ثقافة

الزوجية العامة في الكون

ينطلق الاسلام في معالجة العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عن القاعدة التكوينية، التي تقوم عليها هذه القضية.

يستعرض القضية في اطارها التكويني العام ليعالجها في ضوء من هذا الفهم الكوني، على طريقته الخاصة.

ولذلك يستعرض القرآن الكريم قبل كل شيء، مبدأ الزوجية العامة في الكون بصيغة شاملة تنبسط على اطراف الكون جميعاً.

{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}[1].

والزوجية التي يعنيها القرآن الكريم شيء أوسع من الزوجية والاخصاب واللقاح الموجود في عالم الحيوان والنبات، تشمل مختلف اوجه التفاعل الطبيعي الذي يحصل بين اجزاء الطبيعة في أطارها التكويني العام وتتسع لاكثر من عالم الحيوان والنبات.

فالذرة مزاج (تركيب) من الكهارب السالبة والبروتونات الموجبة، يتفاعل بعضها مع البعض في نظام زوجي رائع.

والتركيبات الكيمياوية قائمة على نظام (زوجي) خاص بين العناصر يضم بعضها الى بعض، ويجعل منها تركيباً ماديا جديدا حسب قوانين كيمياوية ثابتة.

والتفاعل الفيزياوي بين المادة والطاقة شكل آخر من نظام الزوجية العام: يلائم بين المادة والطاقة ليستثمره الانسان في حقول الفيزياء والميكانيك.

ويتسع نطاق (الزوجية العامة) لاكثر من حدود الذرة والكيمياء والفيزياء ليشمل الاجرام الكونية والمجرات والمجاميع الكوكبيةفي الفضاء.

فالزوجية العامة، اذن، ظاهرة كونية تنبسط على أطراف الكون وتشمل مختلف أوجه الطبيعة، تبتدأ من المحتوى الداخلي للذرة اللامتناهية في الصغر، لتنبسط على اطراف الفضاء اللا متناهي في البعد، وذلك قوله تعالى:

{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ومن دراسة هذه الظاهرة الكونية نستنتج جهات ثلاث، نود ان نقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة.

  • الجانب التكويني.
  • الجانب الوظيفي.
  • الجانب القيمي.

الجانب التكويني:

يعود الاستقرار والثبات الذي تتصف به الطبيعة في جريها وتطورها الى نظام الزوجية العامة في الكون.

ولولا أن اجزاء هذا الكون تتماسك فيما بينها، بموجب نظام الزوجيةالعامة، لاختلّت الطبيعة، واضطربت، وانقلبت، عما عليه من استقرار وثبات الى فوضى واضطراب.

لولا ان الزوجية العامة تلائم بين الالكترونات والبروتونات في الذرّة، وتحفظهما، ضمن نظام متقن ثابت، لانقلب الكون على سعتة وامتداد جوانبه الى ركام من الطاقه. ولولا ان العناصر المادية تتفاعل مع الطاقة، وفيما بينها، بنظام خاص، بتأثير الزوجية العامة لاختل كل شيء في هذا الكون، و على وجه الارض.

فلا تبقى حياة، ولا يتم عمل، ولا يتبخر ماء، ولا يهطل مطر، ولا تجري عين، ولا ينبت نبات على وجه الارض، ولا يتم تفاعل بين الماء والحرارة، ولايكون اثر للطبقات الباردة من الجو على السحاب، ولا يتأثر نبات بالتربة، ولا يتم تركيب بين الاوكسجين والهدروجين.

ولولا ان الانسان يواصل بالزواج بقاءه على وجه الارض في اعقابه الذين يخلفونه من بعده، ليتوارثوا قيمه، وحضارته، وليكونوا استمراراً لوجوده على ظهر هذا الكوكب… لا نقطع هذا الكائن من على وجه الارض من قديم، وصدق الله تعالى عندما يقول:

{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}[2] وكذلك قدر الله تعالى ان تكون (الزوجية) مبعث الاستقرار والثبات في الكون، ومنطلق التكوين والخلق.

الجانب الوظيفي:

وطبيعة نظام الزوجية تقتضي وجود طرفين:

طرف يقوم بالجذب، وآخر يقوم بالانجذاب.

طرف يقوم بدور الفعل والتأثير، وطرف آخر يقوم بدور الانفعال:

ولا يمكن ان تتحقق الزوجية من غير وجود هذين الطرفين، ومن دون هذا الاختلاف في الوظيفة.

واذا اتّحد الزوجان من حيث الوظيفة ينقلب التجاذب والتفاعل الى التدافع والتضارب، وهو نتيجة التقاء فردين من جنس واحد.

فاذا التقى طرف جاذب بطرف جاذب دفع كل واحد من الطرفين الطرف الآخر، بدل ان يتفاعل معه ويلتئم به.

واذا تلاقى الطرف الفاعل بالطرف الفاعل والطرف القوي بالطرف القوي فلاينتج من العملية غير التدافع بين الطرفين.

ولا يمكن ان تتم عملية التفاعل في شيء من غير ان يقوم طرف منهما بدور الفعل، ويقوم الطرف الآخر بدور الانفعال. يؤثر احدهما في الآخر، ويقبل الطرف الآخر التأثير.

ولكلّ من الطرفين (الفاعل) و(المنفعل) خصائصه التي لا بد له منها ليتمكن من اداء دوره في هذا النظام الكوني الشامل، ولو اتّحدت خصائص وسمات الزوجين لم يتمكنا من أداء هذا الدور الذي جعله الله نظاماً للكون، كله، وليس للحيوان والانسان فقط.

الجانب القيمي:

تحدثنا عن دور كل من الطرفين الوظيفي من نظام الزوجية، وقد رأينا ان وظيفة كل من الطرفين تختلف في العلاقة الزوجية القائمة بينهما وتبعا لذلك تختلف سماتهما التكوينية وشكلهما، الا ان هذا الاختلاف الوظيفي لا يعني وجود تفاضل واختلاف قيمي بين الطرفين في عالم الجماد والنبات او بين الجنسين في عالم الحيوان والانسان.

فكل من الطرفين لا بد منه في عملية التفاعل الزوجي في الكون ولايمكن ان تتم هذه العملية من غير ان يتوفر الطرفان على كافة المؤهلات الطبيعية لذلك.

وهذه هي ثالثة الجهات التي اردنا ان نقف عند كل واحد منها، وقفة قصيرة، لننطلق منها بعد ذلك، على ضوء من القرآن الكريم، الى دراسة النظرية القرآنية في العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة.

ومما تقدم من حديث، وبعد الالمام بالجهات الثلاث التي انتهينا اليها انطلاقاً من فهم الزوجية في اطارها الكوني العام، نستطيع ان ننطلق الى دراسة النظرية القرآنية في معالجة مشكلات الحياة االزوجية، وتسوية مشاكل العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة في عالم الانسان.

وسيكون منطلقنا للحديث هو عرض النظرية القرآنية في المرأة، والعلاج القرآني لمسألة العلاقة الجنسية في حدود الجوانب الثلاثة المتقدمة، ليتيسر لنا ان نجاري النظرية بصورة منهجية، في حدود ما انتهينا اليه في هذا الحديث من القاعدة التكوينية لمسألة الزوجية.

وبمقتضى هذه المنهجية التي رسمناها لهذا الحديث سوف نستعرض النظرية القرآنية في هذه المسألة في الجوانب الثلاثة الآتية:

  • الجانب التكويني من العلاقة الزوجية.
  • الجانب الوظيفي من العلاقة الزوجية.
  • الجانب القيمي من العلاقة الزوجية.

أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الذاريات: 49.
  • [2] ـ الشورى: 11.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى