ثقافة

النصيحة – تمحيص العلاقة وتخليصها

وهذا هو البعد الثاني للنصيحة. فلابد في النصيحة من أن تكون العلاقة خالصة و(ناصحة)، لا يشوبها مكر أو سوء، ولا تستبطن سوءاً أو شراً، وليس معنى ذلك أن لا يطلب الإنسان لنفسه نفعاً أو خيراً في العلاقة، فلا بأس أن يطلب الإنسان لنفسه في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خيراً ونفعاً، ولكن على أن لا تستبطن هذه العلاقة من الغش ما لا يظهر وما لا يبدو عليها.

فليس من النصيحة أن يتظاهر الإنسان بالخير والصلاح ويستبطن نية السوء أو المكر، أو يبرز جانب الصلاح والخير، ويخفي الجانب الآخر. وهذا هو الغش الذي يشبه النفاق أحياناً، والمكر والكيد أحياناً أخرى.

وقد روي أن رسول الله (ص) مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: >ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله.

قال (ص): أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا فليس منّا<([1]).

فالنصيحة هي إرادة الخير التي لا يشوبها الشر ولا تستبطن السوء.

و(النصيحة) بهذا المعنى هي الوجه الثاني للعلاقة ومرحلة متقدمة وعليا لتحكيم العلاقة وتمتينها بعد مرحلة السلام.

ويصح أن نقول: إن (السلام) يعتبر مرحلة تزكية العلاقة، وتطهيرها، وتجريدها من السوء، بينما تعتبر النصيحة مرحلة فوق هذه المرحلة، تتضمن إغناء العلاقة بالخير والمودة والتعاون والنصرة والإسناد، وبذلك فإن نسيج العلاقة في هذه الشبكة الواسعة (شبكة الولاء) يتكون من عنصرين أساسيين هما (السلام) و(النصيحة)، وتوجزهما هذه الكلمة المأثورة عن الإمام أميرالمؤمنين (ع) في صفة المتقين في (نهج البلاغة): (الخير منه مأمول، والشر منه مأمون)([2]).

فإن (السلام) هو أن لا يريد الإنسان الشر والسوء للآخرين و(النصيحة) أن يطلب الإنسان الخير لغيره.

دور السلام والنصيحة في تمتين العلاقة ووقايتها

وهذان العنصران يضعان العلاقة التي تربط الإنسان المسلم بالله ورسوله، وأوليائه، وبالآخرين من أبناء نوعه على أساس متين، فإن العلاقة عندما تعتمد هذين الأساسين تتنزه عن إرادة السوء بالآخرين، وتتشبع بإرادة الخير، وتصبح قوية ومتينة وأمينة، وتسلم من الضعف.

وفي نفس الوقت فإن هذين العنصرين يقيان العلاقة من السوء والاختلال في المجتمع وفي نفس الإنسان. فإن العلاقة عندما تقوم على أساس ضعيف تتعرض لعوامل الإخلال والإساءة والإفساد القائمة في المجتمع، وفي النفس، وتتأثر بسرعة بهذه العوامل، أما عندما تقوم العلاقة على أساس صحيح من (السلام) و(النصيحة)، وتتكون خيوط العلاقة منهما جميعاً، فإن العلاقة تقاوم إلى حد بعيد عناصر الإخلال والإفساد القائمة في النفس والمجتمع. ومردود سلامة العلاقة على الإنسان نفسه بصورة مباشرة وقوية، فإن العلاقة إذا سلمت سعد الإنسان وسلم واستقامت له حياته، وإذا فسدت العلاقة شقي الإنسان واختلت حياته، وأكثر شقاء الناس وعنائهم وعذابهم من فساد العلاقة، ولذلك يعطي الإسلام مثل هذا الاهتمام العجيب بأمر العلاقة، ويضع شبكة العلاقات الإنسانية ضمن هذا القانون المتكامل: قانون (الولاء)، بهذه الصورة.

و(النصيحة) (كالسلام) ليست أمراً كمالياً في بناء المجتمع الإنساني، وفي بناء شبكة العلاقات الإنسانية، وإنما هي في نظر الإسلام حاجة ضرورية لا يمكن أن يستغني عنها الإنسان، ومن دونها لا تستقيم حياته.

ولذلك تضافرت النصوص في الإسلام على وجوب النصيحة، وتحريم الغش، كما تضافرت على وجوب السلام وتحريم العدوان.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ روضة الكافي 5: 16، وبحار الأنوار 74: 244، والترغيب والترهيب 2: 71.
  • [2] ـ نهج البلاغة، خطبة 193.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى