ثقافة

الحتمية التاريخية – الحتميات الإلهية في سلوك الإنسان

النظريات الحتمية عند الإلهيين تتعلق غالباً بالسلوك الفردي للإنسان وتتجه إلى نفي إرادة الإنسان في سلوكه وفعله، ونفي أي دور أو سلطان للإنسان على أفعاله. وهذه النظرية هي المعروفة بـ(الجبر).

وأشهر المذاهب الإسلامية التي تؤمن بالجبر هو مذهب الأشاعرة، أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (المتوفى سنة 330 هـ).

وهذا المذهب لا ينفي إرادة الإنسان وقدرته رأساً، ولكنّه يرى أنّ فعل الإنسان ليس ناشئاً من إرادة الإنسان وقدرته، وإنّما هو مخلوق لله تعالى.

وليس للإنسان دور في إيجاد العمل وإبداعه، وإنّما يقتصر دوره على كسب العمل فقط لا إيجاده.

وبذلك يحاول الشيخ الأشعري أن يجمع في هذه النظرية بين أصلين أساسيين هما: (التوحيد) و(العدل).

فهو يرى:

أوّلا: أنّ كلّ عمل للإنسان مخلوق لله تعالى، وليس للإنسان أي دور في إيجاد العمل وإبداعه وإحداثه، فإنّ الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[1]. وليس للعباد شأن في إيجاد أعمالهم وإبداعها، فإنّ الإيجاد يختص بالله تعالى في الأعمال والأعيان، على نحو سواء، وهذا هو مقتضى أصل (عموم التوحيد) على رأي الشيخ الأشعري.

فهو في الحقيقة يؤمن بمبدأ العلّية، ولا ينفي أصل العلّية، ولكنّه يؤمن بأنّ الله تعالى هو علّة لكلّ شيء مباشرةً، وليس على نحو التسبيب، فيُحلّ علّة واحدة محل العلل الكثيرة التي تتطلبها المخلوقات الكثيرة. ويرى أنّ الاعتقاد بأنّ لإرادة الإنسان وقدرته دوراً في إيجاد العمل، نحو من الشرك الذي تنفيه الآية الكريمة {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. وهذا هو الأصل الأول لدى الشيخ الأشعري.

أصل الكسب:

والأصل الثاني لدى الشيخ الأشعري هو أصل (الكسب)، والتزم به الأشعري، لئلاّ ينتهي به الأمر إلى (الجبر)، وإبطال الثواب والعقاب، وارتفاع المسؤولية عن الإنسان، وبالتالي لئلاّ يضطر إلى نفي صفة (العدل) عن الله تعالى[2].

فإنّ افتراض نفي كل سلطان ودور للإنسان في أفعاله يؤدي بالتالي إلى إبطال الثواب والعقاب معه، وليس من العدل عقاب العبد على فعل لم يكن له دور وسلطان في إيجاده بأي شكل.

وقد اختلفت كلمات الأشاعرة في توجيه وتفسير (الكسب). ومن أفضل من حاول توجيه الكسب من متكلّمي الأشاعرة هو أبو بكر الباقلاني، المتكلم المعروف.

وخلاصة رأي الباقلاني في تفسير (الكسب):

إنّ لكل فعل جهتين: جهة الإيجاد، وجهة الخصوصية والعنوان الذي جعله الله تعالى مناطاً للثواب والعقاب.

وهاتان جهتان مختلفتان، ونسبة كل واحدة منهما تختلف عن نسبة الأخرى.

فالجهة الأولى: هي (الإيجاد) وتنتسب إلى الله تعالى، ونسبة الإيجاد إلى غير الله تعالى من الشرك بالله.

والجهة الثانية: هي العنوان الذي يكتسب به العبد الثواب أو العقاب نحو (الصلاة) و(الصيام) و(الحج) و(الغيبة) و(الكذب)…

وكما لا يجوز نسبة الأُولى إلى العبد، لا يجوز نسبة الثانية إلى الله تعالى. وقدرة الإنسان وإرادته تتعلقان بالثانية فقط دون الأُولى، وهي مناط الثواب والعقاب.

وبذلك يتم لهذه المدرسة ـ كما يعتقدون ـ الجمع بين (أصل التوحيد) و(أصل العدل) أو (استحقاق الإنسان للثواب والعقاب).

إذن، للفعل الواحد جهتان إِثنتان وليس جهة واحدة. وهاتان الجهتان متعلقتان لقدرتين مختلفتين، قدرة الله تعالى وقدرة العبد. ولا ضير في ذلك، فإنّ إِختلاف الجهة يبرّر تعدد القدرة التي يتعلق بها الفعل.

مناقشة أصل الكسب:

ولعلّنا لا نستطيع أن نصل إلى أمر محصل واضح عن (الكسب)، فإنّ هذه العناوين التي يكسبها المكلف هي عين (الإيجاد) الذي تنسبه الأشعرية إلى الله تعالى. فلا معنى لإقامة الصلاة، وإتيان الحج، إلاّ إيجاد هذه الأعمال والحركات التي إذا اجتمعت تعنونت بعنوان الصلاة والحج.

والأعمال التي هي من قبيل الصوم، والتي تتقوم بعدم تناول الأكل والشرب وسائر المفطرات فحقيقتها (الكف)، وهو فعل من أفعال النفس، شأنها شأن سائر أفعال الجوانح.

و(النية) التي يحاول أن يوجّه بها الشيخ الباقلاني مسألة الكسب، مدعياً أنّ العمل الواحد يختلف حاله من نية إلى نية أخرى، فالقتل بنيّة العدوان جريمة، ونفس العمل بعنوان القصاص والحد تكليف شرعي، يثيب الله تعالى به العبد… ونفس الفعل من جانب الله، ولكن النية التي يوجه بها الإنسان العمل الصادر عنه هي من جانب الإنسان، والثواب والعقاب ليس على أصل القتل فلا علاقة له به، ولكن على النية التي نواها في القتل… فهذه هي وحدها التي يتحمل مسؤوليتها والتي يقوم بها.

نقول: إذا صحَّ هذا الكلام، فإنّ النية أيضاً عمل من أعمال الجوانح، ولا يختلف عمل عن عمل، ولا أعلم لماذا تصح نسبة النية إلى الإنسان ولا تصح نسبة أصل العمل. فالعمل عمل، سواء كان من أعمال الجوارح أو من أعمال الجوانح. وإذا صححنا نسبة النية إلى الإنسان نفسه، فلا بأس علينا بنفس الملاك والتبرير أن ننسب إلى الإنسان كل عمل يقوم به، سواء كان من أعمال الجوارح كالصلاة والحج، أو من أعمال الجوانح كالكف في الصيام بنية الصيام. ومهما يكن من أمر فلا نريد أن نستسهل مناقشة نظرية كلامية أخذت وقتاً طويلا وجهداً كثيراً من متكلّمي الإسلام بهذه الطريقة… إلاّ أنّنا نريد أن نطلّ على هذا الموضوع إطلالة، ونحيل القارئ إذا أراد التفصيل إلى مكان هذه الدراسة من الموسوعات الكلامية من قبيل شروح المقاصد والمواقف


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الصافات:96. هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بما يقول الأشاعرة فهي تتعلق بالحوار الذي جرى بين إبراهيم والمشركين من قومه. فقال لهم مستنكراً: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني إنّ الله خلقكم والأحجار التي تنحتونها أصناماً {َمَا تَعْمَلُونَ}.
  • [2] ـ وإن كانوا لا يصرحون بهذا التوجيه الأخير.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى