ثقافة

الإمام: الصراط

ولعل من أبلغ التعابير عن الصراط: أن الصراط هو الإِمام، فإن الصراط في الآخرة هو تجسيد للصراط المستقيم في الدنيا، والإِمام هو الواقع السلوكي للصراط المستقيم والتجسيد الحي الواقعي له.

فإن الصراط المستقيم في الدنيا نحوين من الظهور: ظهور في التعليمات والإحكام والحلال والحرام، وظهور آخر، في الواقع العيني لسلوك الإمام وتحرِّكه وتصرفه، فإن هذا السلوك يجسد بدقة الصراط المستقيم.

وفي إتباع (الإمام) يستطيع أن يهتدي الإنسان إلى الصراط المستقيم الهادي إلى الله تعالى.

روى الصدوق في معاني الأخبار عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبدالله الصادق “ع” عن الصراط، فقال: <هو الطريق إلى معرفة الله عزّوجلّ، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا، واقتدى بهداه أمرَّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلَّت قدمه عن الصراط في الآخرة فَتَردى في نار جهنم>[1].

ولابد في حياة الإنسان من هذين الأمرين معاً، ليهتدي إلى الصراط المستقيم: من الأحكام والحدود والتعليمات: (الكتاب) ومن التجسيد الواقعي الحي للكتاب، وهو (الإمام)، ولابد في حياة الإنسان من (الكتاب) و(الإمام) معاً، وهما مظهران للصراط المستقيم في حياة الإنسان.

ولا تكفي التوجيهات والتعليمات والحدود والأحكام التي يتكفل بها الكتاب، ما لم يتجسّد هذا الكتاب في حياة الناس بصورة واقعية، وفي حركة عينية.

وللإمام في حياة الناس دوران: دور القيادة ودور القدوة، وكلاهما ضروريان في توجيه الإنسان إلى الله تعالى، وهنا نتحدث نحن عن الدور الثاني، وهو دور القدوة والأُسوة.

إن الإمام (قدوة) للناس على الصراط المستقيم إلى الله. يَجِدُ فيه الناس صراط الله المستقيم، وتتحول فيه الأحكام، والحدود الإلهية، والضوابط، والقيم، والمفاهيم المُجرّدة إلى حركة واقعية في مضطرب الحياة وخِضَمِّ الصراع، وفي وسط الأهواء والمغريات، فتكتسب هذه القيم والأحكام والحدود قيمتها الحقيقية في وسط هذه العوامل المتصارعة على ساحة الحياة.

إن القيمة الحقيقة للتقوى تبرز عندما ينشطر الإنسان إلى شطرين متصارعين، شطر العقل يدعو الإنسان إلى الالتزام بحدود الله، وشطر للهوى يدعو إلى إتباع الهوى. فإذا أفرز هذا الصراع الداخلي (التقوى) وتَمَحَّضَ الورع في هذه المعاناة الداخلية الشديدة، فسوف تكتسب التقوى ويكتسب الورع قيمتهما الحقيقية.

وان قيمة الصبر فيما تفرزه المعاناة والابتلاء، وقيمة الحلم فيما تفرزه المقدرة والغضب، وقيمة الزهد فيما يفرزه إقبال الدنيا على الإنسان والسعة في المال، وقيمة التواضع فيما يفرزه السلطان… وإلا فلا قيمة للتواضع عند إنعدام السلطان، وللزهد في حال الفقر، وللصبر في أحوال اليسر والعافية، وللحلم عند الرضا، وللتقوى والورع في حالة ركود وخمود الغرائز… غالباً.

إن هذا الإِفراز الذي تحدثنا عنه هو كل قيمة هذه القيم، وإلا فإذا جردنا هذه القيم من هذا الوسط فلا تبقى لها ثمة قيمة كبيرة… غالباً.

وهذا الإفراز يتبلور من خلال حياة (القدوات الصالحة)، فتتحول من قيم مجردة إلى قيم ذات جاذبية في حياة الناس، وذلك أن الناس يرون في (القدوة الصالحة: الإمام) مرآة لأنفسهم، في صورتهم السويِّة، وفي حالة سلامة الفطرة واستقامتها، فإن الله تعالى خلق الناس جميعاً، على هذه الفطرة السوية، وإنما يشُطُّ من شَطَّ عن الصراط السوي، لا لعجز في تكوينهم الفطري، وإنما بسبب الاستجابة للأهواء والمغريات، فكل منا كان يمكنه أن يستقيم على الفطرة، وكل منا قد آتاه الله تعالى هذا الكنز العجيب من الفطرة، وآتاه الله تعالى هداه ورشده، لولا أنّه يستجيب لعوامل الهوى المغرية {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[2].

فنحن إذن نجد في القدوة الصالحة والإمام مرآة لأنفسنا ولفطرتنا في الوقت الذين نجد فيه الصراط الإلهي المستقيم… وهذا هو سر جاذبية (القدوة) و(الإمام) في حياة الناس.

ولعل ذلك من أهم الأسباب التي تستوجب العصمة في الإمام في الأنبياء وفي خلفائهم من بعدهم، فلابد من وجود الإمام في حياة الناس، ولابد أن يكون الإمام قدوة كاملة للصراط المستقيم، ولا يتم هذا الأمر، دون أن يكون الإمام معصوماً من الإِستجابة لعوامل الهوى والمغريات الضاغطة على النفس، ومن الخطأ والزلل والإِنحراف.

وفي القرآن الكريم إشارة واضحة إلى ضرورة هذه العصمة والمناعة من الانحراف والخطأ في إستجابة الله تعالى لدعاء عبده وخليله إبراهيم أبي الأنبياء “ع” يقول الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[3].

فنفى تعالى أن يكون الظالم أهلا للإمامة، وكل من يرتكب ذنباً فقد إرتكب ظلماً.

وإذا كان الإمام بهذا التوضيح، هو الصراط المستقيم في الدنيا، فإن ذلك يستتبع أن يكون الإمام هو الصراط في الآخرة، فإنَّ الصراط في الآخرة تجسيد للصراط المستقيم، كما أن الإمام في الدنيا تجسيد عملي للصراط المستقيم، وإتباع الإمام والاقتداء به هو المرور السليم على الصراط في الآخرة.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ أمالي الشيخ الطوسي: 44 ـ 45.
  • [2] ـ البلد: 8 ـ 10.
  • [3] ـ البقرة: 124.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى