ثقافة

موارد التعميم – تعميم اللعن والبراءة

تعميم اللعن والبراءة

من مصاديق التعميم… تعميم اللعن والبراءة للقتلة والمجرمين والراضين بجرائمهم.

وفي النصوص المأثورة عن أهل البيت في زيارة الحسين (ع) نلتقي هذا التعميم بوضوح وصراحة.

ففي النص المعروف بزيارة وارث نقرأ:

«لعن الله أمةً قتلتك، ولعن الله أمةً ظلمتك، ولعن الله أمةً سمِعت بذلك فرضيت به».

وهو نص عجيب، يستوقف الإنسان للتأمل والتفكير.

فهذه طوائف ثلاثة تعمّهم اللعن والبراءة: من القتلة، والذين أيدوا القتلة بالدعم والإِسناد، والذين رضوا عنهم.

اللعن والبراءة

اللعن والبراءة

واللعن والبراءة هو إِعلان الفصل والبينونة الكاملة، ولا يصح، ولا يجوز اللعن إلاّ عندما تنقطع آخر الخيوط من وشائج[1] الولاء في هذه الأمة.

فإذا انقطعت هذه الخيوط، خيطاً بعد خيط، عند ذلك يكون كل من الفريقين أمة منفصلة عن الفريق الآخر، فإذا كانت إحدى الأُمتين موضع رحمة الله «مرحومة»، فلا محالة تكون الأمة الأخرى موضع غضب الله «ملعونة». وهذا هو الحد الفاصل والحاسم بينهما.

فإن الله تعالى قد وصل بين المسلمين بوشيجة الولاء[2]، فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[3].

وهي أقوى الوشائج الحضارية في تاريخ البشرية، ومن يدخل في مساحة الولاء من المؤمنين يستحق من أعضاء هذه الأسرة الكبيرة، النصر والسلام والعصمة، واقصد بالعصمة أن يحفظوا دمه وعرضه «كرامته» وماله، وقد أعلن رسول الله (ص) حق المسلم على المسلمين في «العصمة»، في خطاب عام، ألقاه على المسلمين في مسجد الخيف بمنى، في آخر حجة حجها رسول الله (ص) بالمسلمين فقال:

«يا أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم واعقلوه، فإني لا ادري لعلّي لا ألقاكم بعد عامنا هذا. ثم قال: أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم.

قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر.

قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد.

قال: فان دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم.

ألا هل بلغتْ: قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها، فانه لا يحل دم أمرئ مسلم، ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا ترجعوا بعدي كفاراً»[4].

ومن حق المسلم على المسلم في دائرة الولاء: السلام، والنصرة. ونقصد بالسلام أن يسلم المسلمون من يده ولسانه.

فقد روي عن رسول الله (ص) في ذلك: «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه»[5].

ولا نعرف فيما نعرف من العلاقات الحضارية علاقة أقوى وأمتن، وفي نفس الوقت أرق من علاقة الولاء.

ويدخل في دائرة الولاء هذه كل من يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدهما دخل في عصمة الولاء وعَصَمَ من المسلمين دمه وماله وعرضه.

وإذا انقطع ما بينهما من العصمة كان كل فريق منهما أمة. ورحم الله (زهير بن القين)، فقد كان واعياً لهذه الحقيقة، لمّا خاطب جيش بني أمية يوم عاشوراء، فقال لهم:

«يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار. إِن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وكنتم أمة»[6].

وهذا وعي دقيق لحقيقة كبرى من حقائق هذا الدين، فإن العصمة إذا ارتفعت بين فريقين من المسلمين، ووقع بينهما القتل، وبغى أحدهما على الآخر، كان كل فريق منهما أمة، فإذا كانت إحداهما مرحومة كانت الأخرى ملعونة لا محالة.

الطوائف الملعونة في زيارة (وارث)

نعود إلى الطوائف الثلاثة التي ورد اللعن عليهم في زيارة الحسين (ع) وهم:

القتلة، والمؤيدون لهم، والراضون بفعلهم. والنص كما يلي:

لعن الله أمةً قتلتكم

ولعن الله أمةً ظلمتكم

ولعن الله أمةً سمعت بذلك فرضيت به.

والطائفة الأولى محدودة بمن حضر كربلاء. في محرم سنة 61هـ.

والطائفة الثانية أوسع من الطائفة الأولى، لأَنها تشمل كل الذين دعموا وأيّدوا القتلة، بالمال والسلاح والإعلام والإِعداد، حضروا كربلاء يوم عاشوراء سنة 61 هجرية أم لم يحضروا كربلاء في هذا التاريخ.

الطائفة الثالثة أوسع هذه الطوائف جميعاً، وتمتد على امتداد التاريخ، وتتصل حلقاتها إلى يومنا الذي نعيش فيه.

ومن عجب أن هذه الطائفة تستحق من اللعن والعذاب والبراءة ما تستحقه الأولى والثانية.

وكان الحسين (ع) إِذا طلب النصرة من أحد، فلم يستجب له ينصحه أن يبتعد عن الموقع، لئلا يسمع إِستغاثته، فلا يغيثه، وكان يقول لهم: >من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا، فلم يجبنا، ولم يغثنا، كان حقاً على الله أن يكبّه على منخريه في النار<[7].

وينعكس هذا الوعي للتاريخ، وربط الحاضر بالماضي، والأجيال بعضها ببعض في «زيارة عاشوراء» بصورة واضحة وبنصوص مؤثّرة. وفيما يلي ننقل أحد هذه النصوص:

«لعن الله أمّةً أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت. ولعن الله أمّةً دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها، ولعن الله الممهِّدين لهم بالتمكين من قتالكم. برئتُ إلى الله واليكم منهم ومن أشياعهم وأتباعهم وأوليائهم. إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة».

عاشوراء في خارطة الولاء والبراءة

إنّ الحياة ساحة صراع، والصراع هو العمود الفقري للتاريخ. ولا نستطيع أن نُعرّف التاريخ بأفضل من هذا التعريف. فإن التاريخ هو الصراع وما عدا ذلك فهو على هامش التاريخ وليس من صلب التاريخ.

ولا أقصد بالصراع، الصراع الطبقي كما يقول ماركس، ولا نظرية التحدي والاستجابة في التنافس العسكري والاقتصادي والسياسي، وإِنما أقصد بالصراع الصراع بين التوحيد والشرك، وهو صراع الحق والباطل. وهذا هو بالذات جوهر التاريخ والعمود الفقري للتاريخ وكل صراع آخر عدا هذا الصراع، فهو على هامش التاريخ، وليس من صلب التاريخ.

وهذا هو الصراع الذي نهض بإمامته إبراهيم (ع) في التاريخ وتبعهُ في ذلك أنبياء الله ورُسله والصالحون من عبادهِ، وساحة الحياة يتقسّمها هذا الصراع.

والناس، كل الناس، بين جبهتي هذا الصراع بدرجات ومواقع مختلفة، وتتداخل أطراف هذا الصراع، وتتشابك الخطوط في الساحة، حتى يصعب التمييز بين الحق والباطل في ساحة الصراع.

ولابدّ للإنسان الذي يريد أن يلتزم جانب الحق في هذا الصراع من معرفة دقيقة لهذهِ الساحة، ووعي وبصيرة نافذة لفرز الحق عن الباطل، ولا يستطيع الإنسان أن يأخذ موقعه الصحيح في هذه الساحة المتشابكة من غير هذا الوعي والمعرفة.

والعامل الأهم في هذا الوعي هو التقوى.

{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}[8].

{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}[9].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}[10].

و«عاشوراء» عامل دقيق للفرز بين الحق والباطل في هذه الساحة التي طالماً اختلط فيها الحق والباطل.

ولست أدري أي سر أودع الله تعالى في هذا اليوم العجيب من أيام التاريخ. فقد كان عاشوراء. منذ سنة 61 هجرية عاملا أساسياً يشطر الناس إلى شطرين متميزين شطر مع الحسين (ع) وشطر ضد الحسين (ع). وهذان الشطران كانا قائمين قبل سنة 61 هـ، وكان كل منهما يقف في قبالة الآخر ويعارضه ويضادّه.

الشطر الأول هو الشطر الذي وقف على امتداد التاريخ مع الأنبياء والمرسلين وهو شطر الصالحين، من الناس.

والشطر الثاني هو الشطر الذي تصدّى لدعوة الأنبياء في التاريخ وهو شطر المجرمين والمفسدين من الناس.

ذلك إن الحسين (ع) وارث الأنبياء والمرسلين والصالحين في التاريخ ودعوة الحسين (ع) امتداد لدعوة الأنبياء. و(يزيد) كان على نهج الطغاة في التاريخ، يرث عنهم طغيانهم وتمردهم وصدّهم عن سبيل الله، وكبرياءهم وخيلاءهم.

وهذان الشطران من الناس منتشران على كلّ مساحة التاريخ، ولذلك فهما يصبغان كل التاريخ بصبغتهما الخاصة. فكلّ من ورث التوحيد وقيمه وكان مع الحق كان راضياً بموقف الحسين (ع)، وساخطا على موقف بني أمية في عاشوراء، وكان على خط الأنبياء والمرسلين.

وكل من ورث بَطَرَ بني أمية واستكبارهم وخروجهم على حدود الله وأحكامه وصدّهم عن سبيل الله، كان على خط الطغاة والمستكبرين في التاريخ.

وعاشوراء، علامة فارقة بين هذين الشطرين من التاريخ والمجتمع، يشطر التاريخ والمجتمع إلى شطرين متميزين.

وكل أحداث الصراع بين الحق والباطل يمكن أن تكون علامة فارقة بين الحق والباطل في التاريخ والمجتمع، ولكن الله تعالى خصّ عاشوراء. من بين أحداث كثيرة بهذه الميزة العظيمة الواضحة.

و«الموقف» من هذين الشطرين «الولاء» و«البراءة» الولاء للشطر الأول والبراءة من الشطر الثاني، والحسين (ع) هو العلامة الفارقة والفاصلة بين هذا الشطرين.

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، وولّي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم».

وَتمتد مساحة كل من هذين الشطرين، على امتداد التاريخ والمجتمع، وهو أوسع المساحات جمعياً في حياة الناس.

ذلك أن عامل «الرضا» و«السخط» يدخل في تلوين هذه الساحة بلون الولاء والبراءة والأولياء والأعداء.

الولاء والبراءة بالموقف والعمل وليس بالنية

و«الولاء» و«البراءة» ليس بمعنى أن يضمر الإنسان الحب والبغض والإِقبال والإِدبار، وإِنما هما موقفان بكل ما في الموقف من معنى.

ولربما يكون أصدق كلمة في التعبير عن هذين الموقفين هذهِ الجملة القوية والمؤثرة في زيارة عاشوراء «إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم».

ومساحة هذا «السلم» و«الحرب» من أولياء الحسين (ع) وأعداء الحسين (ع) ليست عاشوراء وكربلاء فقط، وإنما مساحته التاريخ والمجتمع… وعامل هذا البسط والسعة هو «الرضا» و«السخط». فنفهم من زيارة عاشوراء هذا الوعي الدقيق للموقف من التاريخ والمجتمع… ففي نصوص هذه الزيارة:

«لعن الله أمةً قتلتكم ولعن الله الممهدين لهم بالتمكين».

وهاتان طائفتان تمتدان على مساحة واسعة من المجتمع. وتضيف زيارة وارث طائفة ثالثة إلى دائرة اللعن والبراءة.

«ولعن الله امة سمعت بذلك فرضيت به». وهذه هي الدائرة الثالثة، وهي أوسع هذه الدوائر.

فلا تبقى بعد هذه التوسعة مساحة من التاريخ أو المجتمع لا يشملهما موقف «السلم» و«الحرب» و«الولاء» و«البراءة» الذي تحدثنا عنه.

«عاشوراء» إذن بطاقة إنتماء إلى كل من هاتين الجبهتين المتصارعتين على امتداد التاريخ، جبهة الحق وجبهة الباطل، وجبهة التوحيد وجبهة الشرك.

والانتماء إلى كل من هاتين الجبهتين يتم من خلال عاملين، هما «العمل» و«الرضا».

الرضا الضحل والرضا العميق

هذا كله إذا كان «الرضا» صادقاً. فان الأُمنيّة الكاذبة، والرغبة الكاذبة، والحب الضحل لا يُدخل الإنسان في دائرة الولاء ولا يخرجه عن دائرة الأعداء.

ولا يكون الرضا والسخط صادقين إلا إذا اقترنا بالعزم والعمل.

أما عندما يكون «الرضا» و«السخط» مجردين عن الموقف والعزم والعمل فلا قيمة لمثل هذا الرضا والسخط.

و قد كان الشاعر الفرزدق& دقيقاً في وعي هذه الحقيقة عندما سأله الحسين (ع) عما وراءه في العراق لمّا غادر الحسين (ع) الحجاز إلى العراق، في ذي الحجة سنة ستين من الهجرة، فأجابه: (قلوبهم معك، وسيوفهم عليك)[11].

فإِن القلوب إذا افترقت عن السيوف، فسوف لن يكون بوسع هذه القلوب أن تخرج أصحابها من دائرة «أعداء الله» وتدخلهم في دائرة «أولياء الله».

وقد وجدنا أن هذا الحب الضحل والضعيف الذي كان يضمره الناس في العراق يومئذ للحسين (ع) لم يخرجهم من جبهة بني أمية ولم يدخلهم يومئذ في جبهة الحسين (ع).

وليس بوسعنا نحن أن نضع (ولاءنا) في التاريخ والمجتمع في مثل هذا الموضع الضحل من الرضا والسخط والحب والبغض، وإنما نوالي الذين صدقوا في رضاهم وحبهم لأولياء الله، وصدقوا في سخطهم وبغضهم لأعداء الله.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حب أوليائه، والرضا بمواقفهم، وبغض أعدائه، والسخط عليهم، وأن يرزقنا الصدق في هذا الرضا والسخط والحب والبغض جميعاً.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الوشيجة: المشتبك والنسيج المتداخل.
  • [2] ـ وشيجة الولاء: شبكة الولاء.
  • [3] ـ التوبة: 71.
  • [4] ـ وسائل الشيعة 19: 3 وسنن ابن ماجة 2: 1297 ومسند احمد بن حنبل 5: 411.
  • [5] ـ أورده الكليني في الكافي والمجلسي في البحار والحر العاملي في الوسائل وأخرجه البخاري ومسلم ف يصحيحيهما والترمذي في سننه والحاكم في المستدرك والمتقي في كنز العمال والهيثمي في مجمع الزوائد.
  • [6] ـ تاريخ الطبري 6: 243.
  • [7] ـ ثواب الأعمال ص308 ح1 ورجال الكشي ص113 ح181 والبحار27: 204 ح6.
  • [8] ـ البقرة: 282.
  • [9] ـ الطلاق: 2.
  • [10] ـ الحديد: 28.
  • [11] ـ شرح إحقاق الحق للمرعشي 27: 200 عن التبر المذاب للخوافي: 75.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى