ثقافة

سنة التعميم – عامل التعميم

عامل التعميم

وعامل التعميم: الرضا والسخط.

والرضا والسخط من الحب والبغض.

فإذا رضي الإنسان بعمل قوم اُشرك في عملهم، من خير أو شر وعوقب عليه إن كان شراً، وأثيب عليه، إن كان خيراً.

وإذا سخط الإنسان على قوم لم يلحقه إثْمهم.

فالحب والرضا يلحقان الإنسان بالذين يحبهم ويرضى عنهم.

والبغض والسخط يفصلان الإنسان عن الذين يبغضهم ويسخط عليهم.

فهو عامل للوصل والفصل.

وحيث كان اليهود المعاصرون لرسول الله (ص) راضين بفعل آبائهم في قتل الأنبياء… فإن الله تعالى يحمّلهم مسؤولية جرائم آبائهم ويدينهم بها ويعاقبهم عليها، ويلزمهم الحجّة بذلك، مع أنهم لم يعاصروا أولئك الأنبياء، ولم يدركوهم فضلا من أن يكون لهم دور في قتلهم.

روي عن أبي عبد الله الصادق (ع):

>إن الله حكى عن قوم في كتابه: {أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

قال: بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام، فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا<[1].

وعن محمد بن الأرقط عن أبي عبد الله الصادق (ع):

قال: تنزل الكوفة؟. قلت: نعم.

قال: فترون قتلة الحسين بين أظهركم؟

قال: قلت: جعلت فداك ما رأيت منهم أحداً.

قال: فإذن أنت لا ترى القاتل إلا من قتل أو من ولى القتل؟

ألم تسمع إلى قول الله: {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

فأي رسول قتل الذين كان محمد (ص) بين أظهرهم؟ ولم يكن بينه وبين عيسى (ع) رسول.

إنما رضوا قتل أولئك، فسمّوا قاتلين<[2].

الإشراك بـ(الرضا):

فالرضا يشرك الراضي في فعلِ من يرضى عنه، من خير أو شر، مارس الفعل أم لم يُمارسهُ، وفي كل الآثار: في المثوبة والعقوبة، والمسؤولية والإدانة.

عن أميرالمؤمنين (ع)، برواية الشريف الرضي (في نهج البلاغة):

«أيها الناس، إِنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب، لما عمّوه بالرضا.

قال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}[3].

فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة<[4].

وعن أميرالمؤمنين (ع): «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم. وعلى كل داخل في باطل إِثمان: إثم العمل به، والرضا به»[5].

والإمام (ع) يحلّل في هذه الكلمة العناصر التي تتركب منها الجريمة إلى إثمين: «إثم العمل به وإثم الرضا به».

ولا يختص أمر هذا التعميم بالباطل والإثم، بل يعمّ الحق والثواب أيضاً.

المشاركة في التاريخ بالرضا والسخط

ورد في بعض النصوص الجامعة في زيارة الأئمة^ الشهادة بأنا قد شاركنا أولياءهم وأنصارهم والمقاتلين بين أيديهم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وهي شهادة غريبة لا يفقهها الاّ من يفقه سُنَّة الله في التعميم. واليك هذا النص من بعض النصوص الجامعة لزيارة أئمة أهل البيت^:

«فنحن نشهد الله أنا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم المتقدمين، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين، وقتلة أبي عبد الله سيد شاب أهل الجنة يوم كربلاء، بالنيّات والقلوب، والتأسف على فوت تلك المواقف، التي حضروا لنصرتكم»[6].

فهذا باب واسع من الفقه في هذا الدين. وهو فقه «الرضا» و«السخط»، وانطلاقاً من هذا الفقه فنحن قد شاركنا إبراهيم (ع) رائد التوحيد في دعوة التوحيد، وفي تحطيم الأصنام ومقاومة طاغية عصره نمرود، وشاركنا موسى (ع) وعيسى بن مريم‘ في دعوة التوحيد ورفض طغاة عصره، وشاركنا رسول الله (ص) في حروبه وغزواته، ونشارك الصلحاء والأولياء وأئمة التوحيد، والدعاة الهداة، والذاكرين المسبحين لله تعالى عبر التاريخ في الدعوة إلى الله، والنصيحة لعباد الله، والذكر، والتسبيح، والآلام، والهموم، وما أَراقوا من دماء الظالمين، وما أُريق لهم من الدماء، وما هدموا من أركان الظلم والشرك، وما أشادوا من أركان التوحيد والعدل…

وهذا باب واسع من الفقه والمعرفة لا يسعه هذا المقال.

وقد روي بطرق كثيرة: «المرء مع من أحبَّ»[7].

كسب الأمة وكسب الفرد

نلتقي في القرآن، ربما لأول مرة في تاريخ الثقافة بفهم جديد للأمة. وانطلاقاً من هذا الفهم الجديد للأمة، ليست الأمة بمعنى تجمع كمّي من الناس، وإنما هي حالة بشرية كيفية، فلا تساوي الأمة مجموعة الأفراد وآثارهم وقوتهم. وليست الأمة من حيث الأساس من مقولة الكم، وإنما هي من مقولة الكيف.

فلا تكون قوة الجماعة مجموعة قوى الأفراد… بل «يد الله على الجماعة» و«مع الجماعة».

و«يد الله» أمر آخر غير المجموعة الكمية لقوة الأفراد. ولا تختلف في ذلك الأمة المؤمنة عن غيرها، فان للأمة في القرآن أحكاماً وآثاراً غير ما لمجموع الأفراد من الأحكام والآثار.

والأمة الواحدة لا يحصرها الزمان والمكان، ولا يضرّ بوحدتها تعدد المكان والزمان. والقرآن يعبّر عن هذهِ الأمة المباركة بأنها من ملّة إبراهيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[8].

ويعبّر عن إبراهيم (ع) بأنه الأب الأول لهذه الأمة: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ}[9].

وعن هذه الوحدة التي تطوي الزمان والمكان يقول تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[10]. ويقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[11].

وانطلاقاً من هذا كله فان القرآن يقرر أن للأمة فعلا وكسباً، وهو غير فعل الفرد وكسبه، ونتائج كسب الأمة تعم الأمة كلها في الخير والشر، حتى من لم يشارك، ولم يكن له دور في هذا الكسب… إذا كان يشاركهم في الرضا والسخط، وأما نتائج كسب الأفراد فتخصهم وحدهم ولا تعم غيرهم.

وعليه فهناك طائفتان من الكسب والفعل:

الطائفة الأولى من الكسب ما يتعلق بالأمة مثل الشعائر والأعراف والأعمال الجمعية. وما يرضى عنه الناس ويُقِرّوه ويدعموه بالتأييد. وتعم آثار هذه الأعمال الناس جميعاً من شارك فيها ومن لم يشارك في الخير والشر معاً.

والطائفة الثانية من الكسب ما يخص الأفراد، ولا يكون له مردود على الهيئة الاجتماعية بشكل واضح في الدنيا والآخرة، وعن هذه الطائفة يقول تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[12].

ويقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}[13].

وعن «كسب الأمة» الّذي يعم الأمة كلها يقول تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[14].

لكل أمة ما كسبت من خير أو شر، ولا تسأل أمة عما كسبت أمة أخرى. ولا يخص كسب الأمة الذين شاركوا في هذا الكسب. وإنما يعمهم جميعاً إذا عمّوه بالرضا[15].

إن الخير والشر الذي تكسبه الأمة يعم الأمة جميعاً، العاملين وغير العاملين، إذا عموه بالرضا. وهذه السُنَّة سُنّة عامة في الدنيا والآخرة.

هذه السنّة تجمع وتُفرِّق، وتُوصِل، وتفصل. تَجمع الناس من بقاع شتى من الأرض، وفي فترات متباعدة من التاريخ، فتجعل منهم امة واحدة، عندما يجمعهم الرضا والسخط والولاء والبراءة.

ويفرّق الأسرة الواحدة والبيت الواحد إلى أُمتين وجبهتين، لا تلتئمان، ولا تجتمعان، إذا افترقا في الرضا والسخط وفي الولاء والبراءة.

وهذه السُنَّة تصل فرداً بآخر، لا تجمعهم لغة ولا إقليم ولا زمان ولا تعارف، وتفصل الأخ عن أخيه الشقيق الّذي يجمعه بيت واحد وأسرة واحدة.

فيكسب الإنسان في الحالة الأولى ممن لا يعرفه ولا يجمعه به بيت أو مكان أو زمان أو لسان، ولا يشاركه في أصل أو رحم… يكسب الإنسان منه صالح أعماله جميعاً. أو سيئات أعماله جميعاً، إذا كان يجمعه به الرضا والسخط.

وينشطر في الحالة الثانية الأسرة الواحدة والبيت الواحد، في السعادة والشقاء فيسعد أحدهم بالجنة ويشقي الآخر في النار، خالدين فيها، إذا كانا يفترقان في الرضا والسخط.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الكافي 2: 409 ح1.
  • [2] ـ بحار الأنوار 97: 95 ح4 عن تفسير العياشي1: 208.
  • [3] ـ الشعراء: 157.
  • [4] ـ نهج البلاغة 2: 207.
  • [5] ـ نهج البلاغة 3: 191.
  • [6] ـ المزار للشيخ محمد بن المشهدي: 299، ط. مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1419هـ، وعنه بحار الأنوار 99: 167 الزيارة الجامعة الخامسة.
  • [7] ـ ميزان الحكمة 2: 214 ـ 215.
  • [8] ـ النساء: 125.
  • [9] ـ الحج: 78.
  • [10] ـ المؤمنون: 52.
  • [11] ـ الأنبياء: 92.
  • [12] ـ الزمر: 7.
  • [13] ـ النجم: 39 ـ 41.
  • [14] ـ البقرة: 134 و141.
  • [15] ـ تختلف هذه السنّة عن السنّة التاريخية والاجتماعية الأخرى التي تقررها آية الأنفال المباركة {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}. فان هذه الأخيرة تخص الدنيا فقط دون الآخرة، وتعم الراضين وغير الراضين، وهي تجري في الخير والشر جميعاً، فإذا استسقى قوم من المؤمنين المطر، فانزل الله عليهم الغيث عمَّ الخير جميعهم في الدنيا حتى من كان على غير ملّتهم، ولم يكن على هواهم، ولم يشاركهم في الرضا والسخط. وإذا أشعل قوم فتنة في المجتمع عمّ شرّها الجميع، حتى الذي لم يشاركوهم في الرضا والسخط، وتختص آثار هذه السنّة بالدنيا دون الآخرة، بينما تعم سنة التعميم التي نحن بصدد الحديث عنها الناس في الدنيا والآخرة، وتعم الراضين فقط دون غيرهم ممن لا يشاركهم في الرضا والسخط. وهذا هو الذي نقصده نحن من سنّة التعميم. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى