ثقافة

أدب العودة إلى الله – الإعتذار

(الإعتذار) مقابل (التبرير) والإعتذار بين يدي الله تعالى جميل، والتبرير قبيح. ولابد لهذا الإجمال من إيضاح، فأقول:

الفرق بين (التبرير) و(الإعتذار). إن الإعتذار توجيه للعمل مع الإعتراف بالخطأ والتبرير توجيه للعمل من دون الإعتراف، بالخطأ. والله تعالى يحب العذر ويكره التبرير لأن التبرير نحو من المكابرة في تصحيح الخطأ.

وليس المهم كيف يكون الإعتذار، وإنما المهم أن يكون العبد بصدد الإعتذار، وليس بصدد اللجاج والعناد والمكابرة.

ويتم الإعتذار حتى بالإعتراف والإقرار: «إلهي مني لؤمي ومنك كرمك».

والله تعالى كريم لا يرد عذر العبد إذا علم منه العودة والندم، مهما كان عذره، حتى لو كان عذره إقراراً باللؤم وقلة الحياء والصّلف.

وقد يعتذر العبد بكرم وجه الله، وهو إعتذار جميل يناسب جمال وجه الله، فيعتذر العبد إلى الله بأنّه لم يعصه حين عصاه متمرداً على الله، مستخفاً بأمره، مستهيناً بسلطانه وحكمه، وإنما عصاه إذ عصاه واثقاً برحمته وفضله وستره.

تأملوا في هذه اللوحة الرائعة من دعاء أبي حمزة:

«وما أنا يا رب؟ وما خطري؟ هَبني بفضلكَ، وتصدَّق عليّ بعفوك، أي ربِّ جللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك. فلو إطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهونُ النّاظرين اليَّ، وأخفُ المطَّلعين عليّ، بل لأنكَ يا ربِّ خيرُ السّاترينَ، أحكمُ الحاكمينَ وأكرمُ الأكرمينَ، ستّار العيوبِ، غفّار الذنوبِ، تستر الذنب بكرمكَ، وتؤخّرُ العقوبةَ بحلمكَ، فلكَ الحمدُ على حلمكَ بعدَ علمكَ، وعلى عفوكَ بعدَ قدرتكَ، ويحملني، ويجرؤني على معصيتكَ حلمكَ عنّي، ويدعوني إلى قلَّةِ الحياءِ سترُكَ عليَّ ويسرعني إلى التَوثُّبِ على محارمكَ معرفتي بسعة رحمتكِ وعظيمِ عفوكَ».

وما أجمل هذا العذر «ويدعوني إلى قلة الحياة سترك عليّ»

وهذه الفقرات من دعاء أبي حمزة تتضمن مفاصل هامّة وحسّاسة.

فهي:

أولا: تواضع وتصاغر بين يدي الله تعالى «وما أنا يا ربِّ وما خطري». استهانة بصاحب الذنب. والإستهانة بالذنب قبيح والإستهانة بمرتكب الذنب جميل.

ثانياً: استرحام وإستغفار.

(هَبني بفضلكَ وتصدق عليّ بعفوك أي ربِّ جللني بسترك… واعف عن توبيخي بكرم وجهك).

نسأله تعالى أن يعفو عنا فلا يعاقبنا بسيئات أعمالنا ولا يحاسبنا عليها، ولا يذكرنا بها حتى لا يخجلنا، والكريم لا يعاقب المذنب إذا تاب، ولا يذكره بذنبه لئلا يخجله ويحرج موقفه بين يديه.

ثالثاً: اعتراف (فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته).

رابعاً: نفي لشبهة الشّرك والإستهانة بعظمة الله وجلاله: (لا لأنك أهون الناظرين وأخف المطلعين عليّ).

خامساً: الإعتذار بأجمل العذر: (بل لأنك يا رب خير السّاترين… ستار العيوب، غفار الذنوب). وهو عذر جميل، وقد ورد في الحديث في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.

إن الله تعالى يلقن عبده في هذه الآية بان كرمه تعالى هو الَّذي غره على معصيته.

وفي دعاء أبي حمزة أيضاً:

(إلهي لمْ اعصكَ حينَ عصيتكَ، وأنا بربوبيتك جاحدٌ، ولا بأمرك مستخفٌ، ولا لعقوبتكَ متعرضٌ، ولا لوعيدكَ متهاونٌ، ولكنْ خطيئةٌ عرضتْ، وسولتْ لي نفسي، وغلبني هوايَ، وأعانني عليها شِقوتي، وغرّني سترك المُرخى عليّ).

والأمر هنا دقيق ورقيق وحساس في مقام الإعتذار إلى الله. فهناك ما لا يصح الإعتراف به والإعتذار عنه. وهناك ما يصح الإعتراف به والإعتذار عنه.

أما ما لا يصح الإعتراف به والإعتذار فهو الإستهانة بأمر الله وسلطانه، والإستهانة بوعيد الله وعذابه وقهره.

(لا لأنك أهونُ النّاظرين وأخفُ المطّلعين).

(لم اعصكَ حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحدٌ ولا لأمركَ مستخفٌ، ولا لعقوبتك متعرضٌ).

فهذا ما لا يجوز الإعتراف به والإعتذار عنه مطلقاً، لأنه يمس التوحيد، وهو ما لا يرتضيه الله تعالى لعباده.

وأما ما يصح الاعتذار فهو أمران حلمه تعالى وجميل ستره على عباده (ويحملني ويجرؤني على معصيتك حلمك عنّي، ويدعوني إلى قلة الحياء سترك عليّ)، وهذا هو النحو الأول من الاعتذار الجميل. وكأنّ العبد يقول: إنني لؤمت لأنك حسن جميل.

والنحو الآخر من الاعتذار الجميل: الاعتذار بدناءة النفس وغلبة الهوى وسقوط الهمة.

(ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي).

والأمل بستر الله ورحمته.

(بلْ لأنكَ يا ربِّ خيرُ السّاترين وأحكمُ الأحكمينَ وأكرم الأكرمينَ ستّار العُيوبِ غفار الذنوبِ).

وفي دعاء عرفة للإمام زين العابدين (ع) نجد صورة أخرى من هذا الاعتذار الجميل في السّلب والإيجاب فمن ناحية السّلب ينفي الإمام في الدعاء أن يكون مخالفة العبد لأمر مولاه عناداً واستكباراً.

وفي الإيجاب يعتذر العبد إلى ربه بأمرين: بسلطان الهوى، وغلبة الشّهوة، وضعف النفس تجاه مغريات الحياة الدنيا، أولا.

وبرجاء العبد لعفو مولاه، وثقته بكرمه سبحانه وتعالى.

فلننظر في هذه الرائعة من روائع الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) من دعائه في عرفة، وهي تسع فقرات متواليات:

1ـ وأنا عبدُك الَّذي أنعمتَ عليهِ قبلَ خلقِك لَهُ، وبعدَ خلقِك إياهُ فجعلتَه مِمَّنْ هَدَيْتَه لدينِك، ووفقتَه لحقِك، وعصمتَه بحبلِكَ، وأدخلْتَهُ في حِزبِكَ، وأرْشَدْتَه لموالاةِ أوليائِكَ، ومعاداةِ أعدائِكَ.

2ـ ثمّ أمرتَه فلمْ يأتمرْ وزجرتَه فلمْ يَنْزَجِرْ، ونهيتَه عن معصيتِكَ فخالفَ أمرَكَ إلى نهيِكَ. (وهذا اعتراف، والاعتراف شرط الاعتذار).

3ـ لا مُعانَدَةً لكَ ولا استكباراً عليك. (وهذا هو الجانب السّلبي، الَّذي تحدثنا عنه ينفي فيه الإمام أن تكون مخالفة العبد استكباراً وعناداً يخرجه عن دائرة العبودية والتوحيد).

4ـ بلْ دعاهُ هواهُ إلى ما زَيّنته والى ما حَذرْتَهُ وأَعانَه على ذلكَ عدوُّكَ وَعَدُوُّهُ. (وهذا هو الاعتذار الأول).

5ـ راجياً لعفوك، واثقاً بتجاوُزِك. (وهذا هو الاعتذار الثاني).

6ـ وها أنا ذا بينَ يديْكَ صاغراً، ذليلا، خاضعاً، خاشِعاً، خائِفاً، معترِفاً بعظيم من الذنوب تَحَملْتُه وجليل من الخطايا اجْتَرَمْتُهُ. (اعتراف آخر وتصاغر وتذلل بين يدي الله).

7ـ مستنجداً بِصَفْحِك لائذاً بِرحْمَتِك، موقناً إنه لا يجيرني مِنْكَ مجيرٌ، ولا يمنعني مِنْكَ مانعٌ. (استغاثة واستعاذة بالله وثقة بعفو الله وكرمه).

8 ـ فَعُدْ عليّ بما تعودُ بِه على من اقترفَ من تَغَمُدّك وجُدْ عليّ بما تجودُ بِه على من ألقى بيدهِ إليكَ من عفوِك، وامننْ عليّ بما لا يتعاظمُك أن تَمُنَّ به على من أمَّلَكَ مِن غُفْرانِكَ، ولا تردَني صِفراً مما ينقلبُ به المتعبدون لكَ من عبادِك. (وهذا ادعاء واسترحام واستغفار).

9ـ وإني وإنْ لَمْ أُقدّم ما قدموهُ من الصّالحاتِ فقد قَدمْتُ توحيدَك ونفي الأضدادِ والأندادِ والأشباهِ عنك وأتيتُك من الأبواب الّتي أمرتَ أن تؤتى مِنها، وتقربتُ إليكَ بما لا يقرُبُ به أحدٌ مِنك إلاّ بالتقرُّبِ منه. (وهذا توسل إلى الله بتوحيده، وهو من أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله).

أقرأ ايضاً:

تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى