ثقافة

القبول والجزاء في القرآن – الإحسان في الجزاء

عرفنا في الفقرة الثانية معنى (العدالة في الجزاء) وهو القانون والسنّة الإلهية في العلاقة بين العمل والجزاء، وهو ما نريده من العدالة، حتى لو كان الجزاء أضعاف العمل أضعافاً مضاعفة.

و(الإحسان) في الجزاء فوق (العدالة).

والله تعالى يتعامل مع عباده بالإحسان، يغفر لمن يشاء ما يشاء من السيئات، ويضاعف لمن يشاء ما يشاء من الحسنات.

أما في الحسنات: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ}([1]).

وأما الإحسان ففي الزيادة، وذلك قوله تعالى: {وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ}، وجزاء الحسنى بالحسنى هو حد العدالة في الجزاء، وذلك قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى}.

وأما في السيئات: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([2]).

وهو إحسان وعدل، ويقدم الله الإحسان على العدل {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ}، وهو من الإحسان،{وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}، وهو من العدل، ومغفرته وإحسانه قبل عدله.

يقول تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}([3]).

إن من يطلب بعمله حرث الآخرة، يعطه الله في الآخرة حصاد حرثه ويزد له في ذلك.

وحصاد الحرث ـ بطبيعة الحال ـ أضعاف الحرث، وهو يدخل في حد القانون والعدل والإحسان فوق ذلك، وهو قوله تعالى: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}.

وفي نفس السورة: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}([4]).

وقد تكرر في القرآن قوله تعالى: {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}([5]).

وهذه الزيادة هي الإحسان، وهو فوق العدل تأملوا في هذه الآية من سورة فاطر: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}([6]).

الجزاء الأوفى

الجزاء الوافي بالعمل هو الجزاء الذي يغطي كل العمل، وهذا هو (الوفاء)، وهو مقابلة الجميل بالجميل، وهو الذي لابد منه، وخلافه ظلم.

ولكن الله تعالى يتعامل مع عباده بأكثر من العدل وهو الإحسان، فيفي لعباده بما يضاهي ويكافئ أعمالهم، وهذا هو الوفاء والعدل، ويزيدهم عليه، وهو من الإحسان. يقول تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}([7]).

وهذه الزيادة على الوفاء تنقل الجزاء من (العدل) إلى (الإحسان) وهو الجزاء بالأوفى، يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}([8]).

مضاعفة الجزاء

في الحسنات يضاعف الله تعالى أجر المحسنين. وهذه من معارف القرآن. يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}([9])، {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}([10]).

{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([11]).

وقد وعد الله تعالى المؤمنين إذا آمنوا واتقوا أن يؤتيهم أجرهم كفلين (نصيبين) و(حصتين)، ويرزقهم نوراً يمشون به في الدنيا، ونوراً يضيء لهم المسار في المحشر.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

وقد قال المفسرون: إن المقصود بـ {كِفْلَيْنِ}: أن الله يؤتهم إزاء إيمانهم وعملهم أجرين، أجر من آمن بأنبياء السلف^ وأجر من آمن بخاتم الأنبياء (ص)، ويمكن أن يكون المعنى: أجراً في الدنيا وأجراً في الآخرة.

والآية عجيبة، تستوقف الإنسان طويلاً بين يدي رحمة الله الواسعة:

1 ، 2 ـ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ.

3 ـ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ.

4 ـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

وفي سورة (القصص: 54): {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ}.

وفي سورة الأنعام: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}([12]). إن أمر الجزاء بالحسنى موكول إلى الله تعالى، وهو جواد كريم.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ يونس: 26.
  • [2] ـ البقرة: 284.
  • [3] ـ الشورى: 20.
  • [4] ـ الشورى: 23.
  • [5] ـ البقرة: 58 ، والأعراف: 161.
  • [6] ـ فاطر: 29 ـ 30.
  • [7] ـ النساء: 173.
  • [8] ـ النجم: 39 ـ 41.
  • [9] ـ النساء: 40.
  • [10] ـ البقرة: 245.
  • [11] ـ البقرة: 261.
  • [12] ـ الأنعام: 160.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى