ثقافة

القبول والجزاء في القرآن – العدالة في الجزاء

الأصل الثاني عدالة الجزاء ودقة الحساب يوم القيامة، فيرى الإنسان عمله في ذلك اليوم العسير حتى لو كان بمقدار مثقال ذرة، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

ومن يعمل سوءاً يجزَ به يوم القيامة، يقول تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}([1])، {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}([2])، {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([3])، {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}([4]).

ومن يعمل حسنة يجز بها، يقول تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}، ولكل ما كسب من خير وشر، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}([5]).

ويوفّي الله تعالى كل إنسان عمله، من خير أو شر، {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}([6]).

ولا يحمل فرد إثم فرد آخر، ولا تحمل أمة إثم أمة أخرى، وكلّ يأتي يوم القيامة حاملاً وزره على ظهره، له ما كسب وعليه ما اكتسب.

يقول تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}([7]).

{فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ}([8])، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([9]) ، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}([10])، {قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}([11]).

وليس في الجزاء والحساب يوم الحساب ظلم، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}([12])، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}([13]).

والعدالة في الجزاء كل ما يكسب الإنسان من خير أو سوء، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}([14])، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ}([15]).

وليس معنى عدالة الجزاء المساواة بين العمل والجزاء، وإنما التكافؤ بين العمل والجزاء، فإن علاقة العمل بالجزاء من نوع العلاقة الموجودة بين الحرث والحصاد، والزرع يحصد ما يحرث، والحصاد والحرث من مقولة واحدة. فإن حرث خيراً يحصد خيراً، وإن حرث شراً يحصد شراً، ولكن العلاقة بين الحرث والحصاد هي التكافؤ ووحدة السنخية، وليس التساوي والمماثلة الكمية.

وتعبير القرآن عن العمل بـ (الحرث) تعبير دقيق ومعبّر، فإن القرآن يقسم العمل إلى نوعين: حرث الدنيا، وحرث الآخرة، ويقصد القرآن بـ {الدُّنْيَا}: العمل الذي يقوم به الإنسان لدنياه، ويقصد بـ {حَرْثَ الآخِرَةِ} العمل الذي يقوم به الإنسان لآخرته، فهما نوعان من الحرث ولكل منهما حصاد.

يقول تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}([16]).

ويضرب الله تعالى لنا مثلا في كتابه عن علاقة العمل بالجزاء، عندما يكون العمل من نوع حرث الآخرة، كما لو أنفق الإنسان ماله في سبيل الله كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([17]).

وهذا المثل يتطابق تماماً مع العلاقة القائمة بين الحرث والحصاد، وهذه هي العلاقة الموجودة بين العمل والجزاء.

إذن عدالة الجزاء لا تعني المساواة والمماثلة الكمية بين العمل والجزاء، وإنما العدالة في الجزاء بمعنى المكافأة ووحدة السنخية، كالعلاقة بين الحرث والحصاد.

وهذه العلاقة الطبيعية هي (القانون) و(سُنّة الله) في علاقة الحصاد بالحرث، وهذا القانون هو العدالة، حتى لو كان الحصاد أضعاف الحرث بسبعمائة مرة، كما في سورة (البقرة: 261). وهذه هي العدالة الإلهية في الجزاء.

ومرحلة الإحسان ما وراء ذلك، ولذلك ـ والله أعلم ـ جاء قوله تعالى: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، بعد بيان القانون الإلهي العادل في المثال السابق: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ}.

وهذا هو حدّ العدالة في الجزاء حتى وإن كان الجزاء أضعاف العمل بسبعمائة مرة، وبعد ذلك يأتي فضل الله وإحسانه، {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، ليخرج الجزاء من حد العدل إلى حد الإحسان.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ النساء: 123.
  • [2] ـ الأنعام: 160.
  • [3] ـ القصص: 84.
  • [4] ـ يونس: 52.
  • [5] ـ البقرة: 286.
  • [6] ـ هود: 111.
  • [7] ـ الأنعام: 164.
  • [8] ـ النور: 54.
  • [9] ـ البقرة: 134.
  • [10] ـ القصص: 55 ، الشورى: 15.
  • [11] ـ سبأ: 25.
  • [12] ـ البقرة: 281.
  • [13] ـ آل عمران: 25.
  • [14] ـ البقرة: 286.
  • [15] ـ آل عمران: 30.
  • [16] ـ الشورى: 20.
  • [17] ـ البقرة: 261.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى