ثقافة

القبول والجزاء في القرآن – الجزاء بالعمل

وهو أصل هام في القرآن في تحديد الجزاء، والقرآن يؤكد في مواضع متعددة أن الجزاء بالسعي والعمل. يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}([1]).

وهذه الآية الكريمة من سورة النجم تشير إلى حقائق ثلاث في الجزاء:

الحقيقة الأولى: أن الجزاء بالسعي في الدنيا، وليس يعطي الله تعالى الدار الآخرة اعتباطاً.

وليست الدار الآخرة بالتمني([2])، ولا بالأنساب، ولا بالمواقع في الحياة الدنيا، وإنما بالعمل. والدنيا دار عمل، والآخرة دار حصاد، وبقدر ما يسعى الإنسان أو يعمل في الدنيا يحصد ثمار عمله في الآخرة.

والحقيقة الثانية في هذه الآية: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}، فلا يفنى ولا ينفد سعي الإنسان من خير أو شرّ، وسوف يُقْدِم الإنسان على عمله في الآخرة فيراه حاضراً: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً}([3]).

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ}([4])، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}([5]).

فيرى الإنسان عمله حاضراً عنده في الآخرة، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}([6]).

فالعمل ـ إذن ـ لا يفنى خيراً كان أم شراً، وسوف يلقى الإنسان عمله حاضراً يوم القيامة، ويُقْدِم على عمله.. فيرى عمله حاضراً حتى لو كان بمقدار مثقال ذرة.

وهذه هي الحقيقة الثانية في آية النجم.

والحقيقة الثالثة: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}، والجزاء الأوفى هو الجزاء الزائد على الوفاء، والوفاء في الجزاء هو العدل وفوق العدل.

وآية النجم تفيد الحصر والحصر نفي وإثبات، فالآية تنفي أن يكون للجزاء سبب غير السعي، وتقرر أن السعي هو وحده الجزاء، وإلى هذا المعنى من الحصر يشير قوله تعالى:

{وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([7]).

{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([8]).

{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([9]).

ويسمي القرآن عمل الإنسان كسباً، وهو تعبير دقيق، فإن الإنسان يكسب عمله سواء كان عمله خيراً أو سوءاً.

فالعمل الصالح يكسب صاحبه الصلاح، وعمل السوء يكسب صاحبه السوء ثم يستوفي كل نفس ما كسب من العمل يوم القيامة، يقول تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}([10]).

يقول تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}([11])، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}([12]).

وهذا قانون شامل في القرآن، يشمل الأفراد والأمم.

يقول تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([13]).

وليس الجزاء يوم القيامة بالأنساب([14])..

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ}([15])، {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([16]).

وهذا هو قانون أصالة العمل والسعي.

وبمقتضى هذا القانون فالسعي والعمل هو الأساس والأصل في الجزاء يوم القيامة. وهو أصل هام في مقابل أماني أهل الكتاب الذين كانوا يتمنون أن لا يدخل الجنة إلاّ من كان يهودياً أو نصرانياً ولو لم يكن له عمل صالح.

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}([17]).

ويحاججهم القرآن: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}([18]).

فالله تعالى يرزق عباده الجنة بالعمل، لا بالأنساب ولا بالأماني.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ النجم: 39 ـ 41.
  • [2] ـ والدعاء والتضرع والإنابة إلى الله من مصاديق السعي والعمل. وآية النجم وسائر الآيات التي تحصر الجزاء في العمل لا تنفي الدعاء والإنابة والتضرع إلى الله.
  • [3] ـ الكهف: 49.
  • [4] ـ آل عمران: 30.
  • [5] ـ المزمل: 20.
  • [6] ـ الزلزلة: 7 ـ 8.
  • [7] ـ يس: 54.
  • [8] ـ الصافات: 39.
  • [9] ـ الطور: 16.
  • [10] ـ البقرة: 281.
  • [11] ـ البقرة: 286.
  • [12] ـ آل عمران: 25.
  • [13] ـ البقرة: 134.
  • [14] ـ ولا ينافي ذلك أن الذرية الصالحة المؤمنة تكسب ثواب صلاح الآباء، ويلحق الله تعالى الأبناء بالآباء في الجزاء.. وذلك لأن شرط هذا الإلحاق هو الإيمان والصلاح.
  • [15] ـ المؤمنون: 101.
  • [16] ـ الممتحنة: 3.
  • [17] ـ البقرة: 111.
  • [18] ـ البقرة: 94.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى