمع (حتمية) لا يمكن أن تتخلف المسببات عن أسبابها، ولو أنّنا تمكّنا أن نقرأ الأحداث في حلقات عللها وأسبابها لكنّا نتنبأ بها من دون ترديد وهذه هي (الحتمية).

والخصلة الثالثة هي (التعميم) فما يحدث في مكان وزمان لابدّ أن يحدث في كل مكان وزمان إذا توفرت الأسباب والشروط نفسها.

ومن أشهر الحتميات المادية المعاصرة هي نظرية كارل ماركس ـ فردريك انجلز، التي تحاول تقنين حركة التاريخ وترحيلها ضمن خمس مراحل عبر عامل الصراع الطبقي بين الطبقة المستثمِرة، والطبقة المستثمَرة.

إلاّ أنّ هذه النظرية انتكست في بداية ظهورها انتكاسات قوية في مرحلة التطبيق، وأثبت الواقع خلاف ذلك، وبقيت هذه النظرية تدرس على الصعيد النظري فقط.

نقد الحتمية التاريخية:

نقد الحتمية التاريخية

ومهما يكن من أمر هذه الحتميات المادية في تفسير التاريخ، فإنّ منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة الواردة في النظرية.

أمّا الحق فهو ربط التاريخ بالقوانين العلمية والعلل والأسباب التي تستوجب حركة التاريخ.

والحدث التاريخي ـ كأي ظاهرة أخرى في الكون ـ يخضع للأسباب والعلل الموجبة له. إذن قانون العلّية يحكم الحدث التاريخي، كما يحكم الظاهرة الفيزيائية والكيميائية والميكانيكية، بشكل دقيق، في كل أصولها العقلية المعروفة كالحتمية والسنخية والتعميم.

وهذا هو الحق ولا يمكن التشكيك فيه، غير أنّ النظرية الماركسية تنفي قانون العلّية رأساً وتضع محلها نظرية «المادية الديالكتيكية» التي اقتبستها من (هيگل).

أمّا الباطل في هذه النظريات فهو نفي إرادة الإنسان وقراره المستقل في صناعة التاريخ، وإِعتبار الإنسان خشبة عائمة على أمواج التاريخ القهرية، وتقرير مصير التاريخ والإنسان بمقتضى العامل الواحد الذي يتحكم في سلوك الفرد أو تاريخ الشعوب، لا يتعدد، ولا يختلف. وهذا باطل بالتأكيد؛ فإنّ الإنسان (الفرد، والمجتمع، والتاريخ) لا يقع على طريق علة واحدة فقط، وإنّما على مفترق طرق غالباً، واختيار نوع الطريق يرتبط بإرادته ووعيه وثقافته وقراره إلى حد كبير جداً، فإذا سلك الإنسان طريقاً من هذه الطرق بموجب إرادته وقراره ورأيه لم يكن له أن يتخلص من الآثار القهرية المترتبة عليه بموجب قانون العلية.

ولنضرب على ذلك مثالين، أحدهما: عن الفرد، والآخر: عن المجتمع.

أمّا التمثيل بالفرد: فإنّ الإنسان الفرد إذا تحرك ونشط وتعلم يشق طريقه إلى الحياة، وإذا خمل وكسل وركن إلى الجهل والكسل، يبقى ضعيفاً مغموراً لا شأن له، ولا قوة في الحياة.

وكل من هاتين النتيجتين تتصف بالقطعية والحتمية إذا اختار الإنسان الطريق المناسب لها. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ الإنسان يواجه قضاءاً وقدراً ذا بعد واحد في حياته لا يمكنه أن يحيد عنه.

وأمّا التمثيل بالمجتمع، فالمجتمع الذي يقاوم ويضحّي ويتحمل عذاب المواجهة وقسوة المقاومة يسلم من الظلم والاستبداد السياسي والإرهاب.

والمجتمع الذي ينقاد ويستسلم، ولا يقاوم يبتلى بأبشع أنواع الاستبداد السياسي والإرهاب.

وهذا وذاك حكمان حتميان لا سبيل للتخلص منهما في حياة الأمم. ولكن المجتمع يقف على مفترق طريقين في حياته السياسية، فإذا اختار الطريق الأوّل كانت النتيجة الأولى قطعية، وإذا اختار الطريق الثاني كانت النتيجة الثانية قطعية.

واختيار هذا الطريق أو ذاك يدخل في حيّز إرادة الإنسان واختياره ولا يقع تحت نظام الحتمية.

وسوف نعود إلى دراسة هذه النقطة مرة أخرى في سياق هذا البحث.

أقرأ ايضاً:

تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى