ثقافة

حدود الله

{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.

فيما يلي أذكر طائفة من الحقائق التي يقررها القرآن لتوضيح معنى حدود الله من خلال كتاب الله، ثم ندخل بعد ذلك في تفاصيل البحث عن خصائص الالتزام بحدود الله في الدنيا والآخرة، ومباحث أخرى تتعلق بحدود الله.

وإليك فيما يلي هذه النقاط:

1 ـ يقرر القرآن الكريم أن الكون كله لله، ليس له فيه شريك، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يُسألون. يقول تعالى:

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا}[1].

{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}[2].

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[3].

والرب في هذه الآيات يعني المالك. يقول تعالى:

{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[4].

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[5].

2 ـ والله تعالى خلق الأرض للإنسان. يقول تعالى:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}[6]).

3 ـ وسخر الأرض والسماء للإنسان. يقول تعالى:

{لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[7].

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ}[8].

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}[9].

4 ـ وأباح الله تعالى لنا التصرف في ملكه. يقول تعالى:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}[10].

{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[11].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً}[12].

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[13].

{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[14].

5 ـ ولم يطلق الله تعالى أيدي عباده في التصرف في ملكه، وإنما حددهم بحدود عرفها لهم، وأباح لهم التصرف ضمن هذه الحدود، وحرّم عليهم التصرف في ملكه خارجها.

يقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[15].

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ}[16].

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ…}[17].

{وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}[18].

{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}[19].

6 ـ ونهانا الله تعالى عن تجاوز حدوده. يقول تعالى:

{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[20].

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[21].

{وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}[22].

7 ـ والالتزام بحدود الله تعالى والعمل والتحرك والتصرف داخل هذه الحدود، وعدم تجاوز هذه الحدود هي (التقوى)، وقد سئل الإمام الصادق “ع” عن التقوى، فقال: <ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك>[23].

8 ـ والعصيان هو تجاوز الحدود الإلهية. يقول تعالى:

{وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}[24].

العصيان في مقابل التقوى، فإن التقوى هي الالتزام بالحدود الإلهية، والعصيان هو الخروج من حدود الله، وهو الذنب والفجور والمشاقة.

9 ـ إن رسالة الدين في حياة الإنسان هي تحديد منطقة الرخصة التي يجوز للإنسان أن يتحرك فيها.

وبهذه الحدود يعرف الإنسان ما يحوز له وما لا يجوز في دين الله، وهي حدود دين الله تعالى.

روى البرقي، عن أبي عبد الله الصادق “ع”: <إن للدين حدّاً كحدود بيتي هذا، وأومأ بيده إلى جدار فيه>[25].

وعن الصادق “ع”: <ما من شيء إلاّ وله حد كحدود داري هذه، فما كان في الطريق فهو من الطريق، وما كان في الدار فهو من الدار>[26].

وعن أبي عبد الله “ع”: <ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حد كحدود داري هذه فما كان في الطريق فهو من الطريق، وما كان في الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة>[27].

وعن أبي لبيد، عن أبي جعفر “ع”، أنه أتاه رجل بمكة فقال له: <يا محمد بن علي، أنت الذي تزعم أنه ليس شيء إلاّ وله حد؟

فقال أبو جعفر: نعم، أنا أقول إنه ليس شيء مما خلق الله صغيراً ولا كبيراً إلاّ وقد جعل الله له حداً، إذا جاوز به ذلك الحد فقد تعدى حد الله فيه.

قال: فما حد مائدتك هذه؟ قال: تذكر اسم الله حين توضع، وتحمد الله حين ترفع، وتقم ما تحتها>[28].

إذن مهمة الدين تنظيم حياة الإنسان ضمن الحدود والضوابط التي تقررها الشريعة.

وهذه الحدود هي الحرمات التي حظرها الله تعالى على الناس.

فأباح الله تعالى لهم ما يقع ضمن هذه الحدود، ورخص لهم فيه، وحرّم عليهم أن يرتكبوا ما حرّمه الله تعالى عليهم، وأن يتجاوزوا ويتعدوا حدود ما أباح الله تعالى لهم إلى ما حرّمه عليهم.

10 ـ الحدود والفرائض. وإلى جانب الحدود شرع الله تعالى على عباده فرائض وواجبات، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}[29].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[30].

{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[31].

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}[32].

{انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}[33].

والشريعة هي مجموعة الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده، والحدود التي حرمها الله عليهم، وحدد بها ما أحلّه على الناس وما حرمه عليهم.

فأوجب الله تعالى مثلاً على الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والتعليم والإرشاد الواجبين.

وهما مما فرضه الله تعالى على الناس من الكلام، ثم أباح لهم أن يتكلموا وجعل للكلام الذي رخص فيه حدوداً.

منها ألا يكون كذباً، وألا يكون غيبة، وألا يكون تشهيراً وتسقيطاً، وألا يكون همزاً ولمزاً، وألا شتماً ولعناً.

وهذه هي الحدود التي رسمها الله تعالى للناس في الكلام.

ففي الكلام إذن واجبات وفرائض وحدود ومحرمات.

والدين هو مجموعة (الفرائض) و(الحدود) التي أمر الله تعالى بها الناس ونهاهم عنها.

وقد بين الله تعالى لنا في كتابه طائفة مما فرضه على العباد ومما حرمه عليهم. يقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[34].

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}[35].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[36].

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}[37].

وعن المحرمات يقول تعالى:

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[38].

11 ـ شمولية الحدود والفرائض. وتشمل الفرائض والحدود الإلهية كل ما يحتاجه الإنسان في تكامله وحركته إلى الله.

وما من شيء يقرب الإنسان إلى الله، ويبعده عن (الأنا) و(الهوى)، إلاّ وقد شرعه الله تعالى لعباده فيما شرع لهم من الحدود والفرائض.

عن أبي جعفر الباقر “ع”، قال: <قال رسول الله “ص” في خطبته في حجة الوداع: أيها الناس، إتقوا الله، ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار، إلاّ وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به>[39].

12 ـ منطقة الرخصة والتقوى ومنطقة الحظر: إذن مساحة الحياة تنشطر إلى منطقتين: منطقة (الرخصة)، ومنطقة (الحظر).

ومنطقة الرخصة: هي المساحة التي أباحها الله تعالى لعباده وحللها لهم، من الأكل والشرب والزواج والتمتع بالطيبات والتجارة والسياسة والرياضة والعلاقات الاجتماعية وما يتصل بذلك.

ومنطقة الحظر: هي المنطقة التي حرمها الله تعالى ونهى عنها، كالربا والفحشاء، والغيبة، واللهو المحرم، والظلم، والعدوان، وأكل الميتة ولحم الخنزير، وشرب الخمر، والخيانة، والغش، وما يشبه ذلك مما حرمه الله.

13 ـ خصائص المنطقتين: ولكل ما هاتين المنطقتين خصائص وآثار في حياة الإنسان، وهذه الخصائص والآثار تعم الدنيا والآخرة.

والله تعالى يقول عن آثار العيش في منطقة الرخصة والتقوى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[40].

ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}[41].

وعن علي “ع”: <لو حفظتم حدود الله لعجل لكم من فضله الموعود>[42].

وعن العيش في منطقة الحظر يقول تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}[43].

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[44].

{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[45].

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1]ـ المزمل: 9.
  • [2]ـ الأنعام: 164.
  • [3]ـ الجاثية: 36.
  • [4]ـ الحديد: 2.
  • [5]ـ النور: 42.
  • [6]ـ البقرة: 29.
  • [7]ـ لقمان: 20.
  • [8]ـ إبراهيم: 32 ـ 33.
  • [9]ـ النحل: 14.
  • [10]ـ الملك: 15.
  • [11]ـ البقرة: 60.
  • [12]ـ البقرة: 168.
  • [13]ـ المائدة: 5.
  • [14]ـ النساء: 3.
  • [15]ـ المائدة: 90.
  • [16]ـ البقرة: 173.
  • [17]ـ النساء: 23.
  • [18]ـ البقرة: 278.
  • [19]ـ الأنعام: 120.
  • [20]ـ البقرة: 229.
  • [21]ـ الطلاق: 1.
  • [22]ـ النساء: 14.
  • [23]ـ وسائل الشيعة 15: 239 ح14.
  • [24]ـ النساء: 14.
  • [25]ـ بحار الأنوار 2: 170 ح6 عن المحاسن 1: 272 ح371.
  • [26]ـ المحاسن للبرقي 1: 273 ح372.
  • [27]ـ المصدر نفسه ح373.
  • [28]ـ المصدر نفسه ح383.
  • [29]ـ البقرة: 43.
  • [30]ـ البقرة: 183.
  • [31]ـ آل عمران: 97.
  • [32]ـ آل عمران: 104.
  • [33]ـ التوبة: 41.
  • [34]ـ البقرة: 178.
  • [35]ـ البقرة: 180.
  • [36]ـ البقرة: 183.
  • [37]ـ البقرة: 216.
  • [38]ـ الأنعام: 151 ـ 152.
  • [39]ـ المحاسن للبرقي 1: 278 ح399.
  • [40]ـ الطلاق: 2 ـ 3.
  • [41]ـ الأعراف: 96.
  • [42]ـ عيون الحكم والمواعظ: 417.
  • [43]ـ النساء: 14.
  • [44]ـ الطلاق: 1.
  • [45]ـ البقرة: 229.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى