ثقافة

علاقة الثورة بالله : التثبيت والثقة بالنصر

من عناصر النصر التثبيت والثقة بالنصر، وارتفاع الحالة المعنوية في نفوس الدعاة. وهذه الأمور من خصائص الدعاة المؤمنين بالله. والنفوس المؤمنة هي وحدها التي يمنحها الله تعالى الثقة، والطمأنينة، والسكينة، والإستقرار، والثبات.

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}[1].

{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[2].

{ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[3].

وهذه هي السكينة التي تمنح الإنسان إستقراراً في النفس، وسكوناً لها من القلق والإضطراب، في أحرج ساعات المحنة.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الله تعالى يمنح المؤمنين الدعاة ثباتاً على أرض المعركة، وثباتاً في الموقف، وثباتاً في الإيمان، وثباتاً في القول، وثباتاً في الدنيا، وثباتاً في الآخرة.

{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[4].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[5].

وليس هذا فحسب، وإنما يربط القلوب أيضاً. فإن القلوب تضعف في ساعة المحنة، ويتسرب إليها الضعف، إذا قست المحنة وطالت، فيتساقط فيها أكثر الناس قوة واستقامة، إلا المؤمنين، فإن الله تعالى يربط على قلوبهم.

{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}[6].

فما أروع القلوب المؤمنة في ساعات المحنة، وفي ساحات القتال، وداخل زنزانات السجون، وتحت سياط الجلادين… ثابتة مطمئنةً، مرتبطةً بالله، ساكنة، مستقرةً، كأنها قدت من زبر الحديد، وما قيمة الحديد تجاه صلابتهم واستقرار قلوبهم.

ومن أوضح الحقائق وابسطها أنّ أصحاب هذه القلوب لا يتخطاهم النصر، مهما طالت محنتهم وتعاظمت.

وفي قبال هذه القلوب قلوب المنافقين والكافرين والطغاة، فإنها في قمة سطوتها، واستكبارها، وتطاولها على الله ورسوله… ضعيفة، مهزوزة، مرعوبة، يساورها القلق، ولا يفارقها الخوف والإضطراب.

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ}[7].

{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[8].

ولقد حسب هؤلاء اليهود كل حساب، وحصنوا حصونهم وفق هذه الحسابات، فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، من داخل قلوبهم، فأدخلها الرعب، وهزمهم من حيث لم يكونوا يحتسبون.

ويصف القرآن الكريم حال هؤلاء المهزومين من المنافقين وصفاً رائعاً في حالتي الخوف والأمن:

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[9].

تلك الحالة النفسية لكل من المعسكرين، معسكر الدعاة إلى الله، ومعسكر أعداء الله ورسوله.

وليس ينبغي أن يخطر على بال أحد أن الأمر قد إختلف في عصرنا، عما كان عليه من العصور السابقة، فإن الصراع بين موسى (ع) وفرعون، وبين نوح وقومه، وإبراهيم وقومه، ورسول الله (ص) وقريش واليهود… كان محفوفاً بالنصر للمؤمنين وقد صدق الله وعده، حيث كانت الوسائل في الحرب والسلم متكافئة.

أما اليوم، وقد تسلح الطغاة بآخر ما إستحدثه الإنسان من الأسلحة المدمرة والفتاكة، وانتزعوا كل شيء من أيدي المؤمنين، وفرضوا سلطانهم وقوتهم على كل جوانب الحياة، واستوعبوا كل مداخل حياة الناس، ومساربها، ومخارجها، وسلبوا عنهم كل قوة وصلاحية… فلم يبق مجال للتحرك، ولم يبق أمل في النصر.

وكيف ترى تتحول هذه القوة العملاقة إلى أيدي المؤمنين الدعاة إلى الله! وكيف يتخلص المؤمنون من أخطبوط أجهزة الأمن والإستخبارات التي تضيق عليهم الخناق وتكاد أن تحصي عليهم أنفاسهم؟

إن أقصى قوة فرعون كانت في أن يطلب من السحرة أن يتحدّوا بسحرهم موسى (ع). وأن يصنع له هامان برجاً ليصعد عليه ويرى اله موسى، وإن أقصى قوة نمرود كانت في أن يصنع ناراً ليحرق فيها إبراهيم (ع)، وإن أقصى قوة أبي جهل كانت في حفنة من الأوباش يحيطون به، ويأتمرون بأمره.

وأما طغاة عصرنا فهم يحصون على الناس أنفاسهم، ويملكون من الأسلحة الفتاكة ما لا تبقي ولا تذر، ومن الأنظمة العسكرية والأمنية والحزبية المعقدة، ما لم يكن يخطر على بال الدعاة في العصور الأولى.

وجوابي على هذه الشبهة، وهي مع الأسف شبهة عميقة في النفوس، وإن كانت تبدو ضحلة وبسيطة… جوابي عليها شاهد من عصرنا ودليل من كتاب الله.

أما الشاهد من عصرنا فهو تحول القوة من طاغية إيران. ونظامه الرهيب، الذي كان يضرب به المثل، إلى أيدي الدعاة، وإنهيار الحصون والقلاع الأمنية، والعسكرية، والإقتصادية، والإستعمارية التي كانت تحميه في أقل من سنة.

وأما الدليل من كتاب الله، وهو الأصل والأساس:

{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ، لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}[10].

{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[11].

{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[12].

فلن تتبدل سنة الله تعالى في نصر عباده المؤمنين، وهزيمة الطغاة الجبارين، ولن تتغير هذه السنة، ولن تتحول، ولن يؤثر عليها مرور الزمن… إنها سنة الله، ثابتة، مستقرة، وليست صدفة، أو خاصة من خصائص الزمان، تحدث مرّة أو مرتين، ثم تنقطع.

إنها سنّة، كما أن إختلاف الفصول في السنة سُنَّة، وكما أن شروق الشمس وغروبها سنّة، وكما أن نزول الأمطار على الأرض سنة، وكما أن إختلاف ألسنة الناس سُنة.

إن سنن الله لن تتغير، ولن تتبدل، وهي جزء من حقائق هذا الكون الكبير، أودعها الله تعالى فيه إيداعاً ثابتاً.

تلك هي حقيقة النصر الإلهي للقلّة المؤمنة على وجه الأرض، وكما ترون أن المماراة في هذه الحقيقة والتشكيك فيها، مع الإلتفات، مماراة في كتاب الله، وتشكيك في التوحيد.

فقد توخيت في هذا الحديث أن لا أتجاوز حدود كتاب الله الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً، ولا يشك فيه إلا مشكوك في إيمانه. وقد رأينا أن القرآن الكريم يعد القلّة بالنصر، وعداً مؤكداً من الله، والله تعالى لا يخلف وعده، ومن أصدق من الله قيلاً.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[13].

ذلك وعد من الله، ثابت، مذكور في كتاب الله:

{وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}[14].

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[15].

وبذلك فإن الإيمان بالنصر من التصديق بوعد الله، والتصديق بوعد الله من الإيمان بالله.

وهكذا نرى ببساطة: أن الإيمان بالنصر وتدخل المشيئة الإلهية لتحويل مجرى الأحداث السياسية والعسكرية والإقتصادية لصالح الفئة القليلة من المؤمنين… جزء جوهري من عقيدتنا، وأساس من أسس إيماننا بالله تعالى.

ولا نستطيع نحن بحال من الأحوال أن نفصل بين عقيدتنا والسياسة.

إن فصل العقيدة والإيمان بالله عن السياسة، وتياراتها الجارفة، ومعادلاتها المعقدة جاءت في فترة غفلة من هذه الأمة، ومع كل الأسف أن الناس إستسلموا له سلوكياً ونظرياً أيضاً، وهو موضع المأساة والجرح. وكما سبق أن ذكرت: إن الجرح الذي تركه فصل الدين عن السياسة في جسم الأمة لم يكن بعمق وخطر الجرح الذي تركه فصل العقيدة عن السياسة في حياة أمتنا.

وذلك أن الفصل الثاني يمتد بطبيعته إلى عمق النظرية والمفهوم والذهنية الإسلامية، بينما إقتصر عمق المأساة الأولى على حال المسلمين في ممارستهم الإجتماعية والسياسية، بفعل الظروف السياسية القاهرة، وسلمت لهم مع ذلك عقيدتهم وذهنيّتهم، في نطاق الطبقة الواعية من هذه الأمة.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الفتح: 4.
  • [2] ـ الفتح: 18.
  • [3] ـ التوبة: 26.
  • [4] ـ إبراهيم: 27.
  • [5] ـ محمد: 7.
  • [6] ـ الأنفال: 11.
  • [7] ـ آل عمران: 151.
  • [8] ـ الحشر: 2.
  • [9] ـ الأحزاب: 19.
  • [10] ـ الإسراء: 76 ـ 77.
  • [11] ـ الأحزاب: 62.
  • [12] ـ فاطر: 43.
  • [13] ـ النور: 55.
  • [14] ـ النساء: 122.
  • [15] ـ الروم: 60.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى