ثقافة

تخطّي حدود الله وجزاء من يتخطّى حدود الله

{وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء: 14

نتحدّث عن هذه الآية الكريمة ـ إن شاء الله تعالى ـ ضمن ثلاث نقاط:

الأُولى: الحدود الإلهية.

الثانية: تخطّي الحدود الإلهية.

الثالثة: جزاء من يتخطّى حدود الله.

وفيما يلي تفصيل هذه النقاط الثلاثة:

النقطة الأُولى: الحدود الإلهية

حدّد الله تعالى المساحة التي يتصرف فيها الإنسان في الدنيا من المطاعم، والمشارب، والمناكح، والتجارة، والتصرف في الأموال والثروات الطبيعية، والإدارة، والسياسة، والعلاقات، والمعاملات.

فبيّن الله تعالى الطعام الحلال من الحرام. وبيّن للناس ما يحلّ شربه وما لا يحل، وبيّن تعالى ما يحلّ التصرف فيه من الأموال وما لا يحلّ، وما يجوز من المناكح وما لا يجوز.

وهذه هي مساحه الرخصة والحلال في حياة الناس والالتزام بحدود الله تعالى في هذه الساحة من أفضل الأعمال، وهو الورع والتقوى.

كما إن تخطي حدود الله والخروج عن هذه المساحة من أقبح الأعمال وهو الذنب والمعصية.

يقول تعالى عن مساحة الحلال والرخصة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}[1].

{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا}[2].

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[3].

{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[4].

ويقول تعالى عن حدود الحرام:

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ}[5].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[6].

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ}[7].

وهذه هي حدود الله.

عن أبي عبدالله الصادق “ع”: <ما من شيء إلاّ وله حدّ كحدود دارى هذه، فما كان في الطريق فهو من الطريق وما كان في الدار فهو من الدار>[8].

ثلاث نقاط في منطقة الحلال وحدودها:

1ـ منطقة الرخصة والحلال في حياة الإنسان تستوعب كل حركة الإنسان، ولا تضيق بحركته. وقد جعل الله تعالى في الرزق الحلال سعة لمن يطلب الرزق، وجعل في الموقع الحلال سمعه لمن يطلب الموقع، يقول أميرالمؤمنين “ع”: <فإِن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق>[9]

وهذه مسألة هامة في معرفة الحلال والحرام في دين الله. فأِن في الحلال سعة عن الحرام، ولم يحوج الله تعالى عباده إلى الحرام، إذا اخذوا بالحلال.

2ـ ليس في حدود الله سبحانه وتعالى حرج ولا ضيق على عباده. يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[10].

{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ}[11].

3ـ إنَّ المساحة المحلّلة والمساحة المحرمّة في حياة الإنسان هما المساحة الصالحة والمساحة غير الصالحة للإنسان في نظام التكوين، قد يدركهما الإنسان وقد لا يدركهما، والنظام التشريعي مجموعة من الأحكام التشريعية تتطابق مع النظام التكويني الذي خلقه الله في هذا الكون، والذي شرَّع هذا الدين هو الذي خلق هذا الكون.

ونضرب على ذلك مثالا يوضح العلاقة بين النظام التكويني والنظام التشريعي:

يقوم النظام الاجتماعي على أساس التفاهم والتسالم والتحابب، فإذا انتظمت العلاقات الاجتماعية فيما بين الناس على أساس التفاهم والمسالمة والتحابب سلمت الحياة الاجتماعية، وإذا دبَّ في حياة الناس سوء الظن والغيبة والحسد والحقد والضغينة، فسدت العلاقات الاجتماعية، واختلّت حياة الناس…

وهذا هو البعد التكويني للحياة الاجتماعية.

وفي البعد التشريعي يحرّم الله تعالى على الناس سوء الظن والغيبة والحسد والحقد والضغينة… وبين هذا التشريع وذلك التكوين علاقة وثيقة وتطابق. ولا يصلح هذا النظام التكويني إلاّ بذلك النظام التشريعي.

النقطة الثانية: تخطّي الحدود الإلهية

من يتجاوز حداً من حدود الله فقد عصى الله تعالى. ومعصية الله ومشاقة الله من أقبح ما يفعله الإنسان، وليس فيما يفعله الإنسان شيء أفضل من أن يرضى الإنسان الله، ولا أقبح من أن يسخط الإنسان الله.

ويقبح الذنب من العبد، وأقبح ما في الذنوب أَنّها معصية الله ومشاقته ومخالفته، وإعراض عن الله وابتعاد عنه.

إن ارتكاب المعصية مشاكسة وخصومة لله رب العالمين من ناحية الإنسان وقد خلق الله تعالى الإنسان من نطفة من مني يمنى:

{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}[12].

وطغيان على الله:

{كَلاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[13].

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[14].

وقطيعة لله، وعما أمر الله به، ونقض لعهد الله:

{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[15].

{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ, وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ…}[16].

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}[17].

ومحادّة لله:

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا}[18].

ومشاقة لله:

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[19].

النسيان لله:

{نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ}[20].

وما من شيء في الذنوب أقبح وأشد من أن يسخط الإنسان ربه ويخاصمه، ويطغى عليه، ويقاطعه، ويحاربه ويحادده ويشاققه، وينساه.

وللمذنبين يوم القيامة عقوبتان: عذاب الله، ومفارقة الله، والذي يحادد الله ويقاطع الله في الدنيا، يعاقبه الله يوم القيامة بفراقه وعذابه، وفراقه آلم من عذابه. عند من تذوّق طعم التوحيد.

يقول إمام الموحّدين علي بن أبي طالب “ع”: <وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف اصبر على فراقك>[21].

والذنوب تستبطن تحّدياً لله، وإعراضاً عن الله، واستخفافاً بحكم الله بدرجة من الدرجات، وعى العبد ذلك، أم لم يَع.

وقد يتكرّر الذنب من العبد، وتتأكّد في نفسه حالة الإعراض عن الله والأِستخفاف بأمر الله، فيغضب الله عليه، ولا يغفر له ذنبه، نعوذ بالله من غضبه وسخطه.

روي عن الإمام الصادق “ع”: <من هَمَّ بسيئة فلا يعملها، فانه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه، فيقول: لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً>[22].

وأكثر ما يبتلى الإنسان بالذنوب خفافها ومحقّراتها. فقد يمارسها العبد مستخفاً بها، وهو من الاستخفاف بحكم الله تعالى، فيكون العبد عندئذ مُتعَرّضاً لغضب الله وسخطه.

عن زيد الشحام، عن أبي عبدالله الصادق “ع” قال: <اتقوا المحقّرات من الذنوب فإنها لا تغفر. قلت: وما المحقّرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب، فيقول: طوبى لي، لو لم يكن لي غير ذلك>[23].

النقطة الثالثة: جزاء من يتجاوز حدود الله

السيئة تعود إلى صاحبها في الدنيا والآخرة فتكون هي جزاؤه. ونحن قد نفهم العلاقة بين العمل والجزاء في الدنيا والآخرة، وقد لا نفهم ذلك… ولكن تبقى هذه العلاقة التكوينية بين العمل والجزاء ثابتة، فإذا شرب الإنسان السمَّ مات، وهذا جزاؤه في الدنيا; وإذا أشرك الإنسان إِنقطع عن الله، وهو أعظم ما يمارسه الإنسان من الظلم على نفسه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[24].

والمجتمع الذي يمارس الغيبة وسوء الظن، والوشاية والكيد والمكر والبغضاء،… يتفتت ويضعف، وهذا جزاؤه في الدنيا، وعلاقة هذا الجزاء بالعمل علاقة تكوينية وهذه العلاقة مما نفهمه نحن.

وجزاء الآخرة لا يختلف عن جزاء الدنيا، إِلاّ أننا لا نفهم طبيعة هذه العلاقة، والقرآن الكريم يسمي العمل الذي يصدر من صاحبه (كسباً)، وهو تعبير دقيق عن علاقة العمل بصاحبه من جانب، وعن علاقة العمل بالجزاء من جانب آخر، فإن أيَّ عمل يصدر عن صاحبه يكسبه صاحبه، إِن كان خيراً أو شراً، وصدور العمل هو كسب العمل يقول تعالى:

{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}[25].

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[26].

{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[27].

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[28].

فالعامل يكسب العمل لنفسه، ويحصّله لها، كما يكسب الإنسان الأخلاق الفاضلة من الفضلاء ورذائل الأخلاق من أصحابها، وكما يكسب الإنسان العلم، كذلك يكسب الإنسان عمله، إن كان عمله خيراً أو كان عمله شراً.

وكل عمل الإنسان مردود إليه، إن كان عمله إحساناً أو إسائة. يقول تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[29]. واللام في كلمة (لأنفسكم) وكلمة (فلها) للاختصاص، كما نقول هذا المال لخالد، وليس للمنفعة في مقابل الضرر، بدليل أن المقابلة بينهما تقتضي استعمال كلمة (على) في مقام الضرر، وقد استعمل القرآن اللام في المقامين، في مقام النفع والضرر أيضاً، فقال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.

إذن العقوبة من سنخ الذنب، وبين العقوبة والذنب علاقة تكوينية. وهذه العلاقة لا نفهمها نحن كثيراً، ولكن الوحي يكشف عنها.

فللجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وللعذاب المهين، علاقة تكوينية بعمل الإنسان، وهي عمل الإنسان يعود إلى الإنسان في الآخرة بهذه الصورة.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ البقرة: 168.
  • [2] ـ المائدة: 88.
  • [3] ـ المائدة:5.
  • [4] ـ النساء: 3.
  • [5] ـ البقرة: 173.
  • [6] ـ المائدة: 90.
  • [7] ـ النساء: 23.
  • [8] ـ بحار الأنوار 2: 170 ح7.
  • [9] ـ نهج البلاغة: خطبة 15.
  • [10] ـ الحج: 78.
  • [11] ـ المائدة: 6.
  • [12] ـ يس: 77.
  • [13] ـ العلق: 6 ـ 7.
  • [14] ـ المؤمنون: 75.
  • [15] ـ الرعد: 25.
  • [16] ـ المائدة: 33.
  • [17] ـ البقرة: 279.
  • [18] ـ التوبة: 63.
  • [19] ـ الحجر:4.
  • [20] ـ التوبة: 67.
  • [21] ـ من الدعاء الذي علمه× لكميل بن زياد&.
  • [22] ـ الكافي 2: 143 ح6.
  • [23] ـ الكافي 2: 287 ح1.
  • [24] ـ لقمان: 13.
  • [25] ـ النساء: 111.
  • [26] ـ المدثر: 38.
  • [27] ـ الطور: 21.
  • [28] ـ الروم: 41.
  • [29] ـ الإسراء: 7.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى