ثقافة

العلاقة بين الحتمية التاريخية والحتمية الكونية

وهاتان الحتميتان وإن كانتا مختلفتين في الشكل والمضمون إلا أنّهما تلتقيان، وتصبّان في تعطيل دور الإنسان التغييري والقيادي للنظام السياسي والاجتماعي.

فإنّ التغيير يعتمد على أمرين اثنين وهما:

1ـ إيمان الإنسان بالله تعالى وحوله وقوته وسلطانه، وتوكّله على الله تعالى، وثقته به. فإنّ الإنسان إذا أوصل حبله بحبل الله، وحوله بحول الله، وقوته بقوة الله تعالى، إستمد من الله تعالى حولا وقوةً عظيمين، واكتسب منه أملا وثقة لا حدّ لهما.

ومن دون أن يصل الإنسان حبله بحبل الله لا يمكن أن يملك هذا الأمل وهذه الثقة مهما كانت قوته وسلطانه وكفاءته. وإذا فقد الإنسان الأمل والثقة بالله سبحانه وانقطع حبله عن حبل الله، ضعف إلى حد بعيد عن المواجهة، ولن يملك في ساحة العمل والحركة ومواجهة التحديات إلاّ حوله وقوته، وهو حول ضعيف وقوة محدودة.

والإيمان بالحتمية الكونية وسلب سلطان الله تعالى في التأثير والنفوذ في مسلسل أحداث الكون ـ على الطريقة اليهودية ـ يفقد الإنسان هذا الارتباط النفسي بالله تعالى، ويسلب الإنسان الثقة بالإمداد الغيبي من جانب الله تعالى في حركته وعمله.

2ـ إيمان الإنسان بحرّية إرادته وقدرته على تغيير مسلسل (التاريخ) وتقرير مصيره ومصير التاريخ.

وهذا الإيمان يمكّن الإنسان من التحرك والعمل والتغيير، وبعكس ذلك يفقد الإنسان القدرة النفسية على التحرك والتغيير، إذا فقد هذا الإيمان، وآمن بأنّ تاريخه ومصيره قد كُتب من قبل بصورة حتمية، ولا سبيل لتغييره وتبديله، وإنّه عجلة ضمن جهاز كبير يتحرك ويعمل دون أن يملك من أمر حركته وعمله ومن أمر تاريخه ومصيره شيئاً.

وبهذا يتّضح أنّ الإيمان بهاتين الحتميتين، يحجب الإنسان عن الله تعالى وعن نفسه وإمكاناته، ويسلبه (الأمل) و(الحرية) في الحركة والقرار.

وبذلك يتحول الإنسان إلى خشبة عائمة في مجرى الأحداث والتاريخ.

وهذا وذاك أمر يطلبه الحكام والأنظمة التي تحكم الناس بالاستبداد والإرهاب.

موقف القرآن من هاتين الحتميتين:

موقف القرآن من هاتين الحتميتين

وموقف القرآن من هاتين الحتميتين موقف واضح. ففي الحتمية (التاريخية) و(السلوكية) يقرّر القرآن الكريم بشكل صريح حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته عن أعماله. يقول تعالى:

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[1].

{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[2].

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}[3].

 {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[4].

وفي نفس الوقت يقرر القرآن بشكل واضح مبدأ سلطان إرادة الله تعالى في حياة الإنسان وتاريخه، دون أن يلغي ذلك حرية إرادة الإنسان.

يقول تعالى:

{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[5].

{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[6].

{قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[7].

{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}[8].

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}[9].

وهذا التأثير المباشر لسلطان إرادة الله تعالى في حياة الإنسان، وتاريخه إلى جانب حرية إرادة الإنسان، وقراره، هو المبدأ المعروف بـ(الأمر بين الأمرين) الوارد عن أهل البيت^.

وهو مبدأ وسط بين مذهب الجبر الذي يتبناه الأشاعرة من المسلمين وبين مبدأ التفويض الذي يتبناه المفوّضة.

وسوف نقدم لذلك شرحاً أكثر فيما يلي من أبحاث هذه الرسالة.

وعن الحتمية الثانية يقرر القرآن الكريم مبدأ نفوذ سلطان إرادة الله تعالى في الكون، وهيمنة الله تعالى الدائمة والمستمرة على الكون.

يقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}.

ويقول تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} دون أن يكون معنى هذا المبدأ الذي يقرّه القرآن إلغاء أو تعطيل مبدأ العلّيّة والحتمية العلّية وكل القوانين والاُصول العقلية الناشئة من العلّية. ونحن نجد في القرآن الكريم إلى جانب هذه الآيات طائفة واسعة من آيات كتاب الله تقرُّ بمبدأ العلّية بشكل واضح ودقيق.

موقف أهل البيت من هاتين الحتميتين:

موقف أهل البيت من هاتين الحتميتين

واجه أهل البيت^ عبر التاريخ الإسلامي انحرافاً فكرياً، عقائدياً، لدى طائفة من المذاهب الإسلامية في فهم حركة التاريخ والكون، وذلك بتبنّي مذهب الحتمية والجبر في تاريخ الإنسان وسلوكه، وتبنّي مبدأ الحتمية في حركة الكون. وكان لرأي الحكام في العصرين، الأموي والعباسي، اللذين عاصرهما أهل البيت^ عليهما تأثير في هذا وذاك.

فوقف أهل البيت^ موقفاً قوياً ضد هذا الاتجاه وذاك، وأعلنوا عن رأيهم في حرية إرادة الإنسان وقراره، دون أن يعطّلوا دور إرادة الله تعالى في حياة الإنسان، وهو ما عبّر عنه أهل البيت^ بـ(الأمر بين الأمرين).

روى الفضل بن سهل، أن المأمون سأل الرّضا (ع)، فقال: >يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟

فقال (ع): الله أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذبهم. قال: فمطلقون؟

قال (ع): الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه»[10].

وروى الصدوق عن مفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال:

«لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين الأمرين»[11].

كما أعلن أهل البيت^ عن عقيدتهم في الحتمية الثانية.

عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله الصادق (ع) يقول:

«ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأَنداد، وأنَّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»[12].

وقد اشتهر نفي هذه الحتمية وتلك عن أهل البيت^ بصورة متواترة، وعرف قولهم في نفي الحتمية السلوكية والتاريخية بـ(الأمر بين الأمرين) وعرف قولهم في رفض الحتمية الكونية بـ(البداء).

ومهما يكن من أمر فسوف ندخل بإذن الله تعالى في تفاصيل هذا البحث في ضوء القرآن الكريم في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الإنسان:3.
  • [2] ـ يونس:44.
  • [3] ـ يونس:108.
  • [4] ـ الإنسان:29.
  • [5] ـ الإنسان:30.
  • [6] ـ التكوير:29
  • [7] ـ الرعد:27.
  • [8] ـ النور:35.
  • [9] ـ يونس:99ـ100.
  • [10] ـ بحار الأنوار 5: 59 ح110.
  • [11] ـ الكافي 1: 160 ح13.
  • [12] ـ التوحيد: 362 ح8 باب نفي الجبر والتفويض، الكافي1: 147 ح3 .
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى