ثقافة

المدخل إلى تاريخ موسى بن عمران(ع) في القرآن – حركة موسى بن عمران (ع)

حركة موسى بن عمران (ع)

ضمن هذا التصور للتأريخ لابد أن ندرس حركة موسى بن عمران (ع) في التاريخ، إن تاريخ حركة كليم الله (ع) هو في الصراع بين التوحيد والشرك.

ومن خلال هذا الصراع نستطيع أن نفهم تاريخ موسى بن عمران والمنعطفات الحساسة في حركته، والعقبات التي واجهها، والأسلوب الذي اتبعه في مواجهة هذه العقبات، والانجازات التي حققها الله تعالى على يده، والمراحل التي اجتازها وتخطاها في هذا الصراع، واختلاف طبيعة العقبات في كل مرحلة، واختلاف الأساليب في مواجهة هذه العقبات، وطول ابتلاء العبد الصالح موسى بن عمران (ع) في مواجهة التحديات والعقبات وطول ابتلاء من وقف معه من بني إسرائيل.

ومن خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم الفتن التي حدثت في مجتمع بني إسرائيل بعد أن نصرهم الله تعالى على فرعون وأنقذهم من الغرق، وكيف دب الشرك مرة ثانية من خلال حركة السامري وتضليله لبني إسرائيل ومن خلال استجابة بني إسرائيل لتضليل السامري واستضعافهم لهارون (ع)، وتمردهم عليه، وطلبهم للعكوف على عبادة الأصنام عندما مروا على قوم يعبدون الأصنام بعد أن أنقذهم الله من الغرق، وامتناعهم عن الاستجابة لدعوة موسى بن عمران (ع)، لقتال القوم الجبارين، وابتلاء الله تعالى لهم بعد ذلك بالتيه أربعين سنة.

إننا نستطيع أن نقسم حركة موسى بن عمران (ع) في القرآن إلى ثلاث مراحل:

  • أـ مرحلة ما قبل الرسالة.
  • ب ـ مرحلة ما بعد الرسالة إلى النصر.
  • ج ـ مرحلة ما بعد النصر.

وفيما يلي نحاول إن شاء الله إلقاء نظرة سريعة على هذه المراحل الثلاثة من حياة موسى بن عمران (ع) وحركته كما يصوره القرآن.

أـ مرحلة ما قبل الرسالة

أـ مرحلة ما قبل الرسالة

ابرز معالم هذه المرحلة ثلاث:

1ـ طغيان الاستكبار لدى الفئة المستكبرة.

2ـ ولادة التحدي للاستكبار من وسط الاستكبار والاستضعاف.

3ـ الإرهاصات وانتظار الإنقاذ لدى المستضعفين والتوجس من خطر مقبل لدى المستكبرين.

طغيان الاستكبار:

في هذه المرحلة يبلغ الاستكبار أقصى ما يبلغه في حياة الناس. والاستكبار يستتبع كل شر وفساد يلحق بالإنسان.

وقد بلغ استكبار فرعون في هذه المرحلة أقصى ما يمكن أن يبلغه الاستكبار. يقول تعالى:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[1].

{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[2].

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ}[3].

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[4].

ويستتبع الاستكبار أمرين:

الأول ـ طغيان على الله وحدوده وأحكامه ودينه{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[5].

الثاني ـ واستضعاف لعباد الله{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[6].

والاستخفاف هو الاستضعاف.

وإذا استخف الطاغوت قومه سلبهم القوة والعزم، والإرادة، والمقاومة، والإبداع، وحق تقرير المصير، ويجعل منهم تبعاً وذيولا له، فيطيعوه.

وذلك هو قوله تعالى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} ولولا انه استخفهم وسلبهم عقولهم، وبصائرهم، وفطرتهم، وعزمهم، لما أطاعوه.

ومن الواضح أن في طاعة الطاغوت… معصية الله، والشرك بالله والكفر.

إذن الاستكبار يخلق الاستضعاف، والاستضعاف يؤدي إلى طاعة الطاغوت، وفي طاعة الطاغوت معصية الله، والشرك، والكفر بالله.

وليس في حياة الإنسان شرّ من هذه الأمور، ولكل طاغوت ملأ كما يسميه القرآن، وهم اذرع الطاغوت، وأولياؤه الذين يحمون ملكه وسلطانه، ويخضعون الناس لإرادته، وحكمه، وسلطانه، وينتفعون من ذلّ العباد، وطغيان الجبابرة، ويبنون مجدهم، وموقعهم الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، على هذا وذاك.

والمستوى الثالث من الهرم الاجتماعي بعد (الطاغوت) و(الملأ) هو طبقة المستضعفين، وهذه الطبقة هي قاعدة الهرم الاجتماعي. وهذه الطبقة تتكون من تراكم من البؤس، والضياع، والتبعية، والشقاء، والهزيمة النفسية، وما يستتبع ذلك كله من معصية الله، والشرك، والكفر، والسقوط.

ولادة التحدي بعث أم إِنبعاث؟

ومن العجب أن الاستكبار بعد أن يبلغ طغيانه وجبروته يتولد داخل حوزة سلطانه ونفوذه من يتحداه في كبريائه وعتوه، ويستقطب المستضعفين الذين أذلهم الطاغوت، ليسلبوا الطاغوت ومن حوله من الملأ سلطانهم ونفوذهم، ويخترق حاجز الهيبة والإرهاب الذي يحيط الطاغوت به نفسه، ويهزم الطاغوت، ويكسر الملأ الذي يحيط بالطاغوت، ويحرر إرادة الناس من سلطان الطاغوت ونفوذه، وتحرير إرادة الناس يساوق عودة الناس إلى الله تعالى، فان الناس بفطرتهم يطلبون وجه الله تعالى وينقادون لحكمه وحدوده، ولكن الطاغوت يحجبهم عن الله ويحول بينهم وبين طاعته والاستقامة على هداه، فإذا تحرر الناس من نفوذ الطاغوت وسلطانه عادوا إلى الله.

وإذا تمكن الناس من أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم ويعودوا إلى الله، ويستقيموا على هداه، فان الله تعالى سوف يورثهم المال والسلطان الذي كان في قبضة الطرف الآخر، وهما أهم عناصر القوة المادية.

وهذا هو احد الميراثين اللذين ترثهما القلة الصالحة، والميراث الآخر هو الهدى والكتاب، والحكمة، والتوحيد، وهو ميراث الصالحين من الصالحين، في مقابل الميراث الأول الذي هو ميراث الصالحين من الفاسقين.

ومن عجب أن هذا التحدّي يتولّد ويتكوّن في وسط الجو الذي يحكمه الاستكبار وفي غفلة من أجهزة رصد المستكبرين وأجهزة القمع التي يستخدمها المستكبرون لمواجهة حالات التحدي. وهذا هو انفجار النور الذي يتم في وسط الظلمات.

ونتساءل الآن عن ولادة التحدي هل هو من (البعث) أم (الانبعاث)؟

إن كثيراً من التحليلات السياسية للتاريخ تشير إلى أن هذه الانفجارات والثورات تأتي نتيجة لتزايد الضغوط. والضغط عندما يتزايد يولد الانفجار.

ويعتقد ماركس في تفسيره لتحليل التاريخ على الطريقة الديالكتيكية. إن حالة الاستثمار والعدوان الطبقي يحمل معه نواة نقيضه وهو التحرر من الاستثمار والعدوان.

ونحن لا ننفي إمكان ظهور التحدي من داخل ظروف الإرهاب والاستكبار بموجب قانون العلية، وليس بموجب النظرية المادية الديالكتيكية التي يفسر بها ماركس ظاهرة الانقلابات والتحولات الكبيرة في التاريخ، ولكن أحيانا، وعلى نحو (الموجبة الجزئية)، كما يقول أهل المنطق، وليس دائما، فان حالة الاستكبار وظروف الإرهاب قد تؤدي إلى سحق الإرادة للقاعدة العريضة للهرم الاجتماعي بصورة كاملة. فلا تبقى ثمة إرادة ويقظة لهذه الطبقة العريضة، لتكون منطلقاً للمقاومة والصمود والتحرر…

وعليه فلا يمكن تفسير ولادة التحدي بـ (الانبعاث) إلاّ في حالات نادرة.

والتفسير الصحيح الذي يمكن أن نفسر به ولادة التحدي، هذا، في ظروف الإرهاب والاستكبار هو (البعث) من جانب الله تعالى وليس الانبعاث.

وعندئذ بناءً على هذه النظرية ـ تتبع البعث سنن وقوانين إلهية في اصطفاء الموضع الصالح لولادة التحدي في ظروف الاستكبار والإرهاب، ولانفجار النور في وسط الظلمة. فيكون اختيار موسى بن عمران (ع) من بني إسرائيل في ظروف استكبار فرعون، واصطفاء رسول الله (ص) من قريش من صلب العرب في ظروف استكبار القطبين العالميين القطب الفارسي والروماني من هذا الباب.

ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[7].

ويقول تعالى في اصطفاء موسى بن عمران (ع) للنهوض برسالة التحدي ودعوة الناس للعودة إلى الله تعالى من عبودية فرعون والانقياد له.

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[8].

الإرهاصات (الانتظار والتوجس):

وتقترن حالة طغيان الاستكبار عادة بحالة نفسية عميقة من الانتظار في طبقة المستضعفين الذين ينتظرون من ينقذهم، والتوجس في طبقة المستكبرين الذين يخافون التحديات والثورات التي تسلبهم سلطانهم، ونفوذهم.

وعلى نحو العموم تقترن حالة التحدي بإرهاصات قوية تبشّر وتنذر بولادة التحدي.

وهذه الإرهاصات تتكوّن نتيجة لوعي سياسي فطري لدى الجمهور بضرورة تدخل الإرادة الإلهية لإنقاذ البشرية من السقوط الحتمي، ونتيجة لتبشير الأنبياء السابقين.

وقد كان الأمر كذلك في عصر ظهور رسالة موسى بن عمران (ع). فان المستضعفين من بني إسرائيل كانوا ينتظرون ظهور منقذ في تلك الفترة ينقذهم من ظلم فرعون وإرهابه، والروايات التاريخية تؤكد هذا المعنى، كما كان الأمر كذلك قبل بعثة خاتم الأنبياء (ص). فقد كان أهل الكتاب يتوقّعون ولادة رسالية كونية جديدة الآية{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[9].

وهذه الإرهاصات تعتبر النافذة الوحيدة للأمل في حياة الأمم المستضعفة والمغلوبة على أمرها. ومن خلال هذه الآمال القائمة على وعي سياسي بالإمداد الإلهي تحافظ الأمم المستضعفة على كيانها ووجودها السياسي خلال الفترات الصعبة والعسيرة من تاريخها كما كان الأمر كذلك في تاريخ بني إسرائيل بعد هجرتهم إلى مصر ووفاة يوسف (ع) واستبداد الفراعنة بالسلطان والحكم في مصر وإذلال بني إسرائيل.

ب ـ فترة الرسالة

ب ـ فترة الرسالة

وهي فترة الصراع بين التوحيد والشرك. وقد سبق أن ذكرنا أن الصراع بين التوحيد والشرك هو العمود الفقري للتاريخ.

وكانت هذه الفترة في حياة موسى بن عمران حافلة بأقسى ألوان الصراع والمواجهة وأشدها.

حتى أذن الله تعالى بهلاك فرعون وجنده ونصر المستضعفين من قوم موسى (ع).

وأهم قوانين وسنن (الصراع) في هذه الفترة هي:

أولا: حتمية الصراع، فلا يمكن أن يمتد هذان الخطان على وجه الأرض وفي حياة الناس دون أن يتقاطعا، ودون أن يؤدي هذا التقاطع إلى المواجهة والصراع، فان حركة التوحيد تقوم في المجتمع على أنقاض الكفر والشرك، ولا يقوم للشرك والكفر أساس ولا اثر في حياة الناس إلا بزوال التوحيد. فكل منهما يطرد الآخر. وهذا التناقض بين التوحيد والشرك هو الذي يؤكد حتمية الصراع بينهما.

ثانياً: إن هذا الصراع، صراع حضاري، ليس على المال والسلطان، وليس على مساحة من الأرض وآبار من النفط ليمكن الوصول فيه إلى التفاهم والحلول الوسطية وإنما الصراع فيه على نفي كل سلطان وحكم عن حياة الإنسان وحصر الحكم والولاية لله تعالى في حياة الإنسان. ومثل هذا الصراع، صراع حضاري عميق لا ينتهي إلا بهدم كل سلطان عدا سلطان الله وتحكيم حكم الله وأمره على حياة الإنسان بشكل مطلق، وهذا الصراع يكون عادة صراعاً حضارياً شرسا، أشرس ما يكون الصراع في حياة الإنسان.

وقد نجد بعض ضراوة هذا الصراع في خطاب فرعون وتهديده للسحرة عندما انقلبوا من كفر فرعون إلى الإيمان بالله تعالى ورسله.

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[10]. وفي فتكه ببني إسرائيل يقول تعالى:

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[11].

ثالثاً: إن هذا الصراع يكلف المؤمنين الكثير في أنفسهم وأموالهم وجهودهم.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[12].

وهذه المعاناة والعذاب من متطلبات الصراع ولا يخلو منه صراع.

ورابعاً: لا تختص هذه المعاناة والعذاب بالمؤمنين، بل تشمل كلا طرفي الصراع، على نحو سواء لولا أن المؤمنين يرجون في هذه المعاناة والعذاب من رحمة الله ما لا يرجوه أعداؤهم.

{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}[13].

وهذه المعاناة تمحيص وتزكية وتطهير للمؤمنين ومحق وهلاك للكافرين.

{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[14].

وخامساً: تتطلب هذه المواجهة من القلة المؤمنة الصبر والثبات والمقاومة والصمود من جهة، والصلاة وذكر الله والانقطاع إلى الله من جهة أخرى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}[15].

{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}[16].

والصبر والصلاة هما أهم عنصرين من عناصر النصر في هذه المعركة الفاصلة.

يقول تعالى لرسوله:

{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}.

ويقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.

وسادساً: في هذه المواجهة ومن خلال هذه المعركة يتم تحرير إرادة الناس وإزالة الفتنة من على وجه الأرض. والفتنة هي كل ما يعيق حركة الإنسان إلى الله وما يحجب الإنسان عن رسالة الله ودينه وحدوده. وهذه الفتن هي دائماً لأداة التي يستخدمها المستكبرون لحجب الناس عن الله تعالى وإعاقة حركة الإنسان إلى الله. ومهمة القتال والمواجهة في فترة الصراع هي إزالة هذه الفتنة.

يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ}[17].

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}[18].

وسابعاً: العاقبة في هذه المواجهة الحاسمة والفاصلة للمؤمنين{إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[19].

{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[20].

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[21].

ج ـ مرحلة ما بعد النصر

ج ـ مرحلة ما بعد النصر

وهي المرحلة التي تشير إليها سورة النصر في القرآن الكريم فيما يتعلق بتاريخ الإسلام.

{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.

في هذه المرحلة يزحف الإسلام لاحتلال قلاع الكفر من دون أي جهد يذكر، وتتساقط هذه القلاع أمام الزحف الإسلامي قلعة بعد قلعة.

ويقبل الناس على الإسلام دون أن يواجهوا أية عقبة، وهذه المرحلة هي مرحلة زوال الفتن وسقوط العقبات. وهي شاهدة على ما ذكرنا من أن الناس بفطرتهم يميلون إلى الإسلام، وتجذبهم رسالة الله لولا العقبات والفتن التي يزرعها الطاغوت على طريق الناس إلى الله، فإذا تساقطت هذه العقبات اقبل الناس على الله إقبالا! {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}.

فيقبل الناس على الإسلام أفواجا، كما يهجم الماء المتراكم من وراء السد إذا انكسر السد.

في هذه المرحلة تنهزم الجبهة المعادية للتوحيد هزيمة كبيرة ولم تعد هذه الجبهة قادرة على المقاومة والصمود والمشاكسة في مسيرة الدعوة، كما حدثت هذه الهزيمة في صفوف المشركين والكفار بعد فتح مكة والطائف، وكما حدثت هذه الهزيمة المنكرة في جيش فرعون وملأه بعدما اهلك الله فرعون وجنده في البحر.

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ… * وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}[22]. إلا أن الجبهة المنهزمة تبادر بحركة سريعة إلى تغيير موقعها في تخريب الدعوة ومهاجمتها من المواجهة المكشوفة من خارج الدعوة إلى المواجهة الخفية من داخل الدعوة، وفي الحقيقة تنقل هذه الجبهة من أعداء الدعوة مهمتها التخريبية من خارج الدعوة إلى داخل الدعوة بعد أن يتبين لهم أن محاربة الدعوة من الخارج أصبحت أمراً غير ممكن على الإطلاق.

ومن عجب أن الذين يقودون في مرحلة ما بعد النصر حركة الانشقاق والنفاق والتخريب من داخل الدعوة هم ـ في الغالب ـ الذين كانوا يقودون المعركة من الخارج… فلما دخلوا الدعوة مرغمين نقلوا معهم هذه المحاربة من الخارج إلى الداخل ورحم الله عمار بن ياسر كان يقول عن راية عمرو بن العاص في معركة صفين لمن تسرب إلى نفسه الشك بعد أن سمعهم يرفعون الاذان ويقرأون القرآن ويقيمون الصلاة كما يرفع الناس في جيش علي الاذان ويقرءون القرآن ويقيمون الصلاة… قال له عمار بن ياسر&:

هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلين (المقابلة لي) فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله (ص) ثلاث مرات وهذه الرابعة، ما هي بخير هن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن.

ثم قال له:

أشهدت بدراً واُحداً وحنينا أو شهدها لك أب فيخبرك عنها قال: لا.

قال فان مراكز علي مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم احد ويوم حنين، وان هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب[23].

والنوايا العدوانية التي كانت تقع في الأمس خلف الحرب الشرسة التي كان يعلنها هؤلاء ضد الدعوة هي نفسها التي تقع اليوم خلف حركة الانشقاق والإفساد والتخريب الداخلي التي يقود هؤلاء اليوم ضد الدعوة من الداخل.

إن العناد واللجاج والتمرد والطغيان والهوى التي كانت تقع أمس خلف كل المحاولات التخريبية خارج الدعوة… تتحول اليوم إلى داخل جسم الدعوة لتؤدي دوراً سلبياً تخريبياً واسعاً في جسم الدعوة من الداخل.

ولكل من هاتين المواجهتين، من الخارج والداخل اثر تخريبي واسع في الدعوة إلا أن الأثر التخريبي للمواجهة الثانية أوسع بكثير من الأثر التخريبي للمواجهة الأولى.

ذلك أنّ المواجهة الأولى تزيد الأمة في طريق تحمل رسالة الدعوة إلى الله صلابة ومتانة وقوة وتزيدهم استحكاماً وتماسكاً، أما المواجهة الثانية فهي تشقق الأمة الداعية إلى الله، وتذرهم فرقاً وطوائف متناحرة، وتدخل التحريف إلى صلب الدعوة وتضعف الدعوة وحملتها من الداخل بينما كانت المواجهة الأولى من عوامل قوة الأمة المسلمة التي تحمل رسالة الدعوة إلى الله تعالى.

وهذه هي ظاهرة النفاق.

وبهذا التحليل يعتبر النفاق الوجه الآخر للجبهة المعادية للإسلام.

تختفي من جبهة الخارج وتبرز من الداخل وتنقل أدوارها من التخريب الخارجي إلى التخريب من الداخل وهو اشد واخطر.

واغرب ما في هذا الأمر أن هذه الفئة التي كان تحارب الدعوة في الأمس القريب، تتحول اليوم إلى قمة الهرم الاجتماعي من الدعوة، كما حدث ذلك في تاريخ الإسلام عندما تمت لآل أبي سفيان الخلافة الإسلامية، وجلسوا في موضع رسول الله (ص) في إدارة الدعوة والدولة والثورة.

وقد واجه موسى بن عمران وأخوه هارون‘ بعد هلاك فرعون وجنده والهزيمة المنكرة التي لحقتهم… وبعد النصر الذي كتبه الله تعالى لبني إسرائيل على أعدائهم واجه موسى بن عمران وأخوه هارون‘ هذه الحركة التخريبية الواسعة من الداخل بشكل فاعل وقوي يندر مثله في حركة التوحيد في تاريخ الأنبياء^.

ويحدثنا القرآن بتفصيل عن نماذج من الانحراف والتخريب الذي حدث في بني إسرائيل في حياة موسى بن عمران (ع).

من ذلك قصة السامري وفتنته في بني إسرائيل يقول تعالى:

{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}[24].

ومن هذه الفتن التي يشير إليها القرآن في تاريخ بني إسرائيل بعد أن نصرهم الله على فرعون في حياة موسى (ع) فتنة عبادة الأصنام.

يقول تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[25].

ومن هذه الفتن طلب بني إسرائيل من موسى (ع) أن يروا الله جهرة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[26].

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[27].

والحمد لله رب العالمين[28].


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ القصص: 38.
  • [2] ـ الشعراء: 29.
  • [3] ـ الأعراف: 123.
  • [4] ـ الزخرف: 51.
  • [5] ـ طه: 42 ـ 43.
  • [6] ـ الزخرف: 54.
  • [7] ـ الجمعة: 2.
  • [8] ـ طه: 11ـ 15.
  • [9] ـ الصف: 6.
  • [10] ـ الأعراف: 123 ـ 124.
  • [11] ـ الأعراف: 127.
  • [12] ـ البقرة: 155ـ 156.
  • [13] ـ النساء: 104.
  • [14] ـ آل عمران: 141.
  • [15] ـ الأنفال: 45.
  • [16] ـ البقرة: 45.
  • [17] ـ البقرة: 193.
  • [18] ـ الأنفال: 39.
  • [19] ـ الأعراف: 128.
  • [20] ـ هود: 49
  • [21] ـ القصص: 83.
  • [22] ـ يونس: 90 ـ 93.
  • [23] ـ الصفحة نصر بن مزاحم: 321.
  • [24] ـ طه: 85 ـ 91.
  • [25] ـ الأعراف: 138 ـ 140.
  • [26] ـ البقرة: 55.
  • [27] ـ النساء: 153.
  • [28] ـ كتب المؤلف هذا البحث مدخلا لدراسة حياة موسى بن عمران× مقدمة لكتاب الشيخ نوري حاتم حفظه الله.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى