ثقافة

المدخل إلى تاريخ موسى بن عمران(ع) في القرآن – التاريخ هو الصراع

وما عدا ذلك أحداث على هامش التاريخ، وليس هو التاريخ وما يجري على هامش التاريخ من الأحداث غير ما يتقوم به العمود الفقري للتاريخ.

وليس التاريح كل صراع في الكون مهما اتسعت رقعته ومهما استهلك من الجهود والأموال والدماء ـ وإنّما قوام التاريخ هو الصراع بين (التوحيد والشرك) وبين (الحق والباطل)، وان ضاقت مساحته، واختفى عن الرأي العام، ولم يستقطب اهتمام الناس على وجه الأرض.

وليس هذا الصراع الذي يقوّم العمود الفقري للتاريخ هو الصراع القائم بين الطبقة المستثمرة (بالكسر) والمستثمرة (بالفتح) كما كان يتصور كارل ماركس في نظريته المعروفة القائمة على أساس المادية الديالكتيكية.

وقد يتطابق هذا الصراع وذلك في مصداق واحد ويتفق ذلك كثيراً، ولكن من الخطأ أن نقول إن التاريخ هو الصراع بين الطبقة الكادحة والطبقة المستغلة (بالكسر)، وابلغ من ذلك في الخطأ وأفدح أن نقول إن حركة الأنبياء هي في خط هذا التناقض بين هاتين الطبقتين، وفي الدفاع عن حقوق المستضعفين في مواجهة الظالمين.

ولا شك أن من واجب الأنبياء وتكليفهم الدفاع عن المحرومين والمستضعفين ولا شك أن الأنبياء دافعوا ووقفوا إلى جنب المستضعفين وضد المستغلين والظالمين.

ولكن هذه المعركة ليست هي المعركة الأساسية والمحورية في حركة الأنبياء، وليست هي محور صراع معركة الأنبياء، وإنما محور هذه الحركة والصراع هو الصراع بين التوحيد والشرك.

وقد كان أنصار التوحيد في حركة الأنبياء في الغالب من الطبقة المستضعفة والمحرومة، وكان أئمة الكفر والمدافعون عنهم في الغالب من الطبقة المستغلة والمستثمرة (بالكسر).

وهذه حقيقة لا نشك فيها، ولا نشكك، ولكن التسليم بهذه الحقيقة لا يعني تغيير محور الصراع واستبداله بمحور آخر. والذي يقرأ القرآن بإمعان، ويستعرض حركة الأنبياء، ومسار التاريخ في كتاب الله ويجرّد نفسه وفكره عن كل المسبقات الذهنية لا يشك للحظة واحدة أن التاريخ هو الصراع، وإنّ محور هذا الصراع هو المواجهة بين التوحيد والشرك.

وبناءاً على ذلك فالصراع التاريخي بين الروم وفارس قبل الإسلام والذي كان يحتل مساحة واسعة من الأرض والجهود والأموال والدماء ليس من التاريخ، ولكن الصراع الذي كان يجري في (مكة) في رقعة نائية من الأرض غير ذات زرع بين رسول الله (ص) وأبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب من مردة قريش في القرن السادس من الميلاد كان من صلب التاريخ. رغم أن هذا الصراع كان يجري في غياب تام من الرأي العام العالمي، ولم يكن يومئذ يلفت نظر احد، ولا يستقطب اهتمام احد من الحكام ورؤساء الأنظمة في العالم المستحضر.

ذلك أن التاريخ هو حركة الإنسان إلى الله{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[1].

وكل ما يسهم في حركة الإنسان إلى الله، ويقدمه إلى الله مرحلة أو خطوة يدخل في حركة التاريخ، وما لا يدخل في هذه الحركة من جهد وعمل وصراع من (استهلاك التاريخ) وليس من حركة التاريخ وإنتاجه على هامش التاريخ، وليس من صلبه.

وبناء على هذه النظرية فان الحرب العالمية الأولى والثانية ليس من صلب التاريخ، ولكن المقاومة البطولية التي كان ينهض بها الشعب الفلسطيني والشعب الجزائري والشعب الليبي في مقابل العدوان الصهيوني والعدوان الفرنسي والعدوان الايطالي كان من صلب التاريخ.

وهذا هو (التاريخ) في القرآن، كما افهم والله تعالى اعلم بأحكامه وسنته وحدوده.

ولا يتيسر لي شرح هذه النظرية في مقام (التصور) ولا إثباتها في مقام (التصديق) بهذه العجالة، في هذا البحث.

ويكفيني أن أثير هذه المسألة، لعل الله تعالى أن يوفقني لشرحها وإثباتها بصورة علمية في موضع مناسب.

والذي يتعلق بهذا التقديم أن حركة الأنبياء وصراعهم وجدالهم ومواجهتهم لأقوامهم من المشركين يعتبر في صلب التاريخ.

وإذا أردنا أن نفهم التاريخ وسننه وقوانينه وأحكامه التي يرسمها الله تعالى لنا في كتابه فعلينا أن نقرأ تاريخ الأنبياء وحركتهم في ساحة المواجهة لأقوامهم.

إن حركة الأنبياء ترسم لنا المعنى الحقيقي لـ (الصراع) و(التاريخ) وترسم سنن الصراع في جبهة التوحيد و في جبهة الشرك، وما يتطلبه الصراع من الصبر والتضحية والعطاء في كل من الجبهتين وما يتخلل الصراع من ألوان المحنة والعذاب وما يتعقب الصراع من نصر القلة المؤمنة وسقوط جبهة الكفر والشرك، وما يرافق الصراع من تساقط وتخاذل في صفوف أنصار الحق، ومن تبادل المواقع في كل من الجبهتين، وما يتخلل المواجهة من تأييد الله تعالى ودعمه وتسديده للقلة المؤمنة في المعركة، وما يأمر به الله تعالى هذه القلة المؤمنة من الصبر والصلاة والمقاومة والذكر في هذه المعركة الحضارية الشرسة بين التوحيد والشرك، وما يتخلل هذه المعركة الضارية من هزائم وانتكاسات في صفوف المؤمنين بين حين وآخر، وما يعقب النصر في صف المؤمنين من أعراض وأمراض بعد أن ينتقل دعاة التوحيد إلى ساحل الأمان والسلام.

ومن عجب أن الذين يتساقطون من دعاة التوحيد بعد عبور المحنة إلى شاطئ النصر أكثر ممن يتساقط منهم في عباب المحنة ومخاض الابتلاءات الصعبة.

فان من دعاة التوحيد من يجتاز أمواج المحنة بسلام، فإذا بلغ ساحل النجاة صرعه الشيطان وسقط صريعاً على ساحل النجاة.

والذين يسقطون على الساحل لا يقلون عن الذين يهلكون في عباب المحن والابتلاء، إذا كانوا لا يزيدون، وهذه النقطة من غرائب مسائل الصراع والمواجهة.

فان الذين سقطوا من بني إسرائيل في محنة مواجهة (فرعون) وجنده قليلون، ولكن الذين سقطوا منهم بعد أن اجتازوا ووصلوا إلى ساحل الأمان، وسلموا من إرهاب فرعون كثيرون.

وقد قال لهم أميرالمؤمنين (ع) عندما عاب اليهود على المسلمين اختلافهم بعد رسول الله (ص): لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى عبدتم العجل. ولا ريب أن محنة بني إسرائيل بعد النصر من أعظم المحن في تاريخ التوحيد.

والقرآن يحدثنا عن هذه القضايا وعن غيرها من شؤون الصراع والمعركة الضارية بين التوحيد والشرك، ويرى، أن هذا هو (التاريخ).

وان التاريخ هو مسار حركة الإنسان ـ نوع الإنسان إلى الله ـ {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} وهذه الحركة تتم في ظروف المواجهة والصراع بين التوحيد والشرك ولا يتم هذا الصراع وهذه المواجهة إلاّ في ظروف محنة صعبة، ومن عجب أن هذه المحنة لا تخص المؤمنين فقط، وإنما تعم المؤمنين وأعدائهم من الجبهة المقابلة.

{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}[2].

إن من يقرأ القرآن، ويقرأ حركة التاريخ وسننه في القرآن يفهم التاريخ فهماً يختلف عما يفهمه الناس.

وقصة موسى بن عمران (ع) من أهم أحداث التاريخ في القرآن، ويبلغ اهتمام القرآن بأحداث حياة هذا العبد الصالح حداً عجيباً، ولا اعرف قصة في القرآن أخذت من اهتمام القرآن ما أخذته هذه القصة المثيرة، ويستعرض القرآن فصول هذه القصة غالباً فصلا فصلا بصورة دقيقة، ومن خلال استعراض فصول هذه القصة ومقاطعها يطرح القرآن جملة من القوانين والسنن الإلهية.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الانشقاق: 6.
  • [2] ـ النساء: 104.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى